انهيار تحالفات إيران المشهود
تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT
منذ خمسة وأربعين عامًا، تبشر الدولة في طهران بنظامها السياسي بوصفه نموذجًا للبلاد ذات الغالبية السكانية المسلمة، بل وفي غيرها. فقد أعلن الخميني سنة 1980، بعد الإطاحة بآخر الأنظمة الملكية الإيرانية التي استمرت ألفي عام، قائلًا: «إن علينا أن نحاول جاهدين تصدير ثورتنا. وسوف نواجه العالم بأيديولوجيتنا». وكان في جوهر استراتيجية حكومته أن تقام شبكة من الحلفاء، سرًا وعلانيةً، وهي الشبكة التي عرفت بمحور المقاومة، وذلك لتكون بمثابة مصدات أمامية دون إسرائيل، منافسها الإقليمي.
في عام 2024، أجريت حوارًا مع الملك عبد الله الثاني، الحاكم المنتمي إلى الأسرة الهاشمية في الأردن، فنبه إلى ظهور «هلال» من القُوى الشيعية يبدأ بإيران ويمتد عبر العراق إلى سوريا منتهيًا في لبنان. وقال لي: إن الشرق الأوسط ـ الخاضع على مدار قرون لسيطرة السنّة من الملكيات والمشيخيات القبلية وأنظمة الحكم قد بدأ يتحول بهذا القوس الشيعي.
وقد يكون خبر العام السياسي هو انهيار التحالفات الإيرانية، ففي سوريا أطيح بأسرة الأسد السادية ـ القائمة في السلطة لأكثر من نصف قرن ـ على يد «متمردين» من السنة (وينتمي آل الأسد إلى فرع من الإسلام الشيعي يعرف بالطائفة العلوية). فيما تقدم المتمردون إلى دمشق، سحبت طهران فجأة حرسها الثوري وقوات الباسيج شبه العسكرية التي كانت منتشرة لدعم الرئيس بشار الأسد، وقال قائد الحرس الثوري الإيراني لوسائل إعلام إيرانية إن «البعض يتوقع منا أن نحارب بدلا من الجيش السوري. فهل يتفق والمنطق أن يتولى الحرس الثوري الإيراني وقوات الباسيج المسؤولية الكاملة بينما يكتفي الجيش السوري بالفرجة؟». لقد لقي العديد من الجنرالات الإيرانيين مصرعهم في سوريا منذ 2014، وآخر ذلك كان في نوفمبر، كما أغلقت طهران أبواب سفارتها وأجلت أربعة آلاف مواطن في رحلات جوية طارئة.
قال لي جون كيربي، مستشار اتصالات الأمن القومي في البيت الأبيض: إن الإيرانيين «لم يكونوا مستعدين أو قادرين على إنقاذ الأسد. وفي أعقاب رحيله، يبدو واضحا لنا أنهم يعيدون تقييم وجودهم في سوريا، وهذه أفضل صيغة في تقديري لوصف الأمر».
في لبنان، اغتيل الزعيم الشيعي والقادة العسكريون لحزب الله ـ وهو الحزب المدعوم من إيران والمسؤول عن تفجيرات انتحارية ضخمة وسجن العشرات من الرهائن على مدى أربعة عقود ـ في غارات جوية إسرائيلية. سحب حزب الله أيضا قواته من سوريا، واعترف بأن هجوم المتمردين قد قطع طرق تهريب المواد الحربية من إيران. وفي غزة، قُضي على حماس، التي حكمت المنطقة لمدة ثمانية عشر عاما، ولقي زعيمها مصرعه. وفي اليمن، تعرض المتمردون الحوثيون، وهم حلفاء إيرانيون آخرون، لضربات جوية من تحالف تقوده الولايات المتحدة ردا على هجماتهم على السفن في البحر الأحمر. (والحوثيون مسلمون زيديون، والزيدية فرع آخر من الشيعة).
وفي الداخل، يبدو أن قليلا للغاية من الإيرانيين هم المهتمون بالاحتشاد حول أمر النظام الانتصاري بـ«مواجهة العالم». إذ قال لي ناصر هديان أستاذ العلوم السياسية من طهران: إن «المواطن العادي غير مسرور بما جرى في سوريا، وفي حين أن الصقور يعتقدون أن المقاومة يجب أن تستمر، فإن المواطن العادي يعتقد أنها انتهت ويسرُّه ذلك. لقد تقلصت قوة محور المقاومة تقلصًا هائلًا، ويعتقد الإصلاحيون أنها لم تعد موردًا مهمًا للردع الإيراني». ويخشى كثير من الإيرانيين من أن يولّد الاضطراب السوري فوضى، بتكلفة محتملة يتكبدونها هم في حال استمرار طهران في مساعدة حلفائها وتحريضهم، قال هديان «ستلحقنا الفوضى، فيجب علينا أن نغادر. وليتول الأمريكيون والأوروبيون ودول المنطقة الأمر».
