شهدت مدينة نيالا، عاصمة ولاية جنوب دارفور، موجة من العنف الوحشي الذي استهدف المدنيين من جميع الأعمار، خصوصًا النساء، في ظل النزاع المستمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع. توثق العديد من الشهادات الحية من الضحايا والمواطنين النازحين جريمة الاغتصاب والاختفاء القسري، بالإضافة إلى المجازر والتهجير القسري جراء القصف الجوي.

وتتصاعد هذه الانتهاكات في وقت لا يزال فيه السكان في مأساة، إذ تبقى العديد من الأسر مشردة ومنهكة جراء الأوضاع الأمنية المتدهورة. في هذا التقرير، نسلط الضوء على الشهادات المرعبة للنساء في نيالا، وكيف أثرت هذه الجرائم على حياتهن وحياة أسرهن، فضلًا عن ردود الفعل المحلية والدولية على هذه الانتهاكات

التغيير: كمبالا

“أغمي عليّ من الصدمة بعد أن وضعوا السلاح فوق رأس زوجي، حتى يأتي بالبنات لاغتصابهن، وكان الهدف من ذلك تشريدنا من منزلنا” هكذا تقول إحدى السيدات النازحات بمدينة نيالا التي أصبحت فارغة إلا من القليل من السكان.

العديد من سكان نيالا خاصة النساء كانوا يرغبون في العودة إلى منازلهم بعد حالة الاستقرار النسبي في المدينة عقب انسحاب الجيش من المدينة، ولكن حالات الاغتصاب وجرائم الخطف والسرقة وضرب الطيران أجبر الكثيرين علي البقاء في مناطق النزوح.

وفي أكتوبر2023 سيطرت قوات الدعم السريع علي رئاسة الفرقة “16” بمدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور بعد معارك طاحنة مع الجيش السوداني استمرت لشهور نزح خلالها الآلاف المواطنين من المدينة التي تعتبر الثانية في السودان من حيث عدد السكان بعد العاصمة الخرطوم حيث يقدر سكانها بـ 6 مليون مواطن نزح منهم أكثر من 4مليون بحسب تقارير محلية.

ووفقا لتقارير الأمم المتحدة، فإن هناك حوالي 6.7 مليون امرأة في السودان يحتاج إلى الخدمات بسبب العنف القائم على النوع بجانب نزوح 5.8 مليون امرأة داخليا وخارجيا نتيجة لسوء المعاملة.

حالات اغتصاب موثقة

المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام، أكد أنه وثق 125 حالة اغتصاب في ولايات شمال وجنوب وغرب دارفور نتج عن بعضها حالات حمل، واتهم جنود من الدعم السريع بارتكابها.

ووثق تقرير للمركز تعرض 14 امرأة و فتاة للاغتصاب في مدينة نيالا عاصمة ولاية جنوب دارفور، منهن 6 حالات حملن؛ بسبب عدم حصولهن على الرعاية الطبية، ثلاث منهن أُجريت لهن عمليات إجهاض.

ويقول المركز، إن عدد ضحايا الاغتصاب اللاتي خضعن لعمليات إجهاض في مدينة نيالا، أكثر مما تم الإبلاغ عنه بسبب وصمة العار.

وتتوقع المنظمات الحقوقية والإنسانية أن أعداد ضحايا العنف الجنسي المرتبط بالنزاع أعلى من المعلن بكثير، نظرًا لطبيعة المجتمع السوداني المحافظ وارتباط هذا النوع الجرائم بمسألة الشرف ووصمة العار.

تهجير قسري

تقول (م. ح) التي تسكن حي الجمهورية بمدينة نيالا بولاية جنوب دارفور في إفادتها لـ”التغيير” منذ بداية الحرب في 15 أبريل تعرضنا للذخائر الطائشة والدانات بالمنزل لكن ما تعرضنا له من قبل قوات الدعم السريع لا يوصف وفوق تصور العقل.

