لم تكن العرب تحفل بطرق القول ولا بمكانة القائل فـي الأدب إذا حصلت لها مؤانسة ومتعة مما يقال، فلم ينكر أدب لقلة أدبه ولا أديب لقلة مروءته، وإنما استصفوا من الأدب ما يمتعهم ويؤنس شظف عيشهم أو يلين حياتهم أو يأخذهم إلى عوالم من التخييل دنية أو قصية، وخير مثال على ذلك أن أبا الفرج الأصفهاني لما عزم على تخير أخبار وأشعار يؤنس بها أمراءه لم يعمل آلة إقصاء ولا تتبع نهجا يخرج عن الإمتاع ومراعاة أحوال المخاطب أو المتلقي، فقال: «فلو أتينا بما غني به شعر شاعر منهم ولم نتجاوزه حتى نفرغ منه، لجرى هذا المجرى، وكانت للنفس عنه نبوة، وللقلب منه ملة، وفـي طباع البشر محبة الانتقال من شيء إلى شيء، والاستراحة من معهود إلى مستجد.
وإذا كان هذا هكذا، فما رتبناه أحلى وأحسن، ليكون القارئ له بانتقاله من خبر إلى غيره، ومن قصة إلى سواها، ومن أخبار قديمة إلى محدثة، ومليك إلى سوقة، وجد إلى هزل، أنشط لقراءته وأشهى لتصفح فنونه». فلقد كان الرجل واضحا بينا فـي ميله إلى «أنس النفوس»، ونفوره من كتابة العبوس، وتقفـيه نهج تسلية الناس وإمالتهم إلى أهواء الكتاب وأمزجته. لا يطلب مؤلف الكتاب صدق القول، ولا يروي أخبارا وأشعارا وحكايات بغاية إحقاق الحق أو تلقف الوقائع من أفواه الرجال، وإنما هو يتقصد متلقيا يعمل على دفع الملل عنه. إضافة إلى ذلك، فإن كتبا عديدة فـي موروثنا السردي لم تكن الغاية منها التوثيق ولا تقصي الحقائق ولا نقل أقوال الرجال حملا صادقا، وإنما الغاية منها كانت الجمع بين «الإمتاع والمؤانسة» أو بين اللذة والإفادة. وقد تقبل القدامى هذا النهج فـي التأليف وأدركوا أنه داخل فـي باب الأدب.
ولقد تأسست لي فكرة من رحلتي الكتبية فـي التراث والحداثة، ومن اطلاعي على ما تيسر من كتب الأقدمين والأحدثين مفادها أن القدامى أكثر تحررا وحرية وفهما لطبائع النصوص من أصحاب زماننا ومن أبناء قروننا، فـي مختلف المجالات فقها ولغة وأدبا، فلقد روي عن ابن عباس فـي كتاب الكامل للمبرد أن عمر بن أبي ربيعة دخل عليه وهو غلام، «وعنده نافع بن الأزرق، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شعرا من شعرك؟ فأنشده هذه القصيدة حتى أتمها، وهي ثمانون بيتا. فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أتضرب إليك أكباد الإبل، نسألك عن الدين، ويأتيك غلام من قريش، فـينشدك سفها فتسمعه؟ فقال: تالله ما سمعت سفها. فقال: أما أنشدك: رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت/ فـيخزى وأما بالعشي فـيخسر. فقال: ما هكذا قال، إنما قال: فـيضحى وأما بالعشي فـيخصر.
قال: أو تحفظ الذي قال؟ قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها. قال: فارددها. فأنشده إياها كلها. فقال له نافع: ما رأيت أروى منك. وفـي بعض الروايات أن ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها، ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحا». هل هذه هي نفس الحضارة التي يدعو فـيها قراء لكتاب الأغاني إلى عدمه أو شطبه أو على الأقل تهذيبه وتطهيره وأسلمته؟ هل هذه هي نفس الحضارة التي تدعو إلى إعدام كتب لا حول لها ولا قوة غير أنها قامت على نقيض تصوراتهم المتشددة؟ كتابان توجها إلى محاكمة «كتاب الأغاني»، والعبث بمحتوياته، وتلقيه تلقيا خارجا عن دائرته، وهما كتاب أول كان فـي القرن العشرين(1988)، وهو كتاب «السيف اليماني، فـي نحر الأصفهاني، صاحب الأغاني» لوليد الأعظمي، الشاعر والكاتب والخطاط العراقي، والكتاب الثاني صدر سنة 1992 وعنوانه «جولة فـي كتابي (الأغاني) و(السيف اليماني)، للكاتب محمد مصطفى المجذوب، وهو أيضا شاعر ومؤلف له أثر وأتباع، فكيف لهؤلاء أن يقفوا موقفا رافضا مما كتبه الأصفهاني، والحال أن موقفهم لا يمكن أن يوسم بالجهل ولا بقلة معرفة الأدب وتاريخه؟ هي هيمنة الفكر الأيديولوجي، والاحتماء بثقب محدد ضيق منه يكون النظر فـي الأدب، الأدب فـي منظور هذه التصورات هو خادم للمعرفة الدينية ولسائدها الثابت.
