المفكر محمد جابر الأنصاري في ذمة الله
تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT
عبد الله العليان
تعرَّفتُ على المُفكِّر والأكاديمي البحريني الراحل الدكتور مُحمد جابر الأنصاري، في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، من خلال كتاباته الشهرية في مجلة الدوحة الثقافية الشهرية التي صدرت في ذلك الوقت، والتي تأسَّست في عام 1979، ثم تابعتُ مُؤلفاته، التي بدأها بكتاب "تجديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها"، و"الفكر العربي وصراع الأضداد"، و"التأزُّم السياسي عند العرب وموقف الإسلام"، و"العرب والسياسة.
ثم التقيتُ الدكتور الأنصاري، بعد مشاركتي في المسابقة التي أقامها الملتقى الثقافي الأهلي البحريني، في العديد من مؤلفات د. محمد جابر الأنصاري، حيث كنتُ أحد الفائزين الثلاثة، في فكر الدكتور الأنصاري، مع الأكاديمي المغربي د. أمحمد المالكي، والأكاديمي المغربي د. كمال عبد اللطيف. وقد تم تكريم ثلاثتنا من الملتقى الأهلي البحريني، وجامعة البحرين عام 2000، وحمل بحثي عنوان "العرب والسياسة.. بحث في فكر د. محمد جابر الأنصاري"، وقد جُمعت البحوث الثلاثة في كتاب حمل عنوان "الأنصاري وسوسيولوجيا الأزمة". وقد ناقشتُ المفكر الراحل في هذا البحث، في بعض تحليلاته حول أزمة العرب السياسية، ورد المشكلات والتراجعات، إلى مُسبِّبات ردها، كما جاء في بعض مؤلفاته التي تُفسِّر تراجعنا الحضاري، وواقعنا المُتردِّي إلى جذورنا العربية القديمة التي كانت تتصارع وتتحارب على أتفه الأسباب.
ويرى الأنصاري أنَّ الحروب الداخلية والخلافات الدائمة بيننا نحن العرب، هي التي شغلتنا عن النهوض والتطور في العصور العربية المختلفة. ويُعطي الأنصاري، الأمثلة عن ذلك، بحرب "داحس والغبراء" في العصور القديمة، وحرب الخليج الثانية (غزو العراق للكويت) في عصرنا الراهن. وهذا ما طرحه في كتابه "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطْرِيَّة"؛ حيث تحدَّث عن جذور هذه الأزمة التي ما برحت تُفارق العرب في حياتهم السياسية والفكرية. فيقول: "لا يستطيع الدارس لظواهر الحالة السياسية عند العرب أن يغض النظر عن امتداد خيط واحد، متصل عن حس الأزمة في نسيج الحياة السياسية، ماضيًا وحاضرًا، منذ القدم إلى يومنا هذا. وكأنَّ السياسة "كعب أُخيل" في الجسم العربي وفي بنيان الحضارة العربية- الإسلامية، الغنية بعطائها الروحي والعلمي والإنساني، فيما عدا عطاء السياسة واختياراتها ومحنها، وفيما عدا الشأن السياسي والإنجاز السياسي الذي يبدو أضعف جوانبها على الإطلاق".
الدكتور الأنصاري تمسَّك بفكرة أن العرب لم يعرفوا الديمقراطية، ولم يقتربوا منها، كالقبول بتعدد الآراء واختلافها، وقال في كتابه "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطْرِيَّة"، ما نصه: "أيُّ ديمقراطية سياسية تحققت في الواقع داخل قريش، أو بين الأمويين أنفسهم، أو بين الهاشميين من عباسيين وعلويين، أو داخل أي قبيلة أو عشيرة عربية أخرى رغم بساطة العيش بين الجميع في البيئة العربية؟ ورغم أن الإسلام علّم المسلمين كيف يتعايشون ويتسامحون مع أصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب فإنَّ المسلمين أنفسهم- والعرب بخاصة- لم يأخذوا بهذه التعددية في تعاملهم السياسي فيما بينهم في حالات عدة". والجدير بالملاحظة- كما قال الأنصاري- إنه منذ بداية نشوء السلطة السياسية في الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كان السؤال المتقدم المُلح: "من يحكم؟!"؛ بمعنى أي قبيل أو عشير؟ وتأخر السؤال السياسي الأكثر أهمية وموضوعية: "كيف يكون الحكم بعد النبي في الدولة الجديدة، بأي منهاج وبرنامج استنباطًا من مبادئ الإسلام السياسية التي جاءت عامة مرنة تتطلب التحديد والتقنين؟". (:) وهكذا حولت "ذاتية" القبيلة مسألة الحكم في تاريخ الإسلام من "موضوع" الحكم كيف يُؤسس ويُدار، إلى "ذاتية" الحاكمين: من يكونون، ومن أي عشير وفخذ، وأي "ذات منهم تُفضِّل" الذات الأخرى".
