بيروت- على أنقاض الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي على لبنان، تعيد بيروت إحياء روح الأعياد، متجاوزة الأحزان والخسائر التي ألمت بها، فقد استعادت أسواق وسط بيروت بريقها التاريخي لتصبح ملتقى للبنانيين من جميع المناطق، حيث تتقاطع فيها قصص الصمود والإصرار على الحياة.

ورغم ما أثقل المدينة من أزمات وكانت آخرها الحرب الإسرائيلية، ارتدت حلة العيد بزينة ميلادية متلألئة وأعلام لبنانية، وفي أسواقها القديمة اختفت ملامح الشحوب، ليحل مكانها مشهد نابض بالألوان والفرح، فالأشجار المضيئة والزينة البراقة أعادت الحياة إلى شوارعها، لتستعيد المدينة ملامحها البهيجة التي طالما افتقدتها.

يحيى شرف الدين يبيع في خيمته المنتجات البيتية والفلافل مسترجعا ذكريات ما قبل الحرب (الجزيرة) سوق البلد

وسط هذه الأجواء، عادت أسواق الميلاد أو ما يطلق عليها "سوق البلد"، لتسترجع تقليدا غاب لسنوات بسبب الأزمات الاقتصادية وبعدها جائحة كورونا، ليعيش الزوار تجربة متكاملة، بدءا من تذوق الأطعمة اللبنانية التقليدية وصولا إلى الاستمتاع بعروض فنية موسيقية وغنائية تقدمها فرق شبابية، ما يضفي على الأجواء حيوية مفعمة بالأمل.

في السوق، تنتشر الخيم المزينة التي تعرض منتجات لبنانية متنوعة: مؤن منزلية، مأكولات محلية، مشروبات، كتب، ملابس، وزينة العيد، كل زاوية تروي قصة صمود بيروت وإصرارها على إعادة الحياة إلى شوارعها وأزقتها.

إعلان

يروي يحيى شرف الدين -صاحب خيمة مشهورة بتقديم المنتجات البيتية والفلافل- للجزيرة نت تجربته في "سوق البلد" القديم، ويقول "سوق البلد محبوب من الجميع، ونحن مرتبطون به منذ تاريخ طويل، ورغم الظروف الصعبة يصر الناس على دعمنا.. هذا السوق كان دائما رمزا للاستمرارية في لبنان، نسأل الله أن يعم السلام وأن يهدي البال فهذا أكثر ما نرجوه".

وفي معرض حديثه عن المنتجات التي يقدمها، يشرح شرف الدين "نحن نحرص على تقديم أفضل المنتجات، مثل المعكرونة الطازجة واللوزية، وهي من أطيب ما يصنع في جبل لبنان، لدينا أيضا أقراص بالتمر ومنتجات صحية تلبي احتياجات من يفضلون الخيارات الخالية من السكر، مثل تلك المحلاة بالدبس أو العسل، ونسعى دائما لإرضاء جميع الأذواق".

ويستذكر شرف الدين فترات الحرب التي مرت على السوق قائلا "كانت أيام الحرب صعبة علينا جميعا، والخوف كان حاضرا دائما، لم يكن هناك أمان كامل، كنا نعيش تحت تهديد الغارات التي قد تضرب في أي لحظة".

السيدة إيمان: بيروت رغم جراحها تظل رمزا للأمل والصمود في أعيادها وأسواقها (الجزيرة) تحدٍّ وأمل

لا تقتصر قصص الصمود على أصحاب المحلات فقط، بل تشمل أيضا الأفراد الذين يحملون داخلهم إرادة لا تنكسر، ومنهم السيدة إيمان التي تعمل في حياكة الصوف وتبيع منتجاتها التي أعدتها خلال الحرب، وتشارك الجزيرة نت بقولها "بيروت رغم جراحها ترفض الانكسار، أعيادها تتحول في أسواقها إلى رسالة أمل وصمود، لتثبت مرة أخرى أن هذه المدينة قادرة على النهوض مهما كانت التحديات".

وتؤكد إيمان ذلك بقولها "نحن نؤمن بوطننا إيمانا عميقا"، وتضيف "كنا على يقين أننا سنعود إلى السوق، فحتى وإن دمرنا سنقف مجددا ونثبت للعالم أن كل مرة نحطم فيها، نعود أقوى".

وعن حركة البيع في السوق، تعلق بحيرة "الأوضاع صعبة على الجميع، لذا نحرص على تعديل أسعار البضائع لتكون مقبولة وفي متناول الجميع، موسم الأعياد والهدايا فرصة رائعة لنتبادل الفرح والدفء، ومن الجميل أن نكون يدا واحدة في هذه الظروف".

إعلان

وفي حين ينشغل الشيف ريكاردو داغر ببيع الخروب ودبس الخروب وصناعة الحلويات، يقول للجزيرة نت "أنا سعيد جدا، نشعر أننا نعود إلى الحياة بعد كل الدمار والخراب الذي عايشناه، نحن شعب يحب الحياة ولا شيء يمكن أن يوقفنا".