تضيف (م): “في إحدى ليالي الاشتباكات بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتحديدًا عقب صلاة العشاء، تسللت مجموعة من أفراد الدعم السريع إلى منزلنا عبر تسلق الحائط. واجههم زوجي عند دخولهما، لكنهم اتهموه بأنه ‘ابلداي’، وهو ما يعني ‘جياشي’. قاموا بضربه بقسوة وسط صرخات ونحيب بناتي. حينها وقفت إحدى بناتي أمامهم محاولة حمايته بنفسها، وطلبت منهم أن يضربوها بدلاً منه. في تلك اللحظة، توقفوا عن الضرب، لكنهم أمروا بإخراج البنات من المنزل”.

تضيف (م): “وقالوا لنا صراحة إنهم يريدون البنات، في إشارة إلى نيتهم اغتصابهن. لم أتحمل الموقف واندفعت بسرعة لحماية ابنتي، لكنهم أوقفوني وطالبوني بإخراج بقية البنات من الداخل فورًا. وضعوا السلاح على رأس زوجي وقالوا لي: ‘إما أن تخرجي البنات أو نقتله’. لم أستطع احتمال هذا التهديد وسقطت مغشيًا عليّ من هول الصدمة”.

تضيف (م): “عندما أفقت، علمت أنهم قد غادروا، لكنهم اشترطوا علينا أن نترك المنزل. أمهلونا حتى الصباح للمغادرة. لم يكن يهمني حينها سوى سلامة بناتي وزوجي. بالفعل، غادرنا منزلنا مكرهين ونزحنا خارج مدينة نيالا، ولم نستطع العودة مرة أخرى. لا يزال السكان الذين بقوا هناك يعانون من الانتهاكات والظروف القاسية.”

بدورها تقول (م، أ) لـ”التغيير”: “أسكن في حي الوادي غرباً بمدينة نيالا، وكنا في مرمى النيران. بعد ازدياد القصف، اضطررنا إلى مغادرة منزلنا والعودة بعد أيام. لكن حدة الاشتباكات تصاعدت، مما دفع أفراداً من الجيش السوداني إلى إخلاء النساء والأطفال جنوباً نحو المدارس لضمان سلامتهم.”

وتضيف (م.أ): “لاحقاً، قامت قوات الدعم السريع بإخراج الرجال من المنازل، وعندما نفد ما لدينا من مؤن وغذاء، عدنا إلى المنزل لأخذ بقية الأغراض والمواد التموينية. لكننا وجدنا أن قوات الدعم السريع قد احتلت منزلنا، وبدأوا يستفسرون منا عن أسباب العودة.”

وتتابع: “كررنا المجيء والذهاب عدة مرات، لكنهم في النهاية رفضوا أن نعود إلى المنزل. فكرت في العودة بأي طريقة لأخذ بقية أغراضي، لكن ما حدث لجارتي جعلني أتراجع عن الفكرة. فقد ذهبت هي وبناتها الثلاث إلى المنزل، ولكن، والله العظيم، اغتصبوهم جميعاً، الأم والبنات. حينها قررنا عدم العودة مرة أخرى. بعد انسحاب الجيش وسقوط المدينة في يد قوات الدعم السريع، وجدنا البيوت قد نُهبت بالكامل، حتى الأبواب والشبابيك تم خلعها. وإلى الآن، لم نستطع العودة.”

تقول “ف-ع” لـ”التغيير”: “كنا نسمع أن قوات الدعم السريع تغتصب النساء، لكنني لم أصدق، واعتقدت أنها مجرد شماعة يستخدمها البعض لعدم العودة إلى منازلهم القريبة من مناطق الاشتباكات. ولكن ما حدث معي لا يمكن وصفه”.

وتضيف: “بعد سيطرة قوات الدعم السريع على المدينة وهدوء الأوضاع الأمنية، قررنا العودة إلى منزلنا، رغم تحذيرات الجيران والأهل من خطورة قذائف الطيران وخطر الاغتصاب. كان معنا شقيقي الأصغر، وعند اقترابنا من المنزل، استوقفنا أفراد من قوات الدعم السريع وسألونا عن وجهتنا. أخبرناهم بأننا نريد العودة إلى منزلنا في حي المطار. عندها اعتقلوا شقيقي، واعتدوا علينا، واغتصبوا شقيقتي، موجهين لنا اتهاماً عنصرياً بأننا ‘فلنقايات الجيش'”.

