لجريدة عمان:
2025-02-02@21:43:48 GMT

تطهير الكتب

تاريخ النشر: 31st, December 2024 GMT

لم تكن العرب تحفل بطرق القول ولا بمكانة القائل فـي الأدب إذا حصلت لها مؤانسة ومتعة مما يقال، فلم ينكر أدب لقلة أدبه ولا أديب لقلة مروءته، وإنما استصفوا من الأدب ما يمتعهم ويؤنس شظف عيشهم أو يلين حياتهم أو يأخذهم إلى عوالم من التخييل دنية أو قصية، وخير مثال على ذلك أن أبا الفرج الأصفهاني لما عزم على تخير أخبار وأشعار يؤنس بها أمراءه لم يعمل آلة إقصاء ولا تتبع نهجا يخرج عن الإمتاع ومراعاة أحوال المخاطب أو المتلقي، فقال: «فلو أتينا بما غني به شعر شاعر منهم ولم نتجاوزه حتى نفرغ منه، لجرى هذا المجرى، وكانت للنفس عنه نبوة، وللقلب منه ملة، وفـي طباع البشر محبة الانتقال من شيء إلى شيء، والاستراحة من معهود إلى مستجد.

وكل منتقل إليه أشهى إلى النفس من المنتقل عنه، والمنتظر أغلب على القلب من الموجود.

وإذا كان هذا هكذا، فما رتبناه أحلى وأحسن، ليكون القارئ له بانتقاله من خبر إلى غيره، ومن قصة إلى سواها، ومن أخبار قديمة إلى محدثة، ومليك إلى سوقة، وجد إلى هزل، أنشط لقراءته وأشهى لتصفح فنونه». فلقد كان الرجل واضحا بينا فـي ميله إلى «أنس النفوس»، ونفوره من كتابة العبوس، وتقفـيه نهج تسلية الناس وإمالتهم إلى أهواء الكتاب وأمزجته. لا يطلب مؤلف الكتاب صدق القول، ولا يروي أخبارا وأشعارا وحكايات بغاية إحقاق الحق أو تلقف الوقائع من أفواه الرجال، وإنما هو يتقصد متلقيا يعمل على دفع الملل عنه. إضافة إلى ذلك، فإن كتبا عديدة فـي موروثنا السردي لم تكن الغاية منها التوثيق ولا تقصي الحقائق ولا نقل أقوال الرجال حملا صادقا، وإنما الغاية منها كانت الجمع بين «الإمتاع والمؤانسة» أو بين اللذة والإفادة. وقد تقبل القدامى هذا النهج فـي التأليف وأدركوا أنه داخل فـي باب الأدب.

ولقد تأسست لي فكرة من رحلتي الكتبية فـي التراث والحداثة، ومن اطلاعي على ما تيسر من كتب الأقدمين والأحدثين مفادها أن القدامى أكثر تحررا وحرية وفهما لطبائع النصوص من أصحاب زماننا ومن أبناء قروننا، فـي مختلف المجالات فقها ولغة وأدبا، فلقد روي عن ابن عباس فـي كتاب الكامل للمبرد أن عمر بن أبي ربيعة دخل عليه وهو غلام، «وعنده نافع بن الأزرق، فقال له ابن عباس: ألا تنشدنا شعرا من شعرك؟ فأنشده هذه القصيدة حتى أتمها، وهي ثمانون بيتا. فقال له ابن الأزرق: لله أنت يا ابن عباس! أتضرب إليك أكباد الإبل، نسألك عن الدين، ويأتيك غلام من قريش، فـينشدك سفها فتسمعه؟ فقال: تالله ما سمعت سفها. فقال: أما أنشدك: رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت/ فـيخزى وأما بالعشي فـيخسر. فقال: ما هكذا قال، إنما قال: فـيضحى وأما بالعشي فـيخصر.