ويضيف "الحرب تركت أثرا كبيرا علينا، لكن اليوم نلاحظ حركة تجارية جيدة، الناس بدأت تشتري وهناك حركة نشطة في السوق، نتمنى أن تكون هذه الأعياد بداية لمستقبل أفضل".

زحمة الأعياد تنعش الحياة التجارية والاقتصادية في العاصمة بيروت (الجزيرة)

وفي زاوية صغيرة من السوق، يجلس مصطفى الحسن خلف طاولته البسيطة، التي امتلأت بقطع الصابون المصنوعة يدويا وأشكال الشمع المزينة، يروي قصته بابتسامة تخفي خلفها ألما عميقا "قبل الحرب، كنت أملك مصنعا صغيرا في النبطية جنوب لبنان، وكنت أصنع الصابون والزيوت الطبيعية، وأعيش حياة مستقرة مع عائلتي، لكن الحرب دمرت كل شيء: المصنع، المنزل، وحتى الأمان الذي كنا نعيشه".

ورغم ذلك، لم يستسلم مصطفى ويقول وهو يلمس بيديه إحدى قطع الصابون "بدأت من الصفر، في البداية كان الأمر صعبا، لكن العمل أعطاني سببا للتمسك بالحياة، كل قطعة أصنعها تحمل جزءا من روحي، وأعتبرها رسالة أمل بأننا نستطيع البناء من جديد مهما كانت الخسائر".

ويضيف بنبرة واثقة "السوق هنا ليس فقط مكانا للبيع، بل هو مساحة للتواصل والعودة إلى الحياة، الأجواء تعيد لي الإيمان بأننا قادرون على تجاوز أصعب المحن".

الشيف ريكاردو داغر: نحن شعب يحب الحياة ولا شيء يمكن أن يوقفنا (الجزيرة) الحياة تتجدد

من جهتها، تقول رانيا حمادة، القادمة من الهرمل إلى سوق بيروت، معبرة عن مشاعرها بعبارة تحمل شوقا لاستعادة أجواء الفرح والطمأنينة "نحتاج إلى لحظات من الفرح لنهدأ نفسيا قليلا، أتمنى أن يكون العام الجديد مليئا بالسلام والفرح والراحة".

وتضيف للجزيرة نت، وملامح وجهها تختلط بين الدمع والابتسام "لقد خسرت منزلي بالكامل في الحرب، ولم يتبقَّ أي أثر أو ملامح للبيت، لكن علينا أن نكون أقوياء ونصمد أكثر".

إعلان

وبينما كان كريم الأحمد يتجول في السوق، وهو القادم من صيدا في جنوب لبنان، بدت على وجهه ملامح مزيج من الحنين والتفاؤل، وقال للجزيرة نت وهو يتأمل الأضواء والزينة "بيروت هي مدينة الحياة، وأجواء السوق تعيد لي ذكريات الطفولة عندما كنا نأتي إليه للاحتفال، نحن بحاجة إلى هذه اللحظات التي تملأ الروح بالفرح وتعيد الأمل".

ثم تابع بابتسامة خفيفة "مررنا بالكثير من الصعاب، لكنني أؤمن أن الفرح هو جزء من المقاومة، رغم كل شيء، سنستمر في البحث عن الجمال في تفاصيل حياتنا".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات للجزیرة نت شرف الدین سوق البلد فی السوق

إقرأ أيضاً:

مصر وفرنسا بين شامبليون وماكرون.. طلاسم الهيروغليفية رموز الخلود والتواصل الحديث بشيفرات المستقبل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

