جريدة الرؤية العمانية:
2025-03-04@13:23:56 GMT

الدين والعلوم العصبية

تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT

الدين والعلوم العصبية

أ.د.حيدر أحمد اللواتي **

شهدت العلوم العصبية تطورًا مذهلًا في العقود الخيرة، إثر التطورات العلمية في مجال تصوير دماغ الإنسان الحي؛ إذ استطعنا أن نقوم بتطوير كم من التقنيات التي تسمح لنا بمتابعة النشاط الدماغي عند القيام بمختلف الأنشطة، وقد لاحظ العلماء أن الدماغ البشري لا يتوقف أبدًا، ما دام الإنسان حيًّا؛ فهو في نشاط دائم حتى عندما يكون الإنسان فاقدًا لوعيه، فإنَّ النشاط الدماغي لا يتوقف كليًا، وكذلك الحال عندما ينام الإنسان.


أما الملاحظة الأخرى والجديرة بالاهتمام هي أن جميع الأنشطة البشرية التي يقوم بها الإنسان ينعكس أثرها على الدماغ؛ إذ إن الشبكة العصبية في الدماغ تتشكل بناءً على هذه الأنشطة، فحتى عندما يجلس الإنسان دون أن يقوم بأي شيء، فإن ذلك يمكن متابعته من خلال متابعة النشاط الدماغي. ومن هنا يرى العلماء أن العلاقة بين النشاط البشري والدماغ علاقة تبادلية؛ فالدوافع نحو العمل يكون مصدرها الدماغ، وبالمقابل فإن الدماغ يتأثر أيضًا بالنشاط الذي تقوم به، فمثلًا عندما تذهب للعمل صباحًا فان الدافع نحو الذهاب للعمل مصدره الدماغ، وعندما تُلبِّي دعوة الدماغ وتذهب للعمل فإن ذلك ينعكس على دماغك أيضًا، وربما تشعر بنوع من الارتياح النفسي نتيجة لإفراز كيمياويات معينة في دماغك وَلَّدَت عندك ذلك الشعور بالراحة والرضا.
ومن هنا، فإنَّ بعض المختصين في مجال العلوم العصبية طرحوا فكرة مفادها إذا كان كل نشاط يقوم به المرء ويلعب الدماغ دورًا مُهمًا في الدافعية التي تدفع الإنسان للقيام بذلك العمل، وإذا كان مردود العمل ينعكس على الدماغ أيضًا، فإن ذلك سيشمل الأنشطة الدينية، والتي نُعبِّر عنها بالشعائر والطقوس في مصطلحاتنا الإسلامية؛ فالأنشطة المختلفة التي يقوم بها الإنسان تُوَلِّد لديه مشاعر وأحاسيس قد تكون تلك المشاعر والأحاسيس إيجابية أو سلبية. واليوم يمكننا عبر مختلف الأجهزة قياس هذه الأحاسيس والمشاعر؛ إذ إنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتراكيز مواد مُعينة يُفرزها الجسم كما يُمكن قياسها من خلال ملاحظة الأجزاء النشطة من الدماغ أو تلك التي يقل نشاطها عن المعتاد، ومن هنا يُمكننا قياس أثر الطقوس والشعائر على الدماغ البشري.
والواقع أن هناك تحديات بالغة تواجه هذه الحقل العلمي أولى تلك التحديات أن هناك صدود من أطراف عديدة؛ فالمتدينون يعدون ذلك نوعًا من محاولة إفراغ الدين من قيمته الروحية من خلال محاولة زجِّه في دراسات علمية قائمة على التجربة والملاحظة، وبالمقابل فإن المَلاحِدة يعتبرون أن إدخال الدين ضمن الدراسات العلمية هو اعتراف علمي بالدين وآثاره التي يُمكن قياسها بالتجربة.
ويُمكن تتبع تاريخ هذا الحقل العلمي بصورته الجديدة في بداية القرن العشرين، إلّا أن الحقل توسَّع في منتصف القرن العشرين، وأصبح يُعرف اليوم بـ"Neurotheology". ويحاول هذا العلم أن يستفيد من الدين، وخاصة في بُعده الروحي لمعالجة آثار بعض الأمراض النفسية والعقلية المختلفة والتخفيف منها.
