هند الحمدانية
يخفُت الشغف الذي يُرافق رحلة تجوُّلِك بين صفحات كتابٍ مُبهم، تقف على أعتاب آخر سطرٍ فيه مُستذكرًا فقط اللحظات التي انتُزِعَت من روحك أو تركت فيك أثرًا لن ينمحي أو درسًا تخطَّيته بشق أنفاسك، فغيَّر في داخلك الكثير من القناعات والمعتقدات التي ظننتها راسخةً فيما مضى.
هكذا هي الأعوام تمضي في قافلة العمر، عامًا بعد عام، ويوم ميلادٍ يتلوه آخر، يُعيدنا لصرخة المهد الأولى، ولحضن الوالدة التي غمرتنا بقربها نسمات الجنة، ولتكبيرة الآذان الأولى التي لامست مسامعنا قبل أن نفتح أعيينا الصغيرة للحياة.
يقول الشاعر المصري أمل دُنقل: "قالتْ: تعال إليَّ واصعد ذلك الدرج الصغير.. قلتُ: القيود تشُدُني والخطو مضنى لا يسير.. مهما بلغت فلستُ أبلغ ما بلغت.. فالعمر أقصر من طموحي.. والأسى قتل الغدا...".
العمر أقصر من طموح الإنسان، ومهما بلغ فيه من الأمنيات والإنجازات فهو لم يبلغ شيئًا حقيقةً، وكأنه يقف بين عامين غريبين، عامٌ مضى وآخر آتٍ، لا يلتقيان أبدًا، بينهما برزخٌ لا يبغيان. فأنت الذي كنت بالأمس ومن خُضت كل تلك التحديات في عامك المنصرم، لستَ أنت نفسك الذي سوف يدخل عامك الجديد، لقد أمسيت إنسانًا آخر، تركيبة جديدة بكل نوازعها من الخير والشر ومن الإيمان واليقين، ومن التجربة والمعرفة ودرجات النضج والأرواح التي سوف تستقبل معها عامك الجديد.
تُستَقبَلُ الأعوام الجديدة بالنوايا الجديدة واليقين، فأهلًا بعامٍ جديدٍ نُجدِّدُ معه نوايا القلب ونحبو إليه بقلبٍ سليمٍ ومُعافى، وهي هِبة عظيمة أمَّن الله بها علينا أن نأتيه بقلبٍ سليم.
نُجدِّدُ نية النصر المبين للعام الجديد؛ فلقد تحقق الجزء الأكبر منها، وتراكمت الانتصارات تباعًا، وشيدت يقينًا لا تُزعزعه زوبعات الريح.. يقينٌ ثابتٌ بدنوِ تحقُّق آيات الله "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ" (الروم: 47)، "وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" (آل عمران: 126)، واكتمل الصبر الجميل لإخواننا في غزة وعموم فلسطين، وانقشعت غيمة التضليل العالمية تجاه القضية الفلسطينية، وأبصرت الشعوب شمسَ الحقيقة، واعترفت جموع الدول الغربية بأحقيَّة أرض فلسطين لأهلها الصامدين، وخرجت الأحكام القضائية الدولية تُطارد الصهاينة المُغتصِبين، وسقطت آخر الأقنعة عن المُتصَهْيِنِين، وشاهت منهم الوجوه واسْوَدَّ الجبين. إنه عام النصر الذي أشرق في السابع من أكتوبر، ولم يتبق على الاحتفاء بنشوته إلّا قاب قوسين أو أدنى.
نُجدِّدُ نية الخير للوطن، نُجدِّدُ الرجاءات وحُسن النوايا، نوايا الخير لأرض الخير، والدعوات التي تُخالط الجوارح كلما ردد القلب: "رب اجعل هذا بلدًا آمنًا"؛ فهو مُستقر الروح، وملتقى الأهل والأصحاب والأحباب، وفيه مراتع الذكريات من الطفولة للصبا وإلى الممات. رجاؤنا لله ودعواتنا بالسداد والرشاد في الرأي والحكم، ونية التوفيق في تعزيز البطانة الصالحة الرشيدة، وتتعامل مع قضايا الناس واحتياجاتهم بالأمانة والصدق، البطانة الأمينة التي تخاف الله وتخشاه وتنظر لكرسي المسؤولية على أنه اختبار وليس اعتبار. نوايانا لهذا الوطن بالبطانة الصالحة الرقيقة، التي تشف عن حقائق الأمور والجمهور، فتسمح للضوء والصوت والحر والبرد والهمس والرضا والغضب أن يصل لآذان السلطة، ولا تحجب عن هذا الشعب حقه؛ بل تكون معينًا له لا عليه.
وفي الختام.. وقبل أن أطوي صفحة العام القديم، أعقدُ نيَّتي الخالصة للعام الجديد "نية الحمد والامتنان"؛ فلقد كان هذا العام عامًا مليئًا بالرضا والأمان والاطمئنان، وضعتُ فيه أمنيات بسيطةٍ وخرجتُ منه بنِعَمِ عظيمة، طلبتُ من الله سُحبًا بيضًا تُظلل عامي؛ فأنزل عليَّ من المُزن ما تطيب به أيامي، عامًا دخلناه بقلوبٍ سليمةٍ راضيةٍ وخرجنا منه بقلوبٍ سليمةٍ مُطمئنة.
مسك الختام لهذا العام، الرضا الذي لا يُخالطه شك بكل الأقدار التي تنتظرنا، وبكل النِعَم التي تحمِلها جوانحنا وأحشاؤنا، وبكل الحب الذي يُحيط بنا من الأهل وشركاء الحياة والأبناء، وأرواحنا التي ما زالت تنعَم بهذا الوجود، وتسعى في مناكب الأرض ولعمارة الوطن بالأمل والعمل والمعرفة والإنسانية، بتكليفٍ ربانيٍّ صريحٍ كما يقول الله تعالى: "وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ" (الأنعام: 165).
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
الغارديان: بلير قدم النصح لبوش الذي آمن بأنه يقوم بمهمة من الله في العراق
كشفت وثائق الأرشيف الوطني البريطاني التي يكشف عنها بعد كل عشرين سنة أن مستشاري رئيس الوزراء في حينه توني بلير نصحوه بأن يمارس تأثيره على جورج دبليو بوش الذي كان يؤمن بمهمة الخير في العراق.
وقالت صحيفة "الغارديان" في تقرير أعدته كارولين ديفيس أن المسؤولين الأمريكيين البارزين اعتقدوا أن بوش بحاجة إلى جرعة واقعية لمواجهة المعارضة المسلحة في العراق.
وكشفت الوثائق التي أفرج عنها الأرشيف الوطني أن مستشاري بلير تساءلوا بشكل خاص عما إذا كانت الولايات المتحدة تتمتع "بالسيطرة السياسية المناسبة" على العمليات العسكرية في العراق، وذلك بعد تصريحات مسؤول أمريكي بارز بان بوش يعتقد أنه كان في "مهمة من الله" ضد المقاومين العراقيين.
ففي نيسان/أبريل 2004، كان بلير بحاجة إلى "توصيل بعص الرسائل الصعبة" إلى الرئيس الأميركي آنذاك من أجل "اتباع نهج أكثر تحفظا"، وذلك في أعقاب عملية عسكرية أمريكية لقمع انتفاضة كبرى في مدينة الفلوجة، وفقا لوثائق نشرت في الأرشيف الوطني في كيو، غرب لندن.
وفي محادثة صريحة بشكل مدهش، مسجلة في وثيقة تحمل علامة "الرجاء حمايته بعناية شديدة"، قال ريتشارد "ريتش" أرميتاج، نائب وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، للسير ديفيد مانينغ، السفير البريطاني في حينه بواشنطن، إن بوش كان بحاجة إلى "جرعة من الواقع" بعد مطالبة القوات الأمريكية "بالرد بقوة" في الفلوجة، حيث كانت القوات الأمريكية منخرطة في معركة دامية مع مسلحين عراقيين بعد أن تعرض أربعة من المتعاقدين الأمنيين الخاصين لكمين وقتلوا.
وناشد أرميتاج بلير أن يستخدم نفوذه في زيارته المقبلة إلى واشنطن في 16 نيسان/أبريل لحث بوش على التعامل مع الفلوجة "كجزء من عملية سياسية مدروسة بعناية".