حين وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في جامعة القاهرة، وألقى بجملته اللافتة: "مصر أقدم حضارات العالم وأكثر البلاد شبابًا وهذا هو التناقض الذي نراه اليوم في مصر فلديكم حضارة تحدث عنها شامبليون، وهناك مصري من كل اثنين يقل سنه عن ٢٥ عاما"، لم يكن يصف مفارقة عابرة، بل كان يلتقط جوهر الجاذبية الفرنسية تجاه مصر: بلدٌ تضرب جذوره في أعماق التاريخ، وينبض حاضره بطاقة شابة تتطلع إلى المستقبل. 
فبينما يواصل العلماء الفرنسيون فَكّ أسرار المقابر الفرعونية، ينشغل شباب مصر بفك شيفرات الذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال. ومهما اختلفت الشيفرات، يبقى الحوار قائمًا بين حضارتين، بين بلد يرى في مصر مرآة ماضيه وصورة لمستقبله.
ومنذ أن فك الفرنسي جان فرانسوا شامبليون طلاسم حجر رشيد، لم تهدأ جذوة الشغف الفرنسي بالحضارة المصرية. لكن هذا الشغف لم يبقَ حبيس المتاحف والمعابد، بل تحوّل إلى علاقة متجددة، تبحث في مصر القديمة عن رموز الخلود، وفي مصر الحديثة عن نبض المستقبل.
وتعود العلاقة العميقة بين فرنسا ومصر إلى حملة نابليون بونابرت عام 1798، والتي وإن كانت عسكرية في ظاهرها، إلا أنها وضعت بذورًا علمية وثقافية لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم.. فقد رافق الحملة علماء وفنانون، ألفوا موسوعة "وصف مصر"، ثم جاء الاكتشاف الحاسم: حجر رشيد، الذي مهد الطريق أمام شامبليون لفك رموز الكتابة الهيروغليفية عام 1822، ليولد ما يُعرف اليوم بـ "علم المصريات".
منذ ذلك الحين، أصبحت مصر القديمة عنصرًا دائم الحضور في المخيلة الفرنسية، ليس فقط في قاعات متحف اللوفر، بل في كتب الأطفال، وأعمال المسرح، وعروض الأزياء، والأفلام.
وفي هذا السياق، يقول عالم الآثار الفرنسي جان كلود جولفان: "لا يمكن لدارس أي حضارة ألا يتوقف أمام الحضارة المصرية القديمة".
وبالنسبة لفرنسا، تمثل مصر مزيجًا نادرًا من الغموض والخلود، أرضًا يعلو فيها الصمت المقدس فوق رمال الأهرامات، لكن ينبض فيها أيضًا شغف البحث والاكتشاف.
وقد دعمت فرنسا بعثات أثرية في الأقصر وسقارة وأسوان، وساهمت في ترميم معابد ومقابر، وأرسلت خبراءها لدعم ملفات تسجيل التراث المصري في اليونسكو.
ولكن، بينما تبحر فرنسا في دهشة الماضي، فإنها تلتفت أيضًا إلى واقع مصر اليوم.
فتصريح ماكرون بجامعة القاهرة لم يكن مجرد مجاملة، بل هو توصيف دقيق لمفارقة حضارية: كيف لبلد هو من أقدم كيانات التاريخ أن يكون شابًا بهذا الشكل؟ أكثر من 60% من سكان مصر تحت سن الخامسة والعشرين.
تلك الطاقة الشبابية الهائلة تطرح على العالم- وعلى فرنسا تحديدًا- أسئلة حول المستقبل، والتعليم، والثقافة، والهوية، بل وتحفز الشراكات بين الجامعات، والتبادل الثقافي، والمبادرات الرقمية بين البلدين.
وبين ماضي عتيق يتحدث الهيروغليفية ومستقبل يتحدث بلغة "أكواد البرمجة" فإن فرنسا لا ترى مصر فقط كحضارة منقوشة على جدران المعابد، بل كدولة تواجه تحديات معاصرة في الاقتصاد، البيئة، التكنولوجيا، والتعليم.
وكثفت باريس خلال العقد الأخير من مبادراتها الثقافية والتعليمية في مصر، مثل دعم المعهد الفرنسي، وتوسيع برامج المنح الدراسية، والمشاريع التنموية المشتركة في صعيد مصر وسيناء.
وفي هذا الصدد، يقول الكاتب الفرنسي روبير سوليه: "الحضارة المصرية غنية لا يضاهيها شيء".
ويبقى سؤال بسيط في كلماته عميق في إجاباته.. لماذا لا تزال مصر تثير فضول فرنسا بهذا الشكل؟. ربما لأن مصر ليست مجرد ماضٍ عظيم، بل حاضر غني بالتناقضات، ومستقبل لا يمكن التنبؤ بآفاقه.

مقالات مشابهة

  • الخطة جاهزة لمواجهة الرسوم الجمركية الأمريكية… إليكم خارطة الطريق التي ستحقق لتركيا أكبر المكاسب!
  • تحركات الدولار الجمركي في السودان منذ اندلاع الحرب: زيادات متواصلة تُفاقم الأزمة المعيشية
  • الأردن:مبيعات الشقق تتجاوز 7800 خلال 3 أشهر
  • تزامناً مع ذكرى الحرب الأهلية.. معرض حكيلي التفاعلي ينطلق في بيروت
  • تزايد المخاطر التي تهدد الاقتصاد الإسرائيلي.. احتمالات حدوث أزمة مالية ورادة
  • %104 رسومًا أمريكية على الصين.. أرباح «تداول» تتجاوز إعصار البورصات
  • سوريا تبدأ هيكلة بعثاتها الدبلوماسية وتعيد سفيريها من الرياض وموسكو
  • مصر وفرنسا بين شامبليون وماكرون.. طلاسم الهيروغليفية رموز الخلود والتواصل الحديث بشيفرات المستقبل
  • بنك ستاندرد تشارترد يدرس التوسع في أفريقيا بعد عمليات البيع
  • الحرارة تتجاوز الـ 36.. تعرف على درجات الحرارة المتوقعة اليوم