قال: أو تحفظ الذي قال؟ قال: والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه، ولو شئت أن أردها لرددتها. قال: فارددها. فأنشده إياها كلها. فقال له نافع: ما رأيت أروى منك. وفـي بعض الروايات أن ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها، ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحا». هل هذه هي نفس الحضارة التي يدعو فـيها قراء لكتاب الأغاني إلى عدمه أو شطبه أو على الأقل تهذيبه وتطهيره وأسلمته؟ هل هذه هي نفس الحضارة التي تدعو إلى إعدام كتب لا حول لها ولا قوة غير أنها قامت على نقيض تصوراتهم المتشددة؟ كتابان توجها إلى محاكمة «كتاب الأغاني»، والعبث بمحتوياته، وتلقيه تلقيا خارجا عن دائرته، وهما كتاب أول كان فـي القرن العشرين(1988)، وهو كتاب «السيف اليماني، فـي نحر الأصفهاني، صاحب الأغاني» لوليد الأعظمي، الشاعر والكاتب والخطاط العراقي، والكتاب الثاني صدر سنة 1992 وعنوانه «جولة فـي كتابي (الأغاني) و(السيف اليماني)، للكاتب محمد مصطفى المجذوب، وهو أيضا شاعر ومؤلف له أثر وأتباع، فكيف لهؤلاء أن يقفوا موقفا رافضا مما كتبه الأصفهاني، والحال أن موقفهم لا يمكن أن يوسم بالجهل ولا بقلة معرفة الأدب وتاريخه؟ هي هيمنة الفكر الأيديولوجي، والاحتماء بثقب محدد ضيق منه يكون النظر فـي الأدب، الأدب فـي منظور هذه التصورات هو خادم للمعرفة الدينية ولسائدها الثابت.

ففـي كتاب محمد المجذوب يبدو لنا هذا الفكر العربي الحديث المتوجه إلى تنقية الكتب ومحاكمتها، فمما لا شك فـيه أن كتاب الأغاني ليس بالكتاب الشعبي، وليس أيضا بالكتاب الفاسد قيميا ولا أخلاقيا، وإنما هو مصدر موسوعي، ومرجع لأغلب الباحثين، وقد يخفـي ما يخفـي من باطن رؤية الكاتب، وهو أمر مشروع فـي الأدب جائز، وقد أشاد به القدامى وتقبلوه فـي نطاق أدبهم، ولم يلفظ، ولم ينكر، وإنما نقد من أبواب، فـيأتي من القرن العشرين قارئ للأدب ولتاريخه يسم الكتاب بسمات لا صلة لها بالعلم ولا بالمنهج العلمي، ويحاكمه محاكمات أخلاقية، اندفاعية، أهوائية، ويقسم فصول كتابه بناء على عناوين تظهر هذه المزاجية الأهوائية، وهذا التحامل الذي لا يستند إلى أرضية معرفـية أو ذائقة علمية، منها: «المنهج الشيطاني»، «من هنا تسلل الشيطان»، مؤلف الأغاني بمنظار الثقات»، «دسائس ومؤامرات»، «المدرسة الإبليسية»، «ألغام فـي أساس الدولة العباسية»، «الشهادة الفاضحة»، بمثل هذه المقاربات، وهذه المعالجات، وهذه الأدوات التي بها نقارب التراث ومدوناته يمكن أن نبني عقلا عربيا واعيا وواعدا؟ وهو يدعو إلى تظهير الكتاب وإعادة تنقيته من الشوائب التي يرى فـيها تحاملا على الإسلام وعلى تاريخه، أو صارت حكايات هارون الرشيد تضمر هجوما على الإسلام؟ كيف سطحنا الأمور، وصار تخييل أشخاص التاريخ، أو «الكذب» عليهم يدعو إلى الإخراج من الملة؟ يعاتب صاحب الكتاب محققيه الأجلاء أنهم لم يصرفوا جهودهم إلى تطهير الكتاب، وهي المسألة الأهم فـي منظوره! يقول: «»على أن المطلع على هذا المجهود المتكامل (مجهود التحقيق) لا يسعه إلا أن يتساءل أيضا: ألم يكن من حق هذا التراث على تلك اللجان الممتازة من كبار العلماء المسلمين وأدبائهم أن يوجهوا بعض هذا الجهد لتطهير الكتاب من هاتيك الشوائب التي دست على تاريخ الإسلام فشوهت الكثير من معالمه وسير أعلامه»، فهل نحن نقرأ كتاب الأغاني اليوم على أنه كتاب تاريخ، وهل ادعى صاحبه أنه يؤرخ؟ مع العلم أن أسانيد كتاب الأغاني مبنية بشكل متين ووثيق، وفعلا فإن الرجل اعتمد -على عادة العرب القدامى- أسلوب النقل من كتب سابقة. والحق أن صاحب كتاب «جولة فـي كتابي (الأغاني) و (السيف اليماني)» قد استند فـي بناء تهجمه على كتاب الأغاني على سند لاقى فـيه هواه، ووقع منه موقع الرضا، وهو ما ألفه «السيف اليماني، فـي نحر الأصفهاني، صاحب الأغاني»، الذي يقول فـيه: «وقد جمعت أطرافا من تلك المباحث اللئيمة الخبيثة دون استقصاء. ولو أنني استقصيت ما ورد فـي (الأغاني) من السقط والمعايب، والمخازي والمساوئ.