الحقيقة أن هذه الآراء التي طرحها د. الأنصاري، نختلف معه فيها في تصوير الواقع العربي الإسلامي، في العصر الإسلامي الأول، والقرون التي تليه والتي تُعد- في اعتقادنا- أزهى القرون وأفضلها رحابةً وتعدديةً والقبول بالاختلاف والتمايز؛ حيث ظهرت المدارس الكبرى في الفقه والعلوم والفلسفة وغيرها من المدارس المختلفة المتعددة الأفكار والتوجهات والرؤى، كما إن اجتماع سقيفة بن ساعدة الشهير لم يكن بالصورة التي رسمها الأنصاري في مقالته تلك، الذي قال عنه إن: "القبيلة حولت مسألة الحكم في تاريخ الإسلام من موضوع الحكم كيف يُؤسس ويُدار إلى ذاتية الحاكمين؛ من يكونون، من أي عشير أو قبيل".
لكن الأدق أن ما حصل بعد وفاة الرسول أنه لم يكن هناك تحديد "لمن يخلفه عليه الصلاة والسلام في تولية أمر المسلمين ورئاسة الدولة الإسلامية، وفي ذلك حكمة لا شك في ذلك، وقد دارت النقاشات والحوارات بين المهاجرين والأنصار لاختيار خليفة رسول الله في سقيفة بني ساعدة". وما درى الحاضرون في هذا الاجتماع أنهم يعقدون أهم "اجتماع" أو "مؤتمر" في تاريخ الإسلام كله، كما يقول د. إمام عبد الفتاح إمام. وما أشبههُ بـ"جمعية وطنية" أو "تأسيسية" تبحث مصير أُمَّة لأجيال عديدة لاحقة، وتضع دستورًا يكون أساسًا لحياتها في المستقبل "إلى أن حسم عمر بن الخطاب النقاش بحجج قوية، منها أن رسول الله أمر أبي بكر أن يؤم الناس، و"أنه ثاني اثنين إذ هما في الغار"، ثم تساءل في براعة: "من منكم تطيب نفسه أن يتقدم أبا بكر؟، فقالت الأنصار: نعوذ بالله أن نتقدم أبا بكر"، فقال: "أبسط يدك يا أبا بكر نُبايعك؛ فبسط يديه فبايعه! ثم بايعه المهاجرون والأنصار تحت السقيفة فيما يسمى بالبيعة الأولى أو البيعة الخاصة أو الصغرى".
لذلك نعتقد أن ما طرحه د. الأنصاري مع تقديرنا له، جانبه الصواب في بعض الآراء. صحيحٌ أن العامل القبلي كان من ضمن العوامل التي اشتركت في التحول الذي طرأ على مسار الدعوة الإسلامية، لكنه ليس العامل الوحيد؛ بل بالعكس، أن الإسلام استطاع أن يُضعف دور القبيلة ويتجاهلها، عندما وضع الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيفة "دستور المدينة"، التي دمجت كل الطوائف والعشائر في هذه الأمة الواحدة الجديدة، وشملت غير المسلمين أيضًا، وهذا يرجع إلى دور النص (القرآن الكريم) والسنة النبوية في التوحيد والتآخي والنصرة بالحق، وتحقيق العدل وغيرها من الجوانب التي وضعها الشرع الإسلامي. ولذلك: "فالقوة الإسلامية الجديدة"- كما يقول الكاتب وليد نويهض "لعبت دورًا في لحظة تاريخية مُحدَّدة، في تفكيك عناصر التحالفات القبلية السابقة، وهو أمر يُفسِّر انتقال القبائل من مرحلة التحالف التضامني، إلى مرحلة الاتحاد الاندماجي تحت راية الإسلام".
من هنا، فإن هذا الاختلاف الذي وقع إبَّان فترة الفتنة السياسية في العصر الأول الإسلامي، لم يكن خروجًا على مبادئ هذا الدين؛ لأن الفرقاء في هذه الصراعات- كما يقول د. محمد عمارة- "ظلوا على ولائهم للدولة الواحدة، فحافظوا على "الجامع السياسي"، وعلى ولائهم ’للتدين الواحد‘ فحافظوا على ’الجامع الديني‘، فكان قتالهم على ’التأويل‘ لا على ’التنزيل‘، وكانوا جميعًا- رغم القتال- على ولاءٍ لوحدة الدولة ووحدة الدين".