وتتابع: “عاد شقيقي بعد شهرين، ولكنه كان مصاباً في ظهره بسبب كثرة الضرب، وما حدث لنا ترك أثراً لا يُمحى”.

ضد العنف الموجه

أصدرت جهات داخلية وخارجية بيانات عديدة تدين العنف المفرط ضد المدنيين، من بينها تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، التي شجبت بشدة المجازر البشعة التي تشهدها مدينة نيالا بين الحين والآخر.

وأشارت التنسيقية إلى أن القصف الجوي المكثف لطيران القوات المسلحة يستهدف الأسواق وعددًا من الأحياء السكنية، بما في ذلك حي الرياض، حي الخرطوم بالليل، وحي الوادي، ما أدى إلى سقوط عشرات الضحايا من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، إضافة إلى تشريد السكان من منازلهم.

وأكدت التنسيقية أن هذه الممارسات تشكل انتهاكًا جسيمًا لحقوق الإنسان وتفاقم الأوضاع الإنسانية في المدينة، داعية إلى وقف فوري للعمليات العسكرية وحماية المدنيين.

من جهته اتهم مصطفى محمد إبراهيم، مستشار قوات الدعم السريع، طيران الجيش السوداني بتهجير سكان مدينة نيالا، حيث قال في تصريحات صحفية إن الغارات الجوية المتكررة على المدينة أجبرت السكان على ترك منازلهم بعد أن أسفرت عن مقتل المئات وتدمير العديد من المنازل.

وفي تعليق على الاتهامات المتعلقة بالاغتصاب على الأساس العرقي، سخر إبراهيم من هذه الادعاءات، قائلاً إن هذه الاتهامات تُروّج من قبل إعلام “الكيزان” وصفحات “الفلول”. وأكد قائلاً: “من أراد معرفة الحقيقة عليه أن يأتي إلى دارفور ليستمع إلى روايات أهلها”.

حالات انتحار

كشفت منظمة تطوير المرأة، المعروفة بـ “زينب”، وهي منظمة تطوعية شعبية، عن توثيق 530 حالة انتحار للنساء بسبب الاغتصاب، بالإضافة إلى 1140 حالة اختفاء قسري نتيجة لنفس الجريمة.

وفي تصريح لـ”التغيير”، أكدت رئيسة منظمة تطوير المرأة (زينب)، فاطمة مصطفى أحمد، على ضرورة إطلاق حملات مستمرة لمناهضة العنف ضد المرأة. وشددت على أهمية تسليط الضوء على الانتهاكات والجرائم المرتكبة ضد النساء في سياق الحرب، مؤكدة على ضرورة اتخاذ جميع التدابير لإيصال أصوات الضحايا. وأضافت فاطمة أن ما تعرضت له المرأة في حرب السودان لم يحدث في أي حرب أخرى.

الوسومالجرائم والانتهاكات العنف المرتبط بالنزاع حرب الجيش والدعم السريع نيالا

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الجرائم والانتهاكات العنف المرتبط بالنزاع حرب الجيش والدعم السريع نيالا قوات الدعم السریع الجیش السودانی بمدینة نیالا مدینة نیالا جنوب دارفور العودة إلى لـ التغییر العدید من

إقرأ أيضاً:

أين بابا؟ رحلة المخاطر والالم بحثا عن مفقود لدى الدعم السريع

التغيير، كمبالا

منذ نوفمبر 2023، بدأت دكتورة فاطمة (اسم مستعار بناءً على رغبتها في عدم الكشف عن هويتها لدواعٍ أمنية)، وهي طبيبة، رحلة شاقة مليئة بالمعاناة بحثًا عن زوجها المفقود، المدير الطبي لمستشفى جبل أولياء، الذي اختفى بعد سيطرة قوات الدعم السريع على المنطقة، الواقعة على بعد 45 كيلومترًا جنوب العاصمة الخرطوم.