ففـي كتاب محمد المجذوب يبدو لنا هذا الفكر العربي الحديث المتوجه إلى تنقية الكتب ومحاكمتها، فمما لا شك فـيه أن كتاب الأغاني ليس بالكتاب الشعبي، وليس أيضا بالكتاب الفاسد قيميا ولا أخلاقيا، وإنما هو مصدر موسوعي، ومرجع لأغلب الباحثين، وقد يخفـي ما يخفـي من باطن رؤية الكاتب، وهو أمر مشروع فـي الأدب جائز، وقد أشاد به القدامى وتقبلوه فـي نطاق أدبهم، ولم يلفظ، ولم ينكر، وإنما نقد من أبواب، فـيأتي من القرن العشرين قارئ للأدب ولتاريخه يسم الكتاب بسمات لا صلة لها بالعلم ولا بالمنهج العلمي، ويحاكمه محاكمات أخلاقية، اندفاعية، أهوائية، ويقسم فصول كتابه بناء على عناوين تظهر هذه المزاجية الأهوائية، وهذا التحامل الذي لا يستند إلى أرضية معرفـية أو ذائقة علمية، منها: «المنهج الشيطاني»، «من هنا تسلل الشيطان»، مؤلف الأغاني بمنظار الثقات»، «دسائس ومؤامرات»، «المدرسة الإبليسية»، «ألغام فـي أساس الدولة العباسية»، «الشهادة الفاضحة»، بمثل هذه المقاربات، وهذه المعالجات، وهذه الأدوات التي بها نقارب التراث ومدوناته يمكن أن نبني عقلا عربيا واعيا وواعدا؟ وهو يدعو إلى تظهير الكتاب وإعادة تنقيته من الشوائب التي يرى فـيها تحاملا على الإسلام وعلى تاريخه، أو صارت حكايات هارون الرشيد تضمر هجوما على الإسلام؟ كيف سطحنا الأمور، وصار تخييل أشخاص التاريخ، أو «الكذب» عليهم يدعو إلى الإخراج من الملة؟ يعاتب صاحب الكتاب محققيه الأجلاء أنهم لم يصرفوا جهودهم إلى تطهير الكتاب، وهي المسألة الأهم فـي منظوره! يقول: «»على أن المطلع على هذا المجهود المتكامل (مجهود التحقيق) لا يسعه إلا أن يتساءل أيضا: ألم يكن من حق هذا التراث على تلك اللجان الممتازة من كبار العلماء المسلمين وأدبائهم أن يوجهوا بعض هذا الجهد لتطهير الكتاب من هاتيك الشوائب التي دست على تاريخ الإسلام فشوهت الكثير من معالمه وسير أعلامه»، فهل نحن نقرأ كتاب الأغاني اليوم على أنه كتاب تاريخ، وهل ادعى صاحبه أنه يؤرخ؟ مع العلم أن أسانيد كتاب الأغاني مبنية بشكل متين ووثيق، وفعلا فإن الرجل اعتمد -على عادة العرب القدامى- أسلوب النقل من كتب سابقة. والحق أن صاحب كتاب «جولة فـي كتابي (الأغاني) و (السيف اليماني)» قد استند فـي بناء تهجمه على كتاب الأغاني على سند لاقى فـيه هواه، ووقع منه موقع الرضا، وهو ما ألفه «السيف اليماني، فـي نحر الأصفهاني، صاحب الأغاني»، الذي يقول فـيه: «وقد جمعت أطرافا من تلك المباحث اللئيمة الخبيثة دون استقصاء. ولو أنني استقصيت ما ورد فـي (الأغاني) من السقط والمعايب، والمخازي والمساوئ.