والجمهورية الإسلامية مستهلكة على نحو متزايد في تحديات محلية. فالبلد الثري بالنفط يعاني من نقص مزمن في الوقود والكهرباء، حيث أدى انقطاع الكهرباء المتكرر إلى حالات إغلاق للمدارس والمكاتب الحكومية والبنوك، كما تقلصت صادرات البلد من النفط، إن لم تكن قد تجمدت، بسبب العقوبات الأمريكية إذ انخفضت بنسبة 25٪ عن احتياجات طهران الرسمية للميزانية. وبعد أن غادر الأسد سوريا، هبطت عملة إيران هبوطا غير مسبوق، إذ بلغ سعر الصرف قرابة ثمانمائة ألف ريال في مقابل الدولار. (بعد شهر من الثورة سنة 1979 كان سعر تداول الريال خمسة وسبعين في مقابل الدولار). ومنذ عام 2017، تحدث المظاهرات المتفرقة بسبب ارتفاع أسعار الضروريات الأساسية والقمع وسجن المنشقين وحقوق النساء الشخصية. والنظام الحاكم الآن أضعف ـ في جبهات عديدة ـ مما كان عليه في أي وقت منذ خطاب الخميني الطموح.
في الوقت نفسه، أدى فقدان الشركاء الإقليميين إلى شعور الإيرانيين بمزيد من الضعف، ويحتدم الجدل الآن داخل الحكومة وفي المجال العام إزاء ما إذا كان يجب على البلد تصعيد العمل في برنامجه النووي المثير للجدل. تزعم طهران أن الهدف من البرنامج هو الطاقة البديلة، لكن لديها بالفعل قدرا من اليورانيوم المخصب يتجاوز «أي تبرير مدني يمكن تصديقه)، وقد وجهت بريطانيا وفرنسا وألمانيا أخيرا الاتهام لإيران بأنها قادرة على إنتاج أكثر من دزينة من الأسلحة النووية، حسبما ذكرت المخابرات الأمريكية الشهر الماضي، برغم أن إيران سوف تحتاج إلى تقنيات أخرى أكثر تطورًا إذا ما قررت أن تفعل هذا. قال هديان الذي يدرِّس في جامعة طهران منذ عقود «إنني أنفقت وقتًا في إقناع طلبتي بأن القنبلة لن تزيدنا أمنًا بل ستزيدنا ضعفًا. وهم يعتقدون أننا نستحقها لأننا قوة عالمية عظيمة، والقوى العظمى يكون لديها أسلحة نووية، كان ذلك صحيحا في عهد الشاه، وسيكون كذلك في المستقبل أيضا».
أشار جاك سوليفان مستشار الأمن الوطني الأمريكي إلى أن التصريحات العلنية من المسؤولين الإيرانيين تغيرت في الأشهر القليلة الماضية، وسط انتكاسات استراتيجية، مما يثير أسئلة جديدة عن التحول في عقيدتهم الرسمية. وقال الأسبوع الماضي في مركز ثقافي [at the 92nd Street Y] «إن دأب السياسة الخارجية والأوضاع الجيوسياسية أنه عندما تقع أمور طيبة، فإن أمورا سياسية تتبعها. فمعاناة خصم من ضربات أضعفته ضعفا واضحا يمثل أمرا طيبا إذا أمكن القول بذلك، لكنه أيضا يولّد لذلك الخصم خيارات قد تكون خطيرة للغاية، وهذا أمر علينا أن نبقى منتبهين له أشد الانتباه ونحن نمضي قدما».
في شتى أرجاء الشرق الأوسط، تبدل الأفق الاستراتيجي في هذا العام إثر تدمير مادي، وموت، وفراغات سياسية، وفقر. يسود القلق. قال لي مروان معشر رئيس الوزراء الأردني السابق ونائب الرئيس الحالي لمعهد كارنيجي للسلام الدولي في عمّان إن «سنة 2025 سوف تكون يقينا سنة إشكالية. يجب أن تكون سوريا درسا للعالم العربي في أمرين، الأول هو أن الربيع العربي لم ينته ولن ينتهي إلا بمعالجة لائقة لمشكلات المنطقة ـ أي الرخاء الاقتصادي والاحتواء السياسي. والثاني هو أن من يعيشون بالسيف يموتون بالسيف، فلا حفاظ على الاستقرار بالقوة الغاشمة».
تخيم الأخطار السياسية على سوريا في الأشهر المقبلة، وقد تؤثر على جيرانها في تركيا والأردن ولبنان والعراق وإسرائيل. فقد دق نصر (المتمردين) ناقوس الموت لحزب البعث الذي تأسس سنة 1943 في دمشق بوصفه حركة علمانية غايتها توحيد أكثر من عشرين بلدًا عربيًا شعارها «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة». وقد حكم فرعا الحزب سوريا لواحد وستين عاما والعراق لخمسة وثلاثين عاما إلى أن أطيح بصدام حسين في عام 2003، وانهار الجيشان اللذان دعما كلا النظامين البعثيين في النهاية بسرعة تذهب بالألباب.
