اليقظة في وجه الاعتياد
تاريخ النشر: 31st, December 2024 GMT
مها الحجري
النفس البشرية، في فطرتها، لم تُخلق لتحمل هذا السيل الجارف من الفواجع والمآسي، إنها تهرب من قسوة الواقع إلى حيلة خفية، تُلبس بها الفظائع ثوب الألفة، لئلا ينكسر القلب تحت وطأة الألم..
ولكن ما تراه النفس راحة قد يكون الفخ الذي تُطفئ فيه جذوة إنسانيتها، فتتبلد مشاعرها، ويخبو غضبها، وتتحول إلى شاهدة باردة على ما لا يجوز أن يُرى إلا بالروح الثائرة.
إنَّ الاعتياد على المآسي هو القيد الذي يكبل الإنسان عن الفعل، فهو يغمس الظلم في كأس مألوفة، حتى لا يعود مرارها يستفز الذائقة ولا يُثير النفوس، ومن هنا كان لزامًا أن نجدد شعورنا بالغضب الشريف، ذاك الغضب الذي يُبقي فينا روح الإنسان الذي لا يرضى الدنية في حق أخيه ولا يقبل السكوت على الفجور في الحق.
ولا تُطلب هذه اليقظة برؤية المشاهد المؤلمة دائمًا، فقد يُثقل ذلك على القلب، وإنما يُطلب تجديد الإحساس عبر التأمل في الحياة كما ينبغي أن تكون حياة الطفل في داره آمنًا بين أهله، وحكايات الذين أحبوا وانتظروا بعضهم سنين وراء قضبان الظلم، وأحلام العائدين الذين حملوا مفاتيح بيوتهم في المنافي كأنها قطع من أرواحهم، في هذه الصور ترى النقيض الجلي لما يفعله الظلم، فيشتعل في قلبك الحزن لا قنوطًا، بل حزنًا يدفعك إلى رفض الاعتياد والمقاومة.
أما مقاومة الاعتياد، فهي مقاومة الموت البطيء للضمير، فهي اليقظة التي تُعيد للروح عنفوانها، وتزرع فيها الإباء الذي لا يرضى بأن يتطبع مع القهر، هي الصرخة التي تُبقيك إنسانًا حيًّا، يرى المأساة في حقيقتها، فيغضب لها غضبًا عاقلًا، ويمتلئ حزنًا شريفًا يُحركه نحو الحق، لا يجعله أسيرًا للألم.
وعلى من يقف بعيدا أن يُبقي عينيه مفتوحتين على الحقيقة، فلا يغض الطرف عن المأساة، ولا يدع الألم ينزلق بين سطور الأخبار كخبرٍ عابر تُطوى صفحته بلا أثر، إن دوي القصف، وأنين الجراح النازفة في غزة، ليس مجرد ضجيج في أذن العالم، بل هو نداءٌ مزلزل للضمائر الحية، يطالبها باليقظة والانتباه، تلك الدماء التي تسيل، لا يجوز أن تُختزل في أرقامٍ تُحصى لتُنسى، بل هي مشاعل تنير لنا الطريق إلى الإصرار على مقاومة الظلم، ورفض الانحناء أمام طغيان القوة.
غزة ليست مكانًا عابرًا في هذا العالم، بل هي فكرة تتجاوز الجغرافيا لتُصبح رمزًا خالدًا للإباء في وجه الطغيان، إنها لوحة إنسانية تتشابك فيها الألوان بين الظلم والأمل، بين الدمار والإصرار، هناك كل حجرٍ يحمل حكاية، وكل طريقٍ يروي قصصًا من التحدي، حيث يُكتب التاريخ بدماء الأبرياء وبصبر من لا يملك إلّا إرادته، غزة هي النداء الصامت الذي لا يحتاج إلى كلمات يُلقي بثقله على الضمائر ليوقظها، هي الامتحان الذي يُظهر من يقف مع الحق ومن يُشيح بوجهه عنه، إنها ليست فقط صراعًا مع آلة الحرب؛ بل مع الزمن الذي يُحاول أن يجعل الألم جزءًا من العادة، لكنها تبقى شاهدة على أنَّ الحق مهما بدا ضعيفًا، يملك من القوة ما يكفي ليصمد.
ليس المطلوب أن تُغرق نفسك في الألم حتى تفقد القدرة على الفعل؛ بل أن تجعل من الغضب نورًا يتقد في داخلك، ومن الحزن قوة تحرك ضميرك، لا تدع الاعتياد يسلبك إنسانيتك، فإنَّ الغضب الواعي هو الذي يُحيي القلوب، والحزن النبيل هو الذي يجعلنا نرفض الظلم ونقاوم الطغيان، كُن كالنار التي لا تكتفي بالاحتراق؛ بل تُنير الطريق أمام السائرين نحو الحق.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الذی ی
إقرأ أيضاً:
الاستجابة لله ورسوله
الاستجابة لله (عز وجل) صفة من صفات الأنبياء والمرسلين، والملائكة المقربين، والمؤمنين الصادقين، وهى دليل على صدق الإيمان، وقوة اليقين، يقول الحق سبحانه: «إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، ويقول الحق سبحانه: «إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ».
والاستجابة لله ورسوله حياة للقلوب، إذ يقول الحق سبحانه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ».
واستجابة المؤمنين لله ورسوله تكون استجابة تامة بسرعة الامتثال، والتسليم لأمر الله ورسوله، فى المكره والمنشط، واليسر والعسر، وبذلك يكون جزاؤهم عند الله عظيما، إذ يقول سبحانه: «الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ».
وأهل الاستجابة لله ورسوله هم أهل الإجابة، فمن استجاب لأوامر الله (عز وجل) ونواهيه فامتثل لما أمره الله به، وانتهى عما نهاه الله عنه، كان من عباد الله المخلصين الذين إذا دعوه أجابهم، وإذا سألوه أعطاهم، ولهم منه سبحانه وتعالى الحسنى وزيادة، إذ يقول الحق سبحانه: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».
ويقول سبحانه: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ»، ويقول سبحانه: «لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ».
وقد تحدث القرآن الكريم عن استجابة ربِّ العرش العظيم لأنبيائه ورسله وعباده الصالحين، إذ يقول سبحانه فى شأن نوح (عليه السلام): «وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ»، وفى شأن أيوب (عليه السلام): «وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ».
وفى شأن يونس (عليه السلام)، يقول: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِى الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِى الْمُؤْمِنِينَ»، وفى شأن زكريا (عليه السلام): «وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِى فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ»، وفى شأن عباد الله الصالحين يقول سبحانه: «وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ».
على أن إجابة الدعاء والاستجابة له مقرونة بطاعة الله (عز وجل)، وأكل الحلال، إذ لما سأل سعد بن أبى وقاص (رضى الله عنه) سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى مُستجاب الدعوة، فقال له النبى (صلى الله عليه وسلم): «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ».
وختاما نؤكد: أجب تُجب، استجب يُستجب لك، أعرض يُعرض عنك، فمن تعرف على الله (عز وجل) فى الرخاء كان الله فى عونه فى الرخاء، وعند الشدائد.
الأستاذ بجامعة الأزهر