وكل منكر وقبيح، لصار لدي كتاب فـي المثالب (نعوذ لالله) ولكنني جمعت أطرافا منها، وعلقت عليها، وناقشتها، وكشفت عن المقاصد الخفـية للشعوبية، وأساليبها ومكرها ودهائها، وتسترها تحت ظلال الأدب، والسمر، والمؤانسة، والمذاكرة، والمحاضرة»، فمن العنوان نتنبه إلى هذه الرغبة فـي «نحر» الكتاب، والوقوف منه موقف الرفض واللفظ، وقد فتح صاحب الكتاب مؤلفه بشاهد منقول عن الخطيب البغدادي يسم فـيه الأصفهاني بأنه «كذب الناس، كان يشتري شيئا كثيرا من الصحف، ثم تكون كل روايته منها»، وهو أمر سليم ووسم دقيق، فأما الاستناد إلى الصحف والكتب فهو ثابت وهي سمة المرويات العربية، وأما الكذب، فهو ثابت، لأن الرجل أدخل فـي الأدب، وقديما قيل «أعذب الشعر أكذبه»، وحديثا قيل: «أعذب القصص أكذبه».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی الأدب فـی کتاب ابن عباس
إقرأ أيضاً:
خلى بالك.. هل الكتب الخارجية جزء من المصروفات التعليمية الملزم بسداها الأب؟
تزداد المعارك حول النفقات التعليمية مع بداية كل عام دراسى، ليتحول الصراع بين الزوج والزوجة حول من هو الملزم بالنفقات وتحديد المسئوليات الواجبة على الزوج، وأنواع النفقات وخصوصا المستحدثة من كتب خارجية ودروس خصوصية ومصروفات باص وزى مدرسى وغيرها، ويلجأ الطرفين إلى ساحات محاكم الأسرة لحسم النزاع القائم بينهما.. وخلال سلسلة (خلى بالك) نرصد أبرز الأخطاء التى إذا ارتكبها شريكى الحياة تهدد بفقدان حقوقهم الشرعية، ونرصد الإجراءات القانونية الصحيحة اللازم اتخاذها لاسترداد الحقوق المهدرة لطرفى النزاع القضائى حال تخلف أى من الطرفين عن سدادها.
- أقر قانون الأحوال الشخصية وجوب نفقة التعليم على الأب وتعليم أولاده الصغار ما يجب تعليمه.
- نفقة التعليم فى هذه الحالة نوع من حضانة ورعاية الأب الواجبة لأبنائه أى كانت حالته المالية، وتستحق نفقة الأولاد على أبيهم من تاريخ امتناعه عن الإنفاق عليهم، ومن ضمنها "مصروفات التعليم".
- القانون رقم 139 المعدل بأن الأب ملتزم بكافة مصاريف التعليم بداية من مراحل التعليم الإجبارى.
- لا يلزم الأب بإلحاق أبنه بالتعليم الخاص أو الأجنبى إلا إذا كانت حالته المالية تسمح بذلك.
- الأب ملزما بدفع المصاريف، وفقا للتعديل المستحدث بقانون الطفل رقم 12 لسنة 1999 بالقانون رقم 129 لسنة 2008، حيث أعطى الولاية التعليمية على الصغير "الحاق الصغير بالتعليم واختيار نوعه"، للحاضنة بدلا من ولی النفس.
- تشمل مصروفات التعليم ما لا يمكن تحصيل العلم بدونه وتدخل من ضمنها الدروس الخصوصية والكتب والمراجع الخاصة إذا ثبت الاحتياج لها.
- حال إذا كان لا يتسنى لطالب العلم الوصول إلى مدرسته أو جامعته إلا باستخدام وسيلة مواصلات خاصة إلتزم الأب بسداد أجرتها.
- الملابس المدرسية يلزم الآباء بأدائها وتدخل فى نفقة ملبس الصغير أيضا.
- إلحاق الابن بالتعليم يعد من واجبات الأب نحو أولاده طالما كان استعداد الصغير يسمح بذلك، بأن يكون الولد رشيدا فى تعليمه أن ذلك لا يتكرر رسوبه أو يثبت عدم انتظامه فى تحصيل العلم.
- قد يتيسر للأب الأنفاق على التعليم خلال فترة زمنية ثم يعسر الأب فيرتفع عنه الالتزام وعند الخلاف على ما تحقق به المصلحة الفضلى بشأن تعليم الصغير يرفع الأمر إلى رئيس محكمة الأسرة بصفته قاضيا للأمور الوقتية.
- تشمل الخطوات القانونية لتحصيل النفقات التعليمة للأبناء داخل محاكم الأسرة بإرفاق الأم المستندات الدالة على المصاريف المطلوبة دفعها للمدرسة عند رفع الدعوى، وشهادة ميلاد الطفل، ووثيقة الطلاق، أو وثيقة الزواج فى حال كانت ما تزال على ذمته، وتحريات تتضمن المبالغ المالية التى يتحصل عليها الزوج، ويقدم مصادر دخل الزوج الأخرى وممتلكاته.
مشاركة