ولقد حللت دراسة حديثة ـ أجراها أساتذة العلوم السياسية في جامعات جورج تاون وفرجينيا وإيموري ـ الحكومات التي تكونت إثر تمردات ناجحة فيما بين 1900 و2020، وانتهت الورقة البحثية إلى أن الأنظمة الاستبدادية التي تأسست على يد جماعات متمردة منقسمة كانت قصيرة العمر، إذ انشق عنها منافسون مسلحون بتمردات جديدة. والأنظمة التي تمكنت من البقاء كانت بصفة عامة قد تأسست على يد جماعة متمردة منفردة. ولقد اشترك في حرب سوريا الأهلية التي اندلعت في 2011 ميليشيات عديدة. وأعلنت خمسة فرق سيادتها على أرض منذ أن فر الأسد. وقد أكد جير بيدرسن المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا أن «الأمر الحاسم للغاية في سوريا هو أن نرى عملية سياسية موثوقة احتوائية تجمع طوائف سوريا كلها» وأضاف قائلا «إن علينا أن نضمن ألا تنهار مؤسسات الدولة».
لقد كان حجم الدمار في المنطقة خلال هذا العام هائلا، وعدد الوفيات مذهلا. ولن يتمكن أي من الاقتصادات المحلية من امتصاص أي صدمات قريبة. وبحسب تقديرات البنك الدولي، يعيش سبعة من كل عشرة في سوريا في فقر. وقد تقلص الاقتصاد بنسبة 85% خلال الحرب الأهلية. وتكبد لبنان أكثر من ثمانية مليارات دولار من الأضرار المادية والخسائر الاقتصادية، وانكمش الاقتصاد في غزة بنسبة تسعين في المائة، وسوف يستغرق حتى عام 2050 كي يرجع الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات ما قبل الحرب، وفي هذا الشهر، أفاد برنامج الغذاء العالمي أن المنطقة تتجه نحو المجاعة.
تكافح الحكومات في المنطقة وخارجها إزاء ما يجب القيام به، سواء بشكل فردي أو مع بعضها بعضا. وفي غضون أسبوع من الإطاحة بالأسد، انقلبت حكومات جديدة على سياساتها. وفي الرابع عشر من ديسمبر، قال وزير الخارجية أنطوني بلينكن: إن الولايات المتحدة على اتصال بهيئة تحرير الشام، أي الميليشيا الإسلامية التي قادت الهجوم، والتي لا تزال على قائمة الإرهاب الأمريكية. وقال بلينكن لصحفيين: «إن سوريا قد تغيرت في أقل من أسبوع أكثر مما تغيرت في أي أسبوع في نصف القرن الماضي». أعادت تركيا فتح سفارتها في دمشق، بعد أكثر من عقد من قطع العلاقات الدبلوماسية في ظل تصاعد الحرب الأهلية. وفي ميناء العقبة الأردني، أعلن مؤتمر عقد على عجل وحضره مسؤولون من الولايات المتحدة والأمم المتحدة وأوروبا والشرق الأوسط أن لدى سوريا الفرصة لإنهاء عقود من العزلة. وقد تعهدوا «بدعم» الشعب السوري والعمل معه: خلال «مرحلته الانتقالية غير المسبوقة» - وخاصة بدون إيران.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی سوریا علینا أن أکثر من قال لی
إقرأ أيضاً:
رئيس الوزراء العراقي يزور إيران الأسبوع المقبل
بغداد (زمان التركية)ــ يزور رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، العاصمة الإيرانية طهران الأسبوع المقبل لبحث التطورات الإقليمية والعلاقات الثنائية.
ونقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية (إيرنا) عن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية إسماعيل بكائي قوله إن “رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يعتزم السفر إلى طهران نهاية الأسبوع المقبل للقاء كبار المسؤولين في جمهورية إيران الإسلامية”.
وتأتي زيارة السوداني إلى إيران عقب سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد الذي كان يتلقى دعما قويا من طهران، فيما آثرت بغداد عدم التدخل في الأحداث الأخيرة.
وتتمتع إيران والعراق بعلاقات قوية منذ الإطاحة بصدام حسين في عام 2003.
وزادت طهران نفوذها على بغداد منذ عام 2003، وتوجد في طهران عشرات الجماعات المسلحة التابعة للإدارة الشيعية.
وقال بكائي للصحافيين اليوم، إن “هذه الزيارة تأتي في إطار المشاورات الجارية بين إيران والعراق لتوسيع العلاقات الثنائية ومناقشة التطورات الإقليمية”.
وكانت إيران داعماً قوياً لنظام بشار الأسد في سوريا، الذي أطاحت به الجماعات التي تقودها هيئة تحرير الشام الإسلامية في 8 ديسمبر/كانون الأول.
Tags: ايران والعراقمحمد شياع السوداني