وكل منكر وقبيح، لصار لدي كتاب فـي المثالب (نعوذ لالله) ولكنني جمعت أطرافا منها، وعلقت عليها، وناقشتها، وكشفت عن المقاصد الخفـية للشعوبية، وأساليبها ومكرها ودهائها، وتسترها تحت ظلال الأدب، والسمر، والمؤانسة، والمذاكرة، والمحاضرة»، فمن العنوان نتنبه إلى هذه الرغبة فـي «نحر» الكتاب، والوقوف منه موقف الرفض واللفظ، وقد فتح صاحب الكتاب مؤلفه بشاهد منقول عن الخطيب البغدادي يسم فـيه الأصفهاني بأنه «كذب الناس، كان يشتري شيئا كثيرا من الصحف، ثم تكون كل روايته منها»، وهو أمر سليم ووسم دقيق، فأما الاستناد إلى الصحف والكتب فهو ثابت وهي سمة المرويات العربية، وأما الكذب، فهو ثابت، لأن الرجل أدخل فـي الأدب، وقديما قيل «أعذب الشعر أكذبه»، وحديثا قيل: «أعذب القصص أكذبه».

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فـی الأدب فـی کتاب ابن عباس

إقرأ أيضاً:

إصدار جديد بالصينية.. جناح الأزهر بمعرض الكتاب يقدم كتاب «مقومات الإسلام» للإمام الطيب بـ 15 لغة

قدم جناح الأزهر الشريف بمعرِض القاهرة الدولي للكتاب لزواره كتاب "مقومات الإسلام"، بقلم فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، وذلك من خلال 15 لغة هي (العربية، الإنجليزية، الفرنسية، الألمانية، الإسبانية، الإندونيسية، الأردية، الفارسية، التركية، اليونانية، البشتو، العبرية، الإيطالية، السواحيلية، إضافة إلى اللغة الصينية التي أضافها مركز الترجمة لهذا العام 2025)، من إصدارات مركز الأزهر للترجمة.

المقصد من هذا الكتاب أن يكون وافيًا بمتطلبات الطالب الأزهري - أو الطالبة الأزهرية - في قضايا العقيدة والعبادة والتشريع والأخلاق، وهي المحاور الرئيسة التي يدور عليها ديننا الحنيف، ومن جهة أخرى فإن هذه الأبحاث كفيلة بأن تفتح الأبواب أمام القارئ الذي يريد مزيدًا من المعرفة والاستزادة من أمهات المصادر والمراجع التي ذُيلت بها الأبحاث في فصول الكتاب.