ولذا فإن عددًا من علماء الأعصاب يرون أن الدين والممارسات الدينية لا يجب التخلي عنها؛ بل يجب تجذيرها في مختلف المجتمعات، وبغض النظر عن صحة تلك الأفكار الدينية أو خطأها؛ لأن الدين يشكل حصانة مُهمة للإنسان تحميه من القلق والتوتر وغيرها من أمراض العصر.
ولا تقتصر الدراسات في هذا الحقل على الاستفادة من الدين في معالجة بعض الأمراض النفسية والعقلية؛ بل يقوم البعض بمحاولة دراسة بعض التجارب الصوفية والعرفانية باستخدام المنهج المذكور، وقد تناولنا ذلك في مقالة مُستقلة نشرت في المُلحق العلمي لجريدة عُمان.
هذا التوجُّه عند هؤلاء العلماء، وضع بعض المَلاحِدة في زاوية ضيقة وإحراجات كبيرة، فكيف لهم أن يقفوا بوجه هذه الدراسات التي توضح كل هذه الفوائد للدين والتدين؟
من هؤلاء المَلاحِدة سام هاريسون، وهو من علماء الأعصاب، ومؤلف كتاب "نهاية الايمان" الذي صدر عام 2004، ويُعد من أكثر المَلاحِدة انتقادًا للأديان. ومن أجل محاولة إيجاد بديل للدين والفوائد المترتبة عليه، أصدر سام هاريسون كتابًا آخرَ له عام 2014 بعنوان "الصحوة.. دليل للروحانية بلا أديان". وفي هذا الكتاب يحاول هاريسون طرح بديل للأديان قائم على أنشطة دينية هندوسية والتي قضى سنتين في تعلُّمِها، لكنه يطرحها بطريقة تُفرِغُها تمامًا من أبعادها الأيديولوجية، فهو كمن يدعو للصوم للفوائد المترتبة عليه دون أن ينوى التقرب إلى الله من صومه.
وإثر هذه الدراسات والمحاولات، انتشرت الكثير من الحركات الروحية في الغرب، مثل: اليوجا والتأمل بمظاهرها المختلفة. ويتعين علينا أن نحذر بعض الشيء من هذه الحركات والمظاهر وانتشارها في مجتمعاتنا الإسلامية؛ فالبعض ربما يهدف لإضعاف ظاهرة التديُّن والتقليل من أهميتها عبر إيجاد هذه الطرق البديلة!
ومن الطرق الأخرى التي يتم استغلالها ومحاولة بثها في مجتمعاتنا الإسلامية، إطلاق عدد كبير من المفاهيم المرتبطة بالطاقة الإيجابية وأخرى مرتبطة بالتنمية البشرية، ومما يدعو للأسف بحق أن بعض تلك الممارسات تُصبغ بطابعٍ إسلاميٍّ وتُربط بموروثنا الإسلامي، مع أن تلك المفاهيم لا تمُت الى المفاهيم العلمية الصحيحة بصلةٍ؛ فهناك من يدّعي مثلًا بأن الارتباط بالأرض مثلًا يُفرِغ الشحنات السالبة من جسم الإنسان، ولذا فالسجود لله مثلًا على التراب له أثر إيجابي.
إننا لا ندّعي أن السجود لله ليس له أثر إيجابي على النفس الإنسانية، لكننا نتحفظ بشدة على التفسير المطروح، فإذا كانت هذه الشحنات السالبة أمورًا مادية يمكن إخضاعها للرصد والقياس، فإننا نؤكد أن هذا الصِنف من الشحنات لم يتم رصدها؛ فالشحنات الموجبة منها والسالبة ما هي إلّا وصف رياضي للشحنة، ولا علاقة لها بالأثر الإيجابي أو السلبي على النفس البشرية. أما إذا كانت أمور غير مادية، فلا يَصح استخدام مفاهيم علمية لتفسير تلك الظواهر؛ فالتفسير العلمي مُختصٌ فقط بالظواهر المادية القابلة للقياس والتجريب.
وانتشار الحركات الروحية في الغرب والعودة لها، يراها البعض رجوعًا إلى الدين، لكن في واقعها هي محاولة للاستفادة من الدين مع إفراغه من مُحتواه الفكري والعقائدي؛ فالدين الذي يدعو له الغرب قائمٌ على الطقوس والشعائر الخالية من أية مضمون.
إنَّ هذه الدعوة المتمثلة في إحياء الطقوس والشعائر مع إفراغها من مُحتواها الفكري والعقدي، شبيهة بدعوات مماثلة في بعض مجتمعاتنا الإسلامية؛ حيث تُغرس مظاهر الاهتمام بتلك الطقوس والشعائر دون أدنى اهتمام بمحتواها الفكