سامح قاسم يكتب: على الأرض السلام
تاريخ النشر: 31st, December 2024 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تعد شجرة الميلاد واحدة من أشهر الرموز التي تعكس بهجة الاحتفال بعيد الميلاد، وتزين المنازل في مختلف أنحاء العالم كل عام. لكنها ليست مجرد شجرة مزخرفة، بل هي رمز عميق يمتد جذوره إلى تاريخ طويل من التقاليد الدينية والثقافية، وقد تحولت مع مرور الزمن إلى رمز للسلام، والأمل، والمحبة، والوحدة.
إنّ وضع شجرة الميلاد فى المنازل فى ليلة ٢٤ من ديسمبر يرتبط مباشرةً باحتفالات الميلاد فى المسيحية، ويُعتقد أن الشجرة تمثل "شجرة الحياة" التي تُحيى الطبيعة وتعيد تجديدها. يقال إن التزيين بالأضواء هو إشارة إلى نور المسيح الذى جاء ليضيء ظلام العالم، بينما تمثل الزينة الملونة مثل الكرات والنجوم الزخرفية تجسيدًا لألوان الحياة المتنوعة وفرحتها.
احتلت شجرة الميلاد مكانة كبيرة فى الأدب والفن عبر العصور. ففي الأدب الغربي، تعد شجرة الميلاد رمزًا مكررًا فى العديد من القصص والقصائد التي تحتفل بالعائلة والوحدة. فمن قصص الأطفال الشهيرة مثل "هدايا الميلاد" إلى الروايات الكلاسيكية مثل تشارلز ديكنز وروايته ترنيمة عيد الميلاد، حيث تظهر شجرة الميلاد كرمز للإشراق والدفء فى الحياة العائلية.
أما فى الفن، فقد عبر العديد من الرسامين عن شجرة الميلاد بمختلف الأشكال والأنماط. فهى غالبًا ما تزين لوحات تصور الحياة المنزلية فى فصل الشتاء، حيث تكتسب الشجرة رمزًا للروح العائلية والوحدة. كما يُصورها الفنانون فى مشاهد دافئة تجسد لحظات التضامن بين أفراد الأسرة، وتعكس جمال الألوان المتناغمة التي تزين الشجرة.
بعيدًا عن الجوانب الدينية، أصبحت شجرة الميلاد رمزًا عالميًا يعبر عن السلام، والأمل، والوحدة. فالأضواء التى تزينها تُعتبر إشارات إلى السعي نحو السلام، والكرات الزخرفية تبرز التعدد والتنوع فى المجتمعات المختلفة. فى ظل العالم الذى يعانى من الحروب والصراعات، تُعتبر شجرة الميلاد فرصة لتوحيد الناس حول رمزية السلام والمحبة التي تجسدها.
من هذا المنطلق، تُظهر شجرة الميلاد أن السلام ليس مجرد غياب للحروب والصراعات، بل هو حالة من التعاون والتفاهم بين الناس، حيث يمكن للجميع أن يتحدوا فى إطار من المحبة والاحترام المتبادل. فى هذا السياق، تصبح الشجرة بمثابة دعوة عالمية لسلام شامل، يتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية، ويمتد ليشمل جميع شعوب الأرض.
وعلى مر العصور، سعى العديد من الشخصيات البارزة إلى نشر ثقافة السلام والعدالة فى مختلف أنحاء العالم، معتمدين على مبادئ الحوار، والتسامح، واللاعنف. هؤلاء الشخصيات كانوا بمثابة منارات فى عالم مليء بالصراعات، وقد ألهموا الأجيال القادمة لإحداث تغيير حقيقي فى المجتمعات. هؤلاء "دعاة السلام" قاموا بتسليط الضوء على القيم الإنسانية السامية، وفتحوا الطريق نحو عالم أكثر استقرارًا وأملًا.
غاندىكان المهاتما غاندى أحد أبرز الشخصيات فى تاريخ حركة السلام. وُلد غاندى فى الهند، وبرز بفضل نهجه الفريد فى تحقيق السلام، الذى اعتمد على مبدأ اللاعنف. كان يعتقد أن العنف لا يؤدى إلا إلى مزيد من الدمار، وأن قوة الحب والتسامح قادرة على إحداث تغيير عميق فى المجتمعات. وقد أثبت غاندى صحة هذا النهج من خلال قيادته لحركة استقلال الهند ضد الاستعمار البريطاني باستخدام أساليب سلمية مثل العصيان المدني والمظاهرات السلمية. غاندى كان يعتبر أن السلام ليس مجرد غياب للحرب، بل هو أيضًا تجسيد للعدالة والمساواة بين البشر.
مارتن لوثر كينجمارتن لوثر كينج الابن، القس الأمريكي الذى قاد حركة الحقوق المدنية فى الولايات المتحدة، كان أيضًا من أبرز دعاة السلام فى القرن العشرين. وُلد فى عام ١٩٢٩، وكرس حياته لمحاربة العنصرية والتمييز العرقى فى بلاده. مثل غاندي، تبنى كينج مبدأ اللاعنف فى نضاله ضد الظلم. أشهر خطاب له، يعبر عن رؤيته لعالم يسوده السلام والمساواة، حيث يتمتع جميع البشر بحقوق متساوية بغض النظر عن لون بشرتهم. لقد كانت رسالته تدعو إلى التضامن والعدل، وكانت تشدد على أهمية الحوار والتفاهم لبناء مجتمع خالٍ من الكراهية والعنف.
نلسون مانديلايُعد نلسون مانديلا، رئيس جنوب أفريقيا الأسبق، من أبرز الشخصيات التي تجسد النضال من أجل السلام. ناضل مانديلا طوال حياته ضد نظام الفصل العنصري الذى كان يعامل المواطنين السود فى جنوب أفريقيا بشكل غير عادل. ورغم سجنه الطويل الذى دام ٢٧ عامًا، ظل مانديلا متمسكًا بمبدأ السلام والمصالحة. وعندما تم تحريره من السجن، اختار أن يتبنى الحوار والمصالحة بين البيض والسود بدلًا من الانتقام. وقد أصبح رئيسًا لجنوب أفريقيا فى عام ١٩٩٤، وأسهم فى بناء مجتمع تعددي يسعى لتحقيق السلام بين جميع أطياف المجتمع.
إلينور روزفلت، زوجة الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، كانت من أبرز المدافعين عن حقوق الإنسان فى القرن العشرين. بعد الحرب العالمية الثانية، لعبت دورًا محوريًا فى صياغة الإعلان العالمى لحقوق الإنسان، الذى أصبح لاحقًا أساسًا للعديد من المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان. من خلال جهودها، سعت إلينور إلى تأكيد أن السلام لا يتحقق فقط من خلال غياب الحروب، بل من خلال ضمان حقوق الإنسان وحرياته الأساسية.
الأم تيريزاأما الأم تيريزا، الراهبة الكاثوليكية التي كرست حياتها لخدمة الفقراء والمرضى فى الهند، فقد كانت تجسد مفهومًا مختلفًا للسلام، وهو السلام الداخلي الذى يأتي من خلال خدمة الآخرين. ورغم قسوة الظروف التى كانت تواجهها، أظهرت تيريزا للعالم أن السلام يمكن أن يُبنى من خلال الأعمال اليومية البسيطة مثل العناية بالمحتاجين والمساكين.
ديزموند توتو، رئيس أساقفة كيب تاون فى جنوب أفريقيا والحائز على جائزة نوبل للسلام، كان من الداعين بقوة للمصالحة والعدالة. فى ظل النظام العنصري فى جنوب أفريقيا، كان توتو من المناهضين للفصل العنصري، وكان يدعو إلى السلام القائم على العدالة. بعد سقوط نظام الفصل العنصري، ساعد توتو فى تأسيس لجنة الحقيقة والمصالحة التي هدفت إلى معالجة الأضرار التى خلفها الفصل العنصري من خلال تسليط الضوء على الحقيقة والمصالحة بين الأطراف المتنازعة. كان يعتبر أن السلام لا يمكن أن يتحقق بدون مواجهة الماضي والتعامل معه بروح من التسامح.
كانت اليزابيث لويزا هوك، ناشطة فى حقوق الإنسان، قد بذلت جهودًا حثيثة من أجل تعزيز السلام عبر برامج إصلاحية فى السجون. كانت تهدف إلى إصلاح السجون وتحويلها من أماكن للعقاب إلى أماكن للتأهيل، حيث يتم تقديم الدعم النفسي والاجتماعي للسجناء. كانت تعتبر أن السلام يبدأ من داخل النفس الإنسانية، وأن العنف فى السجون لن يؤدى إلا إلى تفاقم الصراعات، وبالتالي يجب أن تكون هناك طريقة أفضل للوصول إلى السلام الداخلي للأفراد.
من أبرز المفكرين فى العصور الوسطى الذين تبنوا أفكارًا تدعو إلى السلام، كان توماس مورو، الفيلسوف الإنجليزي الذى ابتكر مفهوم "اليوتوبيا". فى كتابه "يوتوبيا"، تحدث مورو عن مجتمع مثالى يسوده السلام والعدالة والمساواة. كان يرى أن السلام لا يتحقق إلا إذا عاش الناس معًا وفقًا لمبادئ العدالة الاجتماعية والتسامح، وهو ما جعله من الدعاة الأوائل لنظرية السلام فى الفكر الغربي.
السلام ليس مجرد حالة ظرفية يتم تحقيقها بين الحين والآخر، بل هو قيمة إنسانية متجددة يجب أن تُزرع فى النفوس وتُرعى فى المجتمعات. كما أن شجرة الميلاد تمثل بداية جديدة فى العام، حيث يتجمع الناس للاحتفال بعيد الميلاد كدلالة على الأمل والتجدد، فإن دعاة السلام على مر التاريخ كانوا بمثابة "غصون" و"أضواء" تلك الشجرة، حيث زرعوا بذورًا من الأمل فى قلوب البشرية ليتمكنوا من مواجهة التحديات وتحقيق مجتمع يسوده التسامح والمحبة.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: سامح قاسم على الأرض السلام شجرة الميلاد ثقافة السلام فى المجتمعات شجرة المیلاد جنوب أفریقیا أن السلام من أبرز من خلال کانت ت التی ت
إقرأ أيضاً:
عبد السلام فاروق يكتب: قاسم أمين .. مشروع لم يكتمل !
في الثالث والعشرين من أبريل عام ١٩٠٨، رحل قاسم أمين، تاركًا خلفه إرثًا فكريًا يعتبر حجرًا أساسًا في مشروع النهضة المصرية. إن ذكرى رحيله ليست مجرد استعادة لسيرة رجل، بل هي إعادة تقييم لمسار ثقافي طموح، حاول أن يربط بين تحرير المرأة وتحرير الوطن، في زمن كانت فيه مصر تتأرجح بين استحقاقات الحداثة وثقل التقاليد.
التاريخ والسياق: حين تصبح المرأة مقياسًا لتقدم الأمة
ولد قاسم أمين في حقبة اتسمت بصراعٍ بين المشروع الاستعماري والرغبة في التحرر، وبين النزعة التقليدية ورياح التحديث. هنا، انبثقت أفكاره كجزء من حركة "النهضة" العربية، التي رأت في التعليم والإصلاح الاجتماعي مفتاحًا للخروج من التخلف. لم يكن أمين منظرًا منعزلًا، بل كان ابنا لرواد مثل محمد عبده، لكنه تميز بجرأة طرحه لقضية المرأة، معتبرًا أن "تقدم الأمم يقاس بمدى تقدم نسائها". في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، دعا إلى تعليم المرأة، وإصلاح التشريعات التي تكرس دونيتها، معتبرًا ذلك شرطًا لبناء مجتمع قادر على المواجهة الحضارية.
بين التحرير والاغتراب: إشكالية النموذج الغربي
لا ينكر المرء تأثر أمين بالخطاب الليبرالي الأوروبي، خاصة خلال دراسته في فرنسا، لكن قراءة نقدية لإرثه تظهر أنه سعى لـ"توطين" الحداثة، لا استنساخها. لقد رأى أن تحرير المرأة ليس تقليدًا للغرب، بل استعادة لدورها التاريخي في الحضارة الإسلامية، التي كانت -بحسبه -أكثر إنصافًا لها من الممارسات الاجتماعية في عصره. لكن يظل السؤال: هل كانت رؤيته نخبوية، محدودة بأفق طبقته؟ أم أنها خطوة ضرورية في سياق لم يكن يسمح بغير ذلك؟
جامعة القاهرة: الفكر كمشروع مؤسسي
لم تكن دعوات قاسم أمين مجرد شعارات؛ فقد كان أحد المؤسسين لجامعة القاهرة (١٩٠٨)، التي مثلت آنذاك حلمًا بتعليم يحرر العقل من الجمود. هنا، يتجلى ارتباطه العضوي بين الفكر والممارسة؛ فالتعليم - في نظره -أداة لتخريج جيل قادر على حمل لواء الإصلاح. ورغم رحيله المبكر قبل اكتمال المشروع، فإن الجامعة أصبحت رمزًا لتحالف العلم مع الوطنية.
التراث بين التقديس والتفكيك!
يأتي كتاب "تراث قاسم أمين" (إعداد عبد المنعم محمد سعيد، وتقديم المؤرخ الدكتور محمد صابر عرب وزير الثقافة الأسبق ) ليعيد إحياء هذا الإرث، ليس كـ "نصب مقدس"، بل كمادة للحوار. فالنقد اليوم لأفكار أمين يجب أن ينطلق من فهم سياقها التاريخي، دون إسقاطات معاصرة جائرة. فإذا كان بعض النقاد يرون في خطابه تبنيا لمركزية غربية، فإن آخرين يذكرون بأنه - ككل رواد النهضة - كان يعاني من إشكالية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وهي إشكالية لا تزال تلاحقنا.
اليوم، وبعد أكثر من قرن، لا تزال معركة تحرير المرأة - بكل تعقيداتها - مستمرة. فإذا كانت مصر قد قطعت أشواطًا في تعليم المرأة ومشاركتها السياسية، فإن قيودًا اجتماعية وقانونية ما تزال تذكرنا بأن مشروع أمين لم يكتمل. إن إعادة قراءته ليست استعراضًا للماضي، بل دعوة لاستئناف النقاش: كيف نحدث خطاب الإصلاح دون قطيعة مع الهوية؟ وكيف نصنع حداثةً لا تستورد حلولها جاهزة، بل تستلهمها من حوار حر بين التراث والواقع؟
هكذا يكون قاسم أمين - ككل المتنورين - حاضرًا في أسئلتنا، غائبًا عن إجاباتنا النهائية.
بين الحلم والواقع
لا تكتمل قراءة إرث قاسم أمين دون الغوص في التناقضات التي أحاطت بخطابه، والتي تجعله مرآة لعصر بأكمله. فإذا كان أمين قد حمل لواء تحرير المرأة، فإن سؤالًا جوهريا يظل عالقا: هل كان تحرير المرأة - في فكره - مشروعًا اجتماعيا شاملًا، أم مجرد أداة في معركة أوسع ضد الاستعمار وتخلف المجتمع؟ هنا تبرز ثنائية طالما لازمت خطاب النهضة: التحرير كغاية، أم كوسيلة؟
الثورة الهادئة
لم يكن تعليم المرأة - في منظور أمين - مجرد حق فردي، بل آلية لـ"إنتاج أمهات واعيات"، قادرات على تربية أجيال وطنية مناضلة. هذا الطرح يظهر إحدى الإشكاليات الكبرى في خطابه: فهو من ناحية يدعو لخروج المرأة من القيود، لكنه من ناحية أخرى يقيد دورها بـ"وظيفة أمومية" تخدم المشروع الوطني. أليس في هذا تناقض بين تحرير المرأة كذات مستقلة، واستعادتها كأداة في مشروع الذكورة الاجتماعي؟ يبدو أن أمين- كمعظم رواد عصره -وقع في فخ "الحداثة المقيدة"، حيث التحرير مشروط ببقاء الهياكل التقليدية للأدوار الاجتماعية.
الاستعمار والخطاب النسوي: تشابك تاريخي
لا يمكن فصل دعوات أمين عن السياق الاستعماري الذي عاش فيه. فالبريطانيون - آنذاك - روجوا لصورة "المجتمع المصري المتخلف" الذي يقهر المرأة، كتبريرٍ أخلاقي لاحتلاله. هنا، تحولت قضية المرأة إلى ساحة صراعٍ بين خطابين: خطاب استعماري يسيء استخدام الدعوة للتحرير كأداة هيمنة، وخطاب وطني يرفض التدخل الأجنبي لكنه يتبنى إصلاحًا داخليا. في هذا السياق، كان أمين يحاول المشي على حبل مشدود: انتقاد التقاليد دون الوقوع في أحابيل الخطاب الاستشراقي، والدعوة للتحرير دون إضفاء شرعية على المستعمر.
الدين والاجتهاد: حدود الإصلاح في فكر النهضة
على عكس ما يتصور، لم يكن أمين منفصلًا عن السياق الديني؛ فقد استند في حججه إلى اجتهادات إسلامية، معتبرًا أن التشريعات المجحفة بحق المرأة -مثل تعدد الزوجات - ليست من صميم الدين، بل نتاج عصور الانحطاط. لكن سقف اجتهاده ظل محكومًا بحدود عصره: فلم يطالب - مثلًا - بمساواة كاملة في الميراث، أو بإلغاء تعدد الزوجات جذريًّا، بل دعا لتقييده بشروط. هذا الموقف يطرح إشكالية العلاقة بين الفكر التنويري والمرجعية الدينية: هل كان أمين يؤمن بإمكانية التوفيق بينهما؟ أم أنه اضطر لاستخدام لغة الدين كـ"ورقة تبرير" لتقبل أفكاره في مجتمع محافظ؟
التراث النقدي: كيف قرأ اللاحقون سابقيهم؟
يقدم كتاب "تراث قاسم أمين" - كما حرره عبد المنعم محمد سعيد - فرصة لإعادة اكتشاف الرجل خارج إطار التمجيد أو الإدانة. فالنقاشات المعاصرة حوله تكشف انقسامًا بين من يرونه "بطلًا تأسيسيًّا" للنسوية العربية، ومن يتهمونه بتكريس النموذج الذكوري تحت غطاء التحرير. لكن هذه القراءات - برأيي - تفتقد للسياق التاريخي: فالأفكار لا تقاس بمعايير عصر لاحق، بل بمدى تقدمها النسبي على عصرها. صحيح أن خطاب أمين لم يخل من ثغرات، لكن جراءته في فتح ملف شائك - كالمرأة - كانت خطوة جريئة نحو تفكيك المُسَلَّمات.
المرأة اليوم: من تحرير الحقوق إلى تحرير الخطاب
بعد أكثر من قرن، نجد أن معركة أمين لم تنته، بل تحولت أشكالها. فمصر -رغم إنجازاتها في تعليم المرأة - لا تزال تعاني من فجوات قانونية وثقافية، مثل التحرش الجنسي، والتمييز في العمل، وخطاب الكراهية الذي يحاصر المرأة في الفضاء العام. يدفعنا هذا إلى التساؤل: هل كان فكر أمين - بتركيزه على التعليم والقانون - قاصرًا عن رؤية التعقيدات الاجتماعية التي تعيق التحرير الحقيقي؟ أم أن المشكلة تكمن في أن خطاب الإصلاح ظل حبيس النخب، دون أن يتحول إلى حركة شعبية جذرية؟
التنوير مشروع دائم
في النهاية، يبقى قاسم أمين رمزًا لإشكالية أكبر من شخصه: إشكالية المثقف التنويري في المجتمعات التي تتصارع فيها الهويات. فكما قال ماركيز: "الحياة ليست ما يعيشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره ليحكيه". لذا، فإن إعادة قراءة أمين اليوم ليست استعادة للماضي، بل محاولة لفهم كيف يمكن أن نستلهم جرأة السؤال في عصرنا، دون أن نقع في فخاخ اليقين المطلق.
إن تحرير المرأة - في عمقه - ليس قضية نسائية فحسب، بل قضية مجتمعٍ بأكمله؛ فما لم يتحرر الرجل من صورة "السيد" التي صنعتها التقاليد، وما لم تتحرر المؤسسات من هيمنة الخطاب الذكوري، ستظل دعوات التحرير - بكل أشكالها - ناقصة. وهنا يبرز سؤال أمين الخالد: كيف نصنع حداثتنا دون أن نكون ظلالًا لغيرنا؟