على كل حالٍ.. اتفقتُ مع الدكتور الأنصاري في بعض أفكاره ونقده، لكنني اختلفت معه في بعض أفكاره، وفي الأخير، نحترمُ الرجل- رحمه الله- باعتباره أحد المفكرين العرب المعاصرين الذين أثروا المكتبة العربية بالكثير من الأبحاث والدراسات المهمة في الواقع العربي الفكري والثقافي والأدبي.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الدکتور الأنصاری جابر الأنصاری م السیاسی التی ت فی بعض
إقرأ أيضاً:
محمد وداعة نموذجًا للانحطاط السياسي ومستنقع الانتهازيه
تجارب ما بعد الثورة السودانية وانقلاب 25 أكتوبر 2021 وحرب 15 أبريل كشفت الغطاء عن تصدعات وخلافات وتباينات عميقة داخل البعث السوداني وتسلل الانتهازية إلى مفاصله، بل وظهور شخصيات تتكسّب من شعاراته وتتاجر بها في سوق النخاسه. ترسم وتعقد التحالفات مع الأطراف والدوائر المشبوهه و تسير في الاتجاه المعاكس لقوي الثوره وإيقاف الحرب وابعاد مليشيا الجنجويد والعسكر عن المشهد السياسي والاقتصادي .وفي هذا المشهد المتشظي، يبرز محمد وداعة عراب الصفقات مع قوي الرده والنظام البائد واللجنه الأمنيه . كواحد من الذين باعوا البعث والدولة، واختاروا المقعد الوثير إلى جوار العسكر.
محمد وداعة: ليس صحفيًا.. بل مدير مطبعة بوجه سياسي كاذب
لنكن واضحين منذ البدء: محمد وداعة لا علاقة له بالصحافة المهنية، لا في تكوينه، ولا في سلوكه، ولا في تاريخه. هو مدير لمطبعة دخل إلى الوسط الإعلامي من بوابة المال لا المبادئ. يشتري المقالات، يُملِي العناوين، ويدفع لـ"كتّاب الأشباح" ليصنع صورة لنفسه كصوت صحفي ومعارض بينما هو في الحقيقة مجرد وكيل غير رسمي للعسكر، ينفّذ خطّهم الإعلامي ويُداري فضائحهم وينشر سمومهم
الشعارات للبيع: "لا للتطبيع" كواجهة تجارية
يتحدث محمد وداعة كثيرًا عن مناهضة التطبيع مع إسرائيل، لكنه لا يملك الشجاعة ليقول كلمة واضحة ضد البرهان، الذي قاد بنفسه خط التطبيع منذ اجتماعه الأول مع نتنياهو في عنتيبي. وداعة بدلًا من مواجهة الواقع، كتب مقالات مشوشة، حاول فيها تمييع الحقائق وتوجيه اللوم إلى "الخبر" بدلًا من "صانعه".
أين موقفه من زيارة الصادق إسماعيل إلى تل أبيب؟
لماذا لم يفتح فمه بكلمة واحدة ضد رئيس مجلس السيادة، رغم وضوح المسار التطبيعي؟
الإجابة واضحة: لأن وداعة ليس حرًا، بل مُقيَّد بتحالفه مع العسكر، وبعلاقاته المعروفة داخل مراكز السلطة، وبدفتر شيكاته الذي يموّل صوته.
الازدواجية كمنهج حياة
لا تكمن خطورة محمد وداعة في تناقض أقواله وأفعاله فقط، بل في قدرته على ترويج الأكاذيب كحقائق، وعلى لبس عباءة النضال بينما يخدم من هم في قلب مشروع الإقصاء والتطبيع والهيمنة العسكرية. إنه نموذج صريح للسياسي الذي يعرف من أين تؤكل الكتف، لا من أين تُصلح الأوطان.
ينتقد "قحت" صباحًا، ويتودد للسلطة مساءً. يظهر في البرامج كقومي صنديد، بينما يخطط في الكواليس لتكريس النفوذ وعوده الشموليه والمؤتمر الوطني والنظام البائد وتمكين نفسه ماليًا وسياسيًا عبر ماكينة مطبعته.
حزب البعث في مفترق الطرق وتابعنا حرب البيانات والتصريحات والفصل وهذا ليس كافيا . علي البعثيين امتلاك الجرأه والشجاعه الكافيه لمواجهه هذا الانحراف والسقوط لان
استمرار البعث السوداني في الصمت على نموذج مثل محمد وداعة، أو حتى التماهي معه، يعني أن الحزب نفسه يرتكب خيانة مزدوجة: خيانة تاريخه وخيانة قواعده ومواقف قادته ومفكريه العظام الصاوي وجادين ،فإما أن يتبرأ من هذه النماذج، ويعيد ضبط البوصلة نحو العمل الجماهيري النظيف، أو يواصل انحداره في مسار تبييض وجوه من باعوا المبادئ وركبوا موجة العسكر.
أقول في نهاية مقالي هذا أن محمد وداعة ليس إلا واجهة... وعلينا أن نكسر الواجهة
واجب الصحافة الحرة، والفكر النقدي، والمجتمع المدني، أن لا يسمح بمرور هذه النماذج دون تعرية. وكشف وفضح وداعة ليس سياسيًا، بل متسلّق ينتعش من ريع المال الإعلامي، لا يؤمن بفكر البعث ولا بقيم النضال، بل يؤمن فقط بالكاميرا التي تسلط الضوء عليه، وبالشيكات التي تطبع مواقفه على ورق المطيعه منذ ما قبل الحرب وايام الثورة ولصالح موّجهيه في الكواليس.
zuhair.osman@aol.com
زهير عثمان