وكانت الولايات قد شنت عملية ضد المدينة أطلقت عليها "عملية العزيمة اليقظة"، وذلك انتقاما لتشويه وسحل جثث المتعاقدين الأمنيين الأمريكيين فوق جسر على نهر الفرات وبعد أقل من عام على الغزو الأمريكي للعراق الذي أطاح في أيار/مايو بالرئيس العراقي صدام حسين.
وفي البداية تأثر بوش بأراء قادته العسكريين وأراد العقاب وترك قوات المارينز تحتل المدينة. لكن الساسة في الهيئة التي شكلها الاحتلال الأمريكي وعرفت باسم "سلطة التحالف المؤقتة" والتي أنشئت بعد سقوط صدام، خافت من أن يؤدي الرد الأمريكي إلى الإضرار بجهود تشكيل سلطة عراقية مستقلة.
وتراجع بوش بعدما أعيد للواقع، حسبما يقول مانينغ الذي كتب مخبرا 10 داونينغ ستريت "لخص ريتش (ريتشارد) الأمر بالقول إن بوش كان يعتقد بأنه بمهمة من الله، لكن الأحداث الأخيرة جعلته أكثر تعقلا".
وكان بوش قد أعلن عن "نهاية المهمة" بعد إطاحة النظام العراقي، لكن البيت الأبيض، رفض ما قيل إن بوش أخبر وفدا فلسطينيا من أنه تحدث مع الله وأخبره " جورج، اذهب وقاتل هؤلاء الإرهابيين في أفغانستان"، "جورج، اذهب وقاتل الطغيان في العراق".
ورفض أرميتاج مزاعم القائد العام للقوات الأمريكية في العراق الجنرال جون أبي زيد بأنه قادر على إخماد انتفاضة الفلوجة في غضون أيام ووصفها بأنها "هراء" و"فظاظة سياسية"، واعتقد أرميتاج أن الولايات المتحدة "تخسر تدريجيا في ساحة المعركة" وأن إرسال الإدارة الأمريكية المزيد من القوات أصبح أمرا "حتميا""، وهو ما سيكون "قبيحاً سياسياً" بالنسبة لبوش، كما ذكر مانينغ.
وكانت رئاسة الوزراء البريطانية متوترة بشأن رد الفعل العسكري الأمريكي. فقد جاء في وثيقة إحاطة صدرت قبل زيارة بلير إلى واشنطن في نيسان/ إبريل 2004 أن الأحداث في الفلوجة "استهلكت قدرا كبيرا من رأس المال السياسي للتحالف".
وجاء فيها: " نريد التأكيد علنا التزامنا المستمر بإنجاز المهمة، ولكننا سنحتاج سرا إلى إيصال بعض الرسائل الصعبة إلى بوش حول الحاجة إلى نهج أكثر تحفظا من جانب الجيش الأميركي، تحت إشراف سياسي مناسب، والحاجة إلى نهاية واضحة للاحتلال في 1 تموز/يوليو".
وجاء فيها: "ربما وجه رئيس الوزراء أسئلة لبوش حول وجود سيطرة سياسية مناسبة على العمليات العسكرية"، واستنتجت "باختصار، هناك عدد كبير من الضباط العسكريين يتحدثون بقوة للرأي العام الأمريكي وبدون اهتمام بأثر ما يقولون على الرأي العام العراقي والإقليمي".
وفي مذكرة موجهة إلى رئيس الوزراء، وصف مستشار بلير للشؤون الخارجية السير نايجل شينوالد المخاوف الرئيسية البريطانية من "التعامل الأمريكي الأخرق"، و"التكتيكات العسكرية الأمريكية غير المتناسبة، أي ما فعلته في الفلوجة وبدا على شاشات التلفزيون العراقي وكأنه شكل من أشكال العقاب الجماعي" و"المعالجة الإعلامية المروعة".
وخسرت الولايات المتحدة 27 جنديا، في حين كان من المعتقد أن نحو 200 من المسلحين و600 مدنيا عراقيا لقوا حتفهم في الفلوجة في ذلك الوقت. واستولت قوات التحالف على المدينة في هجوم ثانٍ شن في تشرين الثاني/نوفمبر 2004. وظلت القوات الأمريكية في العراق حتى عام 2011.