التنمر الإلكتروني وحش يتمدد رقميا فمن أبرز ضحاياه؟ وكيف نقاومه؟
تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT
وفي وقت أظهرت فيه أرقام أممية أن واحدا من كل 10 ضحايا أقدم على محاولة الانتحار، كشفت دراسة أممية أن 60% من النساء في الدول العربية تعرضن خلال 2022 للعنف عبر الإنترنت.
ووفق الدراسة، فإن خطر التنمر الإلكتروني الذي يطارد النساء يتمثل بالابتزاز المالي والجنسي وانتحال الشخصيات وصولا للتهديدات بالقتل والاغتصاب.
وتناول برنامج "للقصة بقية" في حلقة (2024/12/30) التنمر الإلكتروني ومدى انتشاره عالميا وعربيا، وتأثيراته النفسية والاجتماعية على ضحاياه، إلى جانب محاولة استشراف مخاطره المستقبلية في ظل التطور التقني الهائل في العالم الرقمي.
وسلطت الحلقة الضوء على الأسباب التي تدفع الأفراد لممارسة التنمر الإلكتروني عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي وعلى كيفية مقاومته وتأهيل ضحاياه، إضافة إلى إمكانية استحداث قوانين وآليات عالمية للحد من هذه الظاهرة.
وعرضت الحلقة حالة لينا كريشان، وهي ناشطة على مواقع التواصل (14 عاما)، وقالت إنها تعرضت من زملائها في المدرسة إلى التنمر بسبب قصر قامتها، والتأثيرات النفسية التي عانتها من جراء ذلك.
كذلك تعرضت الإعلامية اليمنية مايا العبسي إلى حملات تشويه وترويج شائعات مسيئة على الإنترنت، مشيرة إلى أنها صبرت على ذلك عاما قبل أن تفكر بالرد، خاصة في ظل غياب أي وسائل قانونية لمحاسبة المتنمرين.
إعلان
أسباب التنمر
يقول خبير أمن المعلومات والاتصال الرقمي عمران سالم إن على الوالدين ألا ينتظرا أن يبلغهما طفلهما بتعرضه للتنمر، مشيرا إلى أن أي تغير يطرأ على الطفل ستكون منصات التواصل المتهمة بنسبة 70%، وشدد على ضرورة تعزيز ثقة الطفل بوالديه.
ويؤكد مأمون مبيض، وهو استشاري أول في الطب النفسي، أن العامل المشترك في تعامله مع مئات الحالات من أطفال وشباب وراشدين كان تعرضهم جميعا للتنمر سواء بشكل مباشر أو إلكتروني.
ويعرف التنمر بأنه سلوك عدواني متكرر من قبل شخص أو مجموعة أشخاص تجاه آخرين للإضرار بهم جسديا أو نفسيا، في حين يعتبر التنمر الإلكتروني أحد أشكال التنمر ساحته شبكة الإنترنت ويظهر بشكل واسع على منصات التواصل والألعاب الإلكترونية.
ويعد التنمر الإلكتروني مهددا خطيرا للصحة العقلية وأغلب ضحاياه من النساء والمراهقين.
ويكون التنمر لأسباب نفسية وأسرية واجتماعية وقد تكون له نتائج نفسية -وفق مبيض- الذي قال إن من يقوم بالتنمر قد يكون لديه مشكلات سلوكية ولكنها قد لا ترتقي إلى أمراض نفسية.
ويحاول المتنمر اصطناع هوية غير حقيقية في الفضاء الرقمي، إذ تبتعد هويته الحقيقية عن الهوية الإلكترونية التي اصطنعها، وقد تعود إلى طفولته المبكرة وما تعرض له خلالها من ضغوطات، حسب مبيض.
وأعرب استشاري أول في الطب النفسي عن قناعته بأن الضغوط الاجتماعية في الدول العربية من حروب وأزمات وكوارث تشكل ضغوطات على الناس، "وقد يكون التنمر الإلكتروني أحد أشكال التنفيس عن ذلك".