بدأت القصة عندما انقطع اتصال د. فاطمة بزوجها خلال حصار الدعم السريع لجبل أولياء، حيث بقي في المستشفى، يقدم الخدمات الطبية للمصابين وسط اشتباكات عنيفة.

تصف الزوجة في مقابلتها مع “التغيير” اللحظات الأخيرة التي سبقت اختفاء زوجها: “عندما دخل الدعم السريع جبل أولياء، حاصروا المنطقة بالكامل، زوجي ظل محاصرا في المستشفى من جميع الجهات أسبوعًا كاملًا، وكان يتأكد من خروج كل زملائه والمصابين بأمان. كان يتصل بنا ليطمئننا بأنه بخير، لكنه لم يجد طريقة آمنة للخروج بسبب كثافة الهجمات”.

وفي 20 نوفمبر 2023، انقطعت الاتصالات تمامًا. تقول فاطمة: “كنا نأمل أنه ربما يكون في الطريق أو قد وجد ملجأً مؤقتًا، فقد كان هناك أشخاص تمكنوا من الوصول إلى عائلاتهم رغم المسافات الطويلة”. لكنها تضيف: “مع مرور الوقت، بدأت هذه الآمال تتلاشى، وبدأت العائلة رحلة البحث المضنية. لم نكن نعلم ما إذا كان حيًا أم ميتًا، أو إذا كان معتقلًا”.

حاولت فاطمة البحث عن زملاء الدكتور الذين كانوا معه في المستشفى، “كان الجميع يؤكدون أنهم خرجوا قبله، وتركوه في المستشفى ليحاول إيجاد طريقة آمنة للخروج”. ومع انقطاع الاتصالات في المنطقة، تفاقمت المعاناة، حيث لم تتمكن العائلة من التواصل حتى مع أسرة زوجها الكبيرة في أم درمان.

محاولات البحث

لم تستسلم فاطمة وعائلتها رغم غياب المعلومات توجهت إلى المستشفيات القريبة، بمدني، المناقل، كوستي، ربك، ومستشفى الدويم والقطينة، بحثًا عن أي أثر لزوجها ضمن المصابين الذين تم إجلاؤهم من جبل أولياء، لكن دون جدوى.

مخاطرة كبيرة

قررت فاطمة خوض مخاطرة كبيرة والذهاب بنفسها إلى جبل أولياء في اواخر نوفمبر من نفس العام، رغم كل التحذيرات التي تلقتها عن خطورة الخطوة.

حينها كانت فاطمة أمًا لطفلة رضيعة تبلغ من العمر 7 أشهر، لكنها اضطرت إلى تركها مع والدتها، بدأت رحلتها من القطينة برفقة والدها، إلا أنها طلبت منه أن ينتظرها هناك خوفًا عليه. تقول: “لم يكن الوصول إلى المنطقة سهلاً. لم تكن هناك طرق ميسرة، فاضطررت إلى عبور النيل باستخدام معدية، ثم استقليت عدة وسائل نقل حتى وصلت إلى نقاط الارتكاز التابعة للدعم السريع”.

هناك، بدأت المواجهة. تضيف: “أوقفني الجنود وبدأوا بسؤالي عن سبب وجودي. أخبرتهم أنني أبحث عن زوجي، وهو طبيب مدني ولا علاقة له بالجيش”. ورغم محاولاتها لتوضيح موقفها، أُجبرت على العودة بعد أن أُبلغت بأن المنطقة خطرة وقد تتعرض للاعتقال.

أثناء عودتها، اعترضتها عناصر من الدعم السريع ووجهوا إليها اتهامات بأنها جاسوسة تتبع للجيش. بدأوا باستجوابها بشكل مخيف، قبل أن يقتادوها إلى الضابط المسؤول.

تقول فاطمة: “عندما سألني الضابط عن سبب وجودي هناك، أوضحت له بكل صراحة أنني أبحث عن زوجي، الطبيب المدني، وشرحت له أنه كان يعمل في المستشفى قبل أن نفقد الاتصال به، وأنني لا أعرف شيئًا عن مصيره”.

تضيف: “سألني الضابط إن كان لدي أطفال، وعندما أجبته بنعم، قال لي: هذه منطقة عمليات عسكرية، يمنع دخولها للمدنيين، خاصة النساء. عودي إلى أطفالك، وإذا كان زوجك موجودًا فسيظهر، وأن لم يكن فليتولَّه الله برحمته”.

لاحقًا، تفاجأت فاطمة بفيديو منتشر على وسائل التواصل الاجتماعي يظهرها مع تعليق “القبض على مستنفرة تتبع للفلول”. هذا الفيديو أثار قلق عائلتها ومعارفها، وزاد من معاناتها النفسية.

تصف الدكتورة هذه التجربة بأنها واحدة من أصعب اللحظات في حياتها، وتؤكد أن كل ما كانت تسعى إليه هو معرفة مصير زوجها.

بعد انتشار الفيديو الذي صوّرها على أنها “مستنفرة”، أصبحت فاطمة تعيش في حالة من الخوف على نفسها وعلى أسرتها، بعدما أصبحت معروفة لدى عناصر الدعم السريع. كانت تخشى أن يتم القبض عليها في أي مكان، وهو خوف امتد ليشمل أسرتها بالكامل، خاصة وأنهم كانوا يقيمون في منطقة معرضة لدخول قوات الدعم السريع في أي وقت.

معلومات متضاربة

في يناير 2024، وصلت أول معلومة تشير إلى أن زوجها قد يكون حيًا. تقول الدكتورة: “كان ذلك شعورًا لا يوصف. علمنا من أحد الناجين الذي اعتُقل مع زوجي لدى الدعم السريع أنه لا يزال حيًا. ورغم أن هذه المعلومة كانت نعمة، إلا أن رحلتنا للبحث عنه ازدادت صعوبة بسبب الأوضاع الأمنية المتدهورة”.

توالت المعلومات المتضاربة، حيث أشار البعض إلى أن زوجها شوهد في معتقل سوبا، وآخرون قالوا إنه يعمل في الوحدة الطبية هناك. لكن كل هذه المعلومات ظلت غير مؤكدة، والوصول إلى مصدر المعلومة كان شبه مستحيل بسبب ضعف الشبكة وصعوبة التنقل.

جاء خبر من شخص قال إنه شاهد الدكتور في مدينة الدويم، ولم يكن أمام د. فاطمة سوى التحرك على الفور بحثًا عن هذا الشخص، رغم صعوبة الظروف وغياب أي ضمانات. انطلقت برفقة والدها في رحلة شاقة، متنقلة بين ثلاث مدن: كوستي، ربك، والدويم. وعندما تمكنت أخيرًا من مقابلته في ربك، أخبرها أن ما حدث كان مجرد تشابه أسماء، وأنه لم يكن يقصد زوجها.

تصف د. فاطمة هذه اللحظة بأنها واحدة من أصعب ما مرت به، وتقول: “شعرت بخيبة أمل كبيرة بعد كل هذا الجهد والتعب”.

خطوات قانونية

في شهر مايو الماضي، قررت د. فاطمة اتخاذ خطوة جديدة في رحلة البحث عن زوجها، حيث فتحت بلاغًا رسميًا في قسم الشرطة بمدينة الدويم. كانت تلك المرة الأولى التي تتمكن فيها من التعامل مع جهة حكومية رسمية، بعد ما كانت تقيم في قرية تفتقر إلى مثل هذه الخدمات، توجهت إلى النيابة لتقديم البلاغ بشكل رسمي، إلا أن الاستجابة ظلت بطيئة.

تقدمت الزوجة كذلك ببلاغ للصليب الأحمر، بالإضافة إلى شكوى عبر المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام، للجنة الأمم المتحدة الخاصة بالاختفاء القسري في جنيف.

ذكرت د. فاطمة أنها لم تتلقَّ أي معلومات من الصليب الأحمر، مشيرة إلى أن الرد كان دائمًا نفسه عند كل محاولة للتواصل معهم: “لا معلومات جديدة”. وعلى الجانب الآخر، أكدت أنها لم تتلقَّ أي رد من المركز الأفريقي بشأن الشكوى التي تقدمت بها أو الجهة التي أُودعت لديها.

تضيف : “كان هذا الإحساس بالعجز قاسيًا للغاية، فلا شيء أصعب من أن تشعر بأنك تتحرك في دائرة مغلقة بلا أي إجابات”.

توضيح المركز

من جانبه،أوضح المنسق القطري لمكتب المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام، شوقي يعقوب آدم ان الإجراءات المعتادة في مثل هذه الحالات تبدأ بتقديم بلاغ في النيابة العامة بالخرطوم، حيث تُفتح غالبًا بلاغات تحت المادة 47 من قانون الإجراءات الجنائية. وأشار في حديثه (للتغيير) أن النيابات تُعد الجهة المختصة في مثل هذه القضايا، إلا أنه في بعض الأحيان تُحال الدعاوى إلى نيابات أخرى بناءً على تقدير السلطات.

وأضاف آدم: “بعد استنفاد الخطوات المحلية، قدمنا شكوى إلى لجنة الأمم المتحدة الخاصة بالاختفاء القسري، التي أُنشئت بموجب اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري التي وقع عليها السودان في عام 2021. هذه اللجنة تقبل الشكاوى الفردية وفقًا للإجراءات المتبعة، وقال المنسق: قمنا بإعداد الشكوى باستخدام النماذج المخصصة، وبعد موافقة أسرة المفقود، رفعناها إلى اللجنة نيابة عنهم كمركز”.

وأكد أن اللجنة استلمت الشكوى وأفادت باستلامها رسميًا، مشيرًا إلى أن إجراءاتها لا تزال مستمرة. وأوضح أن اللجنة ستخاطب الجهات الرسمية ذات الصلة بالشكوى وتنتظر الردود منها، و بناءً على تلك الردود، تقوم اللجنة باتخاذ قرارها النهائي بشأن الشكوى المقدمة.

نقابة الاطباء وعود دون خطوات ملموسة

تواصلت د. فاطمة ايضا مع نقابة الأطباء التي وعدت ببذل جهود للعثور عليه. ورغم أنهم نشروا معلومات عنه كمفقود على وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنها لم تجد أي خطوات ملموسة تساعدها في البحث عنه أو معرفة مصيره، كما ذكرت.

وحاولت “التغيير” التواصل مع عدد من قيادات اللجنة التمهيدية لنقابة الأطباء السودانيين، لطرح استفسارات حول أي معلومات عن زميلهم المفقود وأعداد الأطباء المختفين قسريًا لدى الجيش وقوات الدعم السريع. ورغم وعودهم بالرد، لم تتلقَ الصحيفة أي إجابة حتى الآن.

استغلال النصابين

في تلك الفترة، واجهت د. فاطمة تحديًا جديدًا وغير متوقع، تمثل في استغلال “النصابين” لمعاناة أسر المفقودين. توضح الدكتورة: “كانوا يتواصلون معي عبر وسائل التواصل الاجتماعي بعدما شاهدوا منشورات البحث عن زوجي، ويدّعون أنهم يمتلكون معلومات عنه. كانوا يطلبون مني مبالغ مالية مقابل إرسال صورة أو إتاحة فرصة للتحدث معه”.

وتتابع قائلة: “في البداية، دفعتني حالتي النفسية إلى تصديقهم. أرسلت لهم الأموال على أمل الحصول على أي معلومة قد تقودني إلى زوجي. لكن في كل مرة، كانوا يختفون بمجرد حصولهم على الأموال، دون تقديم أي دليل يثبت صحة ادعاءاتهم”.

مع تكرار هذه المواقف، أدركت د. فاطمة أن هؤلاء ليسوا سوى “نصابين” يستغلون ضعف الأسر ومعاناتها لتحقيق مكاسب شخصية، و قررت التوقف عن التعامل معهم، ولكن الأثر النفسي الذي تركوه كان عميقًا. تضيف: “شعرت بالإحباط والخذلان مرات عديدة، خاصة أنني كنت أضع كل أملي في كل وعد منهم”.

أسئلة لاتنتهي

وسط هذه المحن، وجدت د. فاطمة نفسها مضطرة للعب دور الأم والأب لطفلتيها، حيث تبلغ الكبرى 4 سنوات ونصف، بينما أصبحت الرضيعة بعمر سنة و7 أشهر.

تشير دكتورة فاطمة إلى أن أصعب اللحظات هي عندما تواجه أسئلة طفلتها الكبرى عندما تسألني: “بابا وين؟”. أحاول أن أطمئنها قائلة: “بابا في الشغل، بيعالج الناس المصابين عشان دي حرب”، لكن أسئلتها لا تنتهي: “ليه ما بضرب لينا تلفون؟”. أختلق الأعذار لها، مثل أنه ليس لديه هاتف أو أن الشبكة غير متوفرة.

وتضيف: “مع كل صباح، أجد نفسي أمام مسؤولية مزدوجة: أن أكون أمًا وأبًا، وأن أوفر لهن الحياة الكريمة التي تستحقاها. وفي الوقت نفسه، هناك عبء لا ينتهي بالبحث عن زوجي المفقود، حيث تحمل كل خطوة في هذا الطريق الصعب تكلفة نفسية ومادية باهظة”.

الدعم وسط الألم

رغم كل هذه التحديات، وجدت د. فاطمة أناسًا وقفوا بجانبها في هذه المحنة. زملاء دراستها، الذين انقطعت عنهم منذ أكثر من عشر سنوات، بمجرد أن علموا بما تمر به، تواصلوا معها وساعدوها بكل الطرق الممكنة. لم يقتصر دعمهم على المساعدة المادية فقط، بل شمل أيضًا تقديم الدعم النفسي. ساعدوها في تأمين سكن آمن لعائلتها، وتوفير فرصة عمل خارج السودان، بالإضافة إلى كافة الترتيبات اللازمة للسفر.

كما أكدت د. فاطمة أن أهلها وعائلة زوجها لم يقصروا في تقديم الدعم، مشيرة إلى أن هذه الوقفات الإنسانية جعلتها تشعر أنها ليست وحيدة في هذا الطريق الشاق..

ورغم كل ذلك، تقول د. فاطمة: “أظل متمسكة بالأمل. عندما تسألني ابنتي عن والدها، أقول لها إنه في سوبا دون تفاصيل أخرى. أحاول قدر الإمكان أن أحميها من الحقيقة المؤلمة، لكنني أعلم أن الأسئلة القادمة ستكون أصعب، وأتمنى أن أجد الإجابة قبل أن يحين وقتها.”.

مقالات مشابهة

  • ضابط إماراتي ينقل “عبد الرحيم دقلو” إلى قاعدة “أم جرس” تحت حماية الجيش التشادي
  • العدل والمساواة تحدد شروط التسوية السياسية مع قوات الدعم السريع
  • “نيويورك تايمز” تكشف بالأدلة جرائم حرب ترتكبها “الدعم السريع” وتحدد اسماء القادة المسؤولين عنها
  • نيويورك تايمز تكشف بالأدلة جرائم حرب ترتكبها قوات الدعم السريع
  • ياسر العطا يتوعد قوات الدعم السريع وداعميها داخل وخارج السودان
  • البرهان: لا يمكن العودة لأوضاع ما قبل الحرب مع الدعم السريع
  • مواجهات عنيفة بين الجيش والدعم السريع بالخرطوم والجزيرة والفاشر
  • شاهد بالفيديو.. بعد اقتحامه منطقة “ود راوة” بشرق الجزيرة.. “كيكل” يستعرض الغنائم التي حصل عليها من الدعم السريع ويقبض على العشرات من جنودهم
  • أين بابا؟ رحلة المخاطر والالم بحثا عن مفقود لدى الدعم السريع