ويعني المؤلِّف بالمقومات: الأصول الكبرى التي ينبني عليها الإسلام كدين لا يقتصر فقط على بيان العقيدة والعبادات والأخلاق، بل يهتم اهتمامًا كبيرًا بالتشريعات التي تضبط حركة الفرد وسلوك المجتمعات، لتوجيهها أولًا نحو الغايات الأخلاقية الإنسانية العامة، ثم لمعرفة الحق في الاعتقاد، وفعل الخير في العمل ثانيًا، ومعرفة الحق وعمل الخير هما ركنَا مفهوم "السعادة" الحقيقية التي بعث من أجلها الأنبياء والمرسلون ونادى بها الحكماء وعقلاء الفلاسفة من قديم الزمان.

ويقول الإمام الطيب - في مقدمة كتابه - "إن غرضي من هذا الكتاب هو بيان هذا الدين الذي ظلمه الجهل به في الشرق والغرب، وتطاول عليه الكثيرون ممن لا يفهمونه.. .أقدم هذه الأبحاث حسبةً خالصةً لوجهه تعالى، لا تشوبها أية شائبة من عرَضِ الدنيا، وأرجو من المولى سبحانه وتعالى أن ينفع بها، على ما فيها من نقص وتقصير لا يخلو منهما عمل بشري في أي زمان أو مكان، فالكمال لله وحده".

ويشتمل الكتاب على أربعة فصول، الأول: "العقيدة" ويتناول مباحث الإلهيات والنبوات والغيبيات والسمعيات. الفصل الثاني: "العبادة" ويشتمل على معنى العبادة وحاجة الإنسان للعبادة وأقسام العبادات وأنواعها وخصائصها. فيما يتناول الفصل الثالث "التشريع" ويشرح المقاصد العامة للتشريع الإسلامي وأسس التشريع العامة وأطوار التشريع وأصوله. أما الفصل الرابع والأخير فهو تحت عنوان "الأخلاق في الإسلام" ويتناول معنى الخُلق والفرق بين الخُلق والسلوك والحكم الخُلقي ومكانة الأخلاق في الإسلام ومصدر الإلزام الخلقي في الإسلام وخصائص الأخلاق الإسلامية والمسؤولية والجزاء في الإسلام.

ويشارك الأزهر الشريف -للعام التاسع على التوالي- بجناحٍ خاص في معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ 56 وذلك انطلاقًا من مسؤولية الأزهر التعليمية والدعوية في نشر الفكر الإسلامي الوسطي المستنير الذي تبنَّاه طيلة أكثر من ألف عام.

ويقع جناح الأزهر بالمعرض في قاعة التراث رقم "4"، ويمتد على مساحة نحو ألف متر، تشمل عدة أركان، مثل قاعة الندوات، وركن للفتوى، وركن الخط العربي، فضلًا عن ركن للأطفال والمخطوطات.

مقالات مشابهة

  • آثاريون في معرض الكتاب يستعرضون "مراحل ازدهار الأدب والحكايات الشعبية بمصر القديمة"
  • دار الكتب: طرح نسخ محدودة من كتاب «مساجد مصر» في معرض الكتاب
  • دار الكتب تتيح نسخة نادرة من فهارس المخطوطات بمعرض الكتاب
  • تطهير قرية حلة ياسر عرمان يكتسب رمزيته في كتاب يوميات الحرب
  • معرض الكتاب يحتفي بترجمات "سليمان العطار" للأدب الأندلسي
  • كيلو الكتب بـ 100 جنيه.. سوق الأزبكية” يجذب القراء في معرض الكتاب
  • جناح الأزهر بمعرض الكتاب يقدم لزواره كتاب "أهل القِبْلَةِ كُلهم موحدون"
  • دار الكتب تناقش كتاب المراغي في معرض الكتاب
  • إصدار جديد بالصينية.. جناح الأزهر بمعرض الكتاب يقدم كتاب «مقومات الإسلام» للإمام الطيب بـ 15 لغة
  • بمعرض الكتاب| «جولة البطل الصغير».. كتاب جديد لـ مصطفى غنايم