ووفق مبيض، فإن هناك علامات تؤشر إلى تعرض الأطفال للتنمر الإلكتروني في سن مبكرة، وهي علامات نفسية وسلوكية وجسدية ورقمية مثل التغير المفاجئ في مزاج الطفل وعزلته والخوف والقلق، والتردد باستخدام الأجهزة الإلكترونية، والتغير بأنماط النوم وفقدان الاهتمام بالأنشطة.
إعلانبدوره، شدد تيموثي أوبلاد رئيس قسم التنمية البشرية ودراسات علم النفس بجامعة تكساس على أن التنمر الإلكتروني بلغ مداه في العالم الافتراضي، مشيرا إلى أن بعض الأشخاص يتأثرون وقد يصل بهم الحال إلى الاكتئاب وربما الانتحار.
التنمر.. أرقام وحلول
وتشير تقديرات لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) إلى أن واحدا من كل 3 طلاب تتراوح أعمارهم بين 13 و15 عاما يقع ضحية التنمر، وحددت المنظمة الأممية 3 معايير للسلوك كي يكون تنمرا وهي: التعمد والتكرار واختلال ميزان القوى بين الطرفين.
وحسب الأمم المتحدة، فقد شهد عام 2023 استخدام 79% ممن أعمارهم بين 15 و24 عاما منصات التواصل عبر الإنترنت، والتي تعد مرتعا للتنمر الإلكتروني.
بدورها، رصدت شركة ميتا خلال الربع الثالث من عام 2023 أن نحو 15 مليون منشور على فيسبوك وإنستغرام تعد تنمرا وتحرشا.
وحسب دراسات، فإن التنمر الإلكتروني قد يؤدي إلى انخفاض تدريجي في ثقة الضحايا بأنفسهم ويجعلهم عاجزين عن مواجهة المشكلات.
وقد يؤدي التنمر -وفق الدراسات- إلى الشعور بالعزلة لدى الأطفال والمراهقين وعزوفهم عن المجموعات الاجتماعية والتجمعات، في حين يرى أخصائيون أن العزلة الاجتماعية لضحايا التنمر قد تؤدي إلى تأثيرات دائمة على شخصيتهم ونموهم الاجتماعي.
وتعتقد منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (يونسكو) أن العنف والتنمر في المدرسة يمكن أن يسهما في ضعف الصحة العقلية لدى الضحايا، ويؤثرا على العملية التعليمية.
وفي ظل هذا الخطر المتصاعد، تسعى العديد من الحكومات والمنظمات الدولية لوضع تشريعات وقوانين لحماية الأطفال من التنمر الإلكتروني، في وقت يدعو فيه أخصائيون إلى سن قوانين ووضع آليات للحد من مخاطر التنمر الإلكتروني في ظل تزايد العنف الرقمي.
وترى دراسات أن إنشاء بيئة آمنة عبر الإنترنت يمكن أن يسهم في تقليل تأثير التنمر الإلكتروني وحماية الأطفال والمراهقين.
إعلان 30/12/2024المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات التنمر الإلکترونی عبر الإنترنت إلى أن
إقرأ أيضاً:
ماذا حدث لـمعجزة اليابان؟ وكيف أدخلتها أميركا إلى النفق المظلم؟
إذا كنت عربيا من مواليد الثمانينات أو أوائل التسعينيات، أو ربما حتى بعد ذلك، فمن المرجح أنك مررت بعبارة "كوكب اليابان"، التي تنطوي على قدر واضح من الإعجاب المذهول بالطفرة الاقتصادية والتقنية التي حققتها الدولة الآسيوية وجعلتها محط أنظار العالم.
لقد كانت التجربة اليابانية آنذاك تجسيدا للطفرة الاقتصادية التي تطمح لها جميع الدول النامية التي تنكبت المسير لأسباب مختلفة، وفي وقت كان العالم يعاني فيه من استقطابات الحرب الباردة وتقلبات الأزمات النفطية، برزت اليابان منارةً للقوة الصناعية والابتكار التكنولوجي خارج العالم الغربي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2"الإمبراطور الإله" الذي استسلم لأمريكا.. قصة رجل عبده اليابانيونlist 2 of 2من الشنتوية إلى إلحاد 86%.. كيف أعادت أميركا تشكيل الشعب الياباني؟end of listوما يجعل التجربة اليابانية "معجزة" حقيقية، أنها انطوت على تحوُّل درامي من اقتصاد مدمر لا يقل تهالكا عن المدن اليابانية التي ضربتها القنابل النووية الأميركية إلى قوة عالمية تنافس أكبر الاقتصادات الغربية. وفي حين أن مصطلح "المعجزة الاقتصادية" فقد بريقه في عالم اليوم، لأنه استُخدم بكرم بالغ لوصف أي دولة تشهد قفزة في الناتج المحلي الإجمالي، فإن ما حدث في اليابان تحديدا كان شيئا لا يقل عن "معجزة" بالفعل.
ففي عام 1960، كان الناتج المحلي الإجمالي لليابان يقارب 47 مليار دولار، وبحلول عام 1990، قفز الرقم إلى 3.1 تريليون دولار وفقا لبيانات البنك الدولي، وهو ما يعني أن حجم الاقتصاد تضاعف بضعة وستين مرة خلال أقل من ثلاثة عقود.
وبحلول عام 1995، بلغ الناتج المحلي الإجمالي لليابان نحو 5.55 تريليونات دولار، بقفزة تناهز 45% خلال 5 سنوات، في ذلك التوقيت سجلت الولايات المتحدة ناتجا محليا إجماليا قدره 7.64 تريليونات دولار فقط، ما أدى إلى تقليص الفجوة الاقتصادية بين الدولتين بشكل ملحوظ بل إن الاقتصاد الياباني تفوق على نظيره الأمريكي في بعض المؤشرات وعلى رأسها نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تجاوز نصيب الياباني من ناتج بلاده نصيب نظيره الأمريكي بمعدل 10% على الأقل، وظهرت التوقعات التي "تبشر" أو "تحذر" -حسب موقع صاحبها- من احتمالية تجاوز اليابان للولايات المتحدة لتصبح أكبر قوة اقتصادية عالمية. وكان هذا الخيال الجامح يخيم على الأجواء مخترقا الإعلام والخطاب السياسي الأميركي، إلى حد قيام هوليود بصناعة أفلام حول مستقبل يسيطر عليه اليابانيون.
إعلانلكن بحلول نهاية التسعينيات، بدأت رواية "الاستقلال الاقتصادي الياباني" تتفكك. وفي العقود التالية، عانت اليابان من ركود اقتصادي وأزمة ديموغرافية أبطأت نموها بشكل كبير، وبحلول عام 2023، سجل الناتج المحلي الإجمالي لليابان 4.2 تريليون دولار، في تباين صارخ مع الناتج الإجمالي الأميركي المقدر بـ 27.4 تريليون دولار.
في غضون ذلك، تلاشت المخاوف من مستقبل يسيطر عليه اليابانيون، وحلَّت محلها مناقشات في الإعلام الأميركي والغربي حول ضرورة دعم اليابان (الحليف المفترض للولايات المتحدة في مواجهة الصين) لاستعادة مكانتها السابقة، مما يشير إلى تغيير هائل عن الأيام التي شكّل فيها أحفاد الساموراي مصدر تهديد للهيمنة الاقتصادية الغربية.
نهاية المعجزة.. وبداية الكابوسحتى عام 2010، كان اقتصاد اليابان لا يزال هو ثاني أكبر اقتصاد على مستوى العالم، لكن بحلول هذا العام كانت نتائج عقدين من الأزمة المتواصلة قد انجلت، إذ سحبت الصين من تحت أقدام اليابان المركز الثاني، وبحلول نهاية عام 2023، كانت اليابان على موعد مع تراجع جديد هذه المرة، إذ احتلَّت ألمانيا مكانها دافعة طوكيو إلى المرتبة الرابعة، بل وباتت الصحف الاقتصادية تتحدث عن احتمالية تراجع ياباني جديد في القائمة، هذه المرة لصالح الهند.
ووفق تحليل صحيفة "ذا ديبلومات"، لم يكن هذا التراجع ترجمة فقط لانخفاض سعر الين الياباني مقابل الدولار الأميركي بنحو 30% في العقد الماضي، وهو ما يؤثر بالطبع على الناتج المحلي الإجمالي الاسمي، لكنه يعبر عن أزمة أعمق طالت طفرة النمو اليابانية التي شكلت الركيزة الأساسية لمعجزتها الاقتصادية.
وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي، كان متوسط معدل النمو الحقيقي في اليابان سنويا من عام 2000 وحتى عام 2022 لا يتجاوز 0.7%، بينما كان المعدل في ألمانيا مثلا، والتي تعاني هي الأخرى على أصعدة اقتصادية مختلفة، يتراوح حول 1.2%.
إعلانوبحسب الصحيفة البريطانية "ذا إيكونوميست"، فقد انخفضت حصة اليابان من الناتج المجلي الإجمالي العالمي "وفق مؤشر تعادل القوة الشرائية" من 9% عام 1990 إلى أقل من 4% عام 2022، وهي أقل نسبة تسجلها اليابان منذ ثمانينيات القرن العشرين، وبشكل مماثل، انخفض نصيب الفرد الياباني من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بنظيره الأميركي من 81% عام 1990 إلى 64% بحلول عام 2022، وباتت اليابان تحتل المركز 21 بين الدول الـ38 الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية على مؤشر نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي.
يُضاف إلى ذلك أن توقعات بنك "جولدمان ساكس"، مؤسسة الخدمات المالية المرموقة، تشير إلى أن اليابان ستخرج في غضون ربع قرن من قائمة أكبر خمسة اقتصادات في العالم، وستخرج من قائمة أكبر 10 اقتصادات بحلول عام 2075. وتعكس هذه الأرقام والتوقعات العديد من المشاكل البنيوية في الاقتصاد الياباني في مقدمتها أزمة تراجع إنتاجية العمل.
وفي حين كانت إنتاجية العامل الياباني مضرب الأمثال قبل عقدين أو نيف، فإنها تشهد حاليا تراجعا حادا إذ تبلغ إنتاجية العمل في اليابان 60% مقابل إنتاجية العمل في ألمانيا، وبحسب أرقام عام 2022، تحتل اليابان المرتبة الثلاثين على مستوى بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية من ناحية إنتاجية العمل، التي تُقاس بقيمة السلع والخدمات التي يمكن للعامل في البلد إنتاجها في الساعة الواحدة.
على جانب آخر، وحتى تسعينيات القرن العشرين، كان يُنظر إلى اليابان على نطاق واسع باعتبارها دولة ذات اقتصاد صحي يتمتع بالعدالة الاجتماعية مع طبقة متوسطة واسعة ومستقرة وقوية، لكن منذ عام 2006 بدأت علامات "أزمة الفقر" تتضح في اليابان، إذ بدأ يظهر ما يسمى بقرى الخيام، "مورا"، التي يسكنها العمال المؤقتون العاطلون عن العمل الذين أصبحوا بلا مأوى بسبب الانكماش الاقتصادي، ومع قدوم جائحة "كوفيد-19" أفصحت تلك العلامات عن نفسها بصورة أوضح، ووصل الأمر إلى حد خروج سيدات يابانيات على وسائل التواصل الاجتماعي يشتكين عدم قدرتهن على شراء منتجات النظافة الصحية النسائية، هذا بالإضافة إلى تكرار مشاهد غير معتادة مثل اصطفاف أعداد كبيرة من المواطنين من أجل الحصول على طعام مجاني من جمعيات خيرية، وتشهد اليابان عموما ازديادا في أعداد مَن يعملون بوظائف مؤقتة وهشة لا تمنحهم الحماية الاجتماعية ولا الاطمئنان بشأن الغد.
وفي تقرير لوكالة الأنباء الأميركية "أسوشيتد بريس" بعنوان "اليابان غنية لكن العديد من أطفالها فقراء"، أشار إلى أنه رغم كون اليابان لا تزال تُعد واحدة من أغنى دول العالم، فإن لديها واحدا من أعلى معدلات فقر الأطفال بين دول العالم الغني، إذ يعيش طفل ياباني من كل سبعة أطفال في فقر، وتعيش نحو نصف الأسر ذات العائل الواحد تحت خط الفقر.
إعلانهذه الحقيقة المأساوية تؤكدها الأرقام الرسمية لعام 2022 حول المعيشة الوطنية التي أصدرتها وزارة الصحة والعمل والرفاه في اليابان، حيث بلغ معدل الفقر في البلاد 15.4%، وهو أعلى معدل بين أعضاء منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في ذلك العام، وبالمثل أظهرت دراسة استقصائية في الفترة نفسها أن 44.1% من النساء اليابانيات العازبات اللواتي تخطى عمرهن 65 عاما يعانين من الفقر، ولكن ما يجعل الفقر في اليابان غير مرئيا للعيون الخارجية إلى حدٍّ كبير هي الثقافة التي تتعامل مع الفقر باعتباره عارا يستتر منه صاحبه.
إن كل الأرقام السلبية السابقة هي نتيجة النفق المظلم الذي دخلته اليابان منذ التسعينيات وصاحبه العديد من وعود الفجر الكاذب، فمع كل انتعاشة اقتصادية صغيرة كان بعض الخبراء الاقتصاديين ينتظرون استفاقة وعودة للمسار الإعجازي للاقتصاد الياباني.
لكن هذا لم يحدث، إذ ظل الاقتصاد في حالة ركود من التسعينيات ولم ينمُ إلا باعتدال في بعض الأحيان، وترافق هذا الانكماش مع تأخر واضح في القدرة التنافسية للبلاد وإمكاناتها الإنتاجية وانخفاض عدد سكانها، وحتى فيما يتعلق بصناعة السيارات التي كان يُنظر إليها باعتبارها من أهم أوجه فخر الاقتصاد الياباني، فقد تعرضت هي الأخرى إلى ركلة قوية بسبب ظهور السيارات الكهربائية التي لا تسيطر اليابان على أسواقها ولا تلعب أي دور ريادي فيها.
كيف دخلت اليابان في النفق المظلم؟يحب بعض الاقتصاديين أن يطلقوا على ما حدث لليابان وصف "نزلة برد طويلة"، فهي لم تتعرض لكارثة كبيرة، لكنها مجرد "كبوة" تجلت في ركود اقتصادي عادي إلى حدٍّ ما، وطالت حتى أصبحت "كارثة" بفعل طولها. بدأ الأمر بفقاعة في نهاية ثمانينيات القرن العشرين، تمحورت حول الأسهم والعقارات اللتين شهدتا ارتفاعا في أسعارهما على نحو غير مسبوق في هذا العقد، إذ تضاعفت أسعار الأراضي التجارية أربع مرات بسرعة كبيرة، حتى وصل الأمر إلى لحظة بات فيها سعر بضع مئات من الأفدنة في موقع متميز بطوكيو العاصمة يساوي ثمن كل أراضي ولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأميركية، بحسب منصة الراديو الأميركي الوطني العام "إن بي آر".
إعلانوبحلول بداية تسعينيات القرن العشرين، وتحديدا عام 1991، انفجرت تلك الفقاعة تماما، وانهار معها سوق الأسهم، وهبطت أسعار العقارات بوتيرة سريعة للغاية أدت إلى خسارة اليابانيين الكثير من الأموال، ومن ثم إحجامهم عن الإنفاق وبداية مسلسل الركود الاقتصادي. ففي عام 1991 وحده، ارتفع معدل إفلاس الشركات إلى أكثر من 66%، وانخفضت أجور العمال في البلاد على نحو واضح، وبدأ ما يسمى بـ"العقد الضائع في الاقتصاد الياباني، ومع حلول عام 2001، كانت أسعار العقارات والأراضي قد هبطت بأكثر من 70%.
في الواقع، صادفت اليابان مشكلة أخرى فاقمت الأزمة، ففي عام 1997، وبينما كان البعض يترقب نهاية الركود المؤلم؛ حدثت الأزمة المصرفية، التي حفزها فشل بنك كبير في اليابان هو بنك "هوكايدو تاكوشوكو". كان هذا نتيجة للسياسة المتساهلة التي اتبعتها البنوك في اليابان بعد الفقاعة، تحديدا مع عملائها الكبار، فعندما لم تتمكن الشركات الكبرى من سداد قروضها المصرفية، كانت البنوك تعطيها الفرص وتتنازل عن جزء من القروض وتخفض المدفوعات على الفائدة إلى الصفر، وبسبب تراكم تلك القروض التي سمّاها الاقتصاديون "قروض الزومبي"، كانت النتيجة انهيار أول بنك كبير في اليابان، مما فاقم من المشكلة اليابانية.
ومع فشل بنك "هوكايدو تاكوشوكو" بدأت سلسلة انهيارات متعاقبة لمؤسسات مالية كبيرة في البلاد، مثل مؤسستَيْ "سانيو" و"يامائيتشي" للأوراق المالية، وبدأ الذعر المالي يتسرب في كل أنحاء البلاد، إذ اصطف اليابانيون في طوابير أمام البنوك لسحب ودائعهم، إلى درجة إصدار الدولة تعليماتها لكي تمنع البنوك تلك الطوابير أمامها لتحجيم حالة القلق العام، وبدأت الصحافة اليابانية في الامتناع عن نشر الأخبار حول الطوابير المصطفة حتى لا تزداد حالة القلق الكبيرة التي يمكن أن تجر الاقتصاد إلى ما هو أسوأ.
إعلانعلى أصداء تلك الأزمة، انكمش الاقتصاد الياباني بشدة بفعل ضعف الطلب، في حين كانت المؤسسات المالية عاجزة عن توفير التحفيز الاقتصادي اللازم. وبحلول عام 1998، بات واضحا أن "نزلة البرد الاقتصادية" ستطول، إذ بدأ الناس والشركات يتراجعون عن الإنفاق أكثر، فانخفضت الأسعار أكثر فأكثر مما أدى إلى توقف عجلة الإنتاج تقريبا. ومن ناحية أخرى، شرعت الحكومة، في محاولة لحل الأزمة المطولة، في طباعة كميات أكثر من النقود، مع خفض أسعار الفائدة إلى الصفر في الوقت نفسه بغية تحفيز الاقتصاد، ولكن لم يكن هناك شيء قادرا على عكس حالة الركود.
في غضون فترة قصيرة، باتت اليابان تعاني مما يسميه بعض الاقتصاديين "فخ السيولة"، إذ يصبح الناس غير مقبلين على الشراء مهما توفر لهم من النقود، وتتراكم النقود في المنازل دون أن تتسرب بأي شكل للاقتصاد، في مواجهة ذلك سعت السلطات لتحفيز الاقتصاد من خلال برامج الإنفاق الحكومية المكلفة، حتى صارت اليابان أكثر الدول المتقدمة المدينة في العالم، ورغم ذلك كان الاقتصاد بالكاد ينمو أحيانا.
لم تكن المشكلة أن اليابانيين باتوا يميلون إلى الادخار لا الإنفاق فحسب، وإنما أيضا كانت هناك مشكلة واضحة في المعروض، إذ أدى الانكماش السكاني مع عدم الانفتاح تجاه الهجرات الواسعة إلى أزمة نقص في العمالة، مما أعاق النمو بدوره، فضلا عن أن الابتكار الياباني الذي كان مشهودا له ذات يوم قد بدأ يتراجع، ولم تعد اليابان كما كانت في السابق مشهورة بالابتكارات الجديدة والفريدة من نوعها.
فتِّش عن الولايات المتحدةحين نحكي القصة من هذه الزاوية الداخلية، قد يظن القارئ أن نهاية المعجزة اليابانية ودخول النفق المظلم هي أزمة داخلية محضة بدأت بانهيار فقاعة العقارات والأسهم، وتوسطها أزمة مصرفية، ثم جاء الانكماش السكاني وسلوك اليابانيين الاقتصادي ليُتمّها، لكن الواقع أن هناك محفزا خارجيا هو مَن أسهم بشكل أساسي في هذا التعثر الياباني الطويل؛ إنه الدور الذي لعبته الولايات المتحدة الأميركية.
إعلانكانت اليابان الوحش الاقتصادي المخيف الذي يُرعب الولايات المتحدة الأميركية خلال نهاية السبعينيات والثمانينيات، وكان عديد من السياسيين ورجال الأعمال والصناعة يطالبون بمواجهة التقدم الياباني وهم ينظرون إلى العجز التجاري بين البلدين الذي يصب في صالح اليابان، وإلى البضائع اليابانية التي تغزو الأسواق الأميركية بأسعار رخيصة وجودة عالية، وفي الواقع بدأت الضغوط الأميركية تزداد على اليابان منذ عام 1981، إذ ضغط الرئيس الأميركي رونالد ريغان على طوكيو من أجل فتح أسواقها أمام الشركات الأميركية، ومن أجل وضع حدٍّ للاختلال في الميزان التجاري بين البلدين.
وقد اضطرت اليابان بالفعل في البداية لوضع حدٍّ لعدد السيارات التي تُصدِّرها للولايات المتحدة، وبحلول عام 1985 حدث التحول الأهم؛ وهو اتفاق "بلازا" الذي وقَّعته كلٌّ من الولايات المتحدة الأميركية واليابان وألمانيا الغربية وفرنسا وبريطانيا، وقد نص الاتفاق على رفع قيمة الين الياباني مقابل الدولار الأميركي، حتى يتقلص العجز التجاري بين البلدين وتصبح الصادرات اليابانية أغلى ومن ثم تنخفض تدريجيا، ثم أعقب هذا الاتفاق فرض الولايات المتحدة الأميركية تعريفات جمركية قدرها 100% على الواردات اليابانية في عام 1987.
كانت اتفاقية "بلازا" بمثابة ضربة قاصمة للصادرات اليابانية وقدرتها التنافسية في الأسواق العالمية، لكن الأهم أنها كانت بداية سلسلة الأحداث المأساوية للاقتصاد الياباني، فحين ارتفعت قيمة الين بسرعة كبيرة بعد الاتفاق من 240 ينًّا لكل دولار أميركي في 1985 إلى 120 ينًّا لكل دولار بحلول 1988 وتأثرت الصادرات على خلفية ذلك، اضطرت اليابان من أجل تخفيف الآثار إلى خفض سعر الفائدة لكي تحفز الطلب المحلي وتعوِّض الخسائر الخارجية الناجمة عن الاتفاق، ومن هنا بدأت أزمة السيولة الكبيرة وتزايدت المضاربات، وقد أدت التسهيلات الكبيرة في الاقتراض والمضاربة بسوقَيْ العقارات والأسهم إلى ارتفاع أسعار العقارات والأسهم بشدة ومن ثم خُلقت الفقاعة، حيث بات كل السوق يتعامل على أساس تصور غير عقلاني مبالغ فيه للغاية لقيمة الأراضي والعقارات، حتى انفجرت الفقاعة في بداية التسعينيات وتتابعت الأزمات.
إعلانلقد اعتمدت اليابان اعتمادا شبه كامل على الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث ارتبط أمن اليابان وتعافيها الاقتصادي ارتباطا وثيقا بالسياسات الأميركية وديناميكيات السوق. وكما قدمت العلاقات الوثيقة مع الولايات المتحدة بعض المزايا الأمنية لليابان وإمكانية الوصول إلى أكبر سوق استهلاكي في العالم، فقد أوجدت هذه العلاقة أيضا قيودا أعاقت القدرة الاقتصادية لليابان واستقلالها الإستراتيجي، ولعل هذا هو الدرس الذي يجب أن تعيه القوى الصاعدة في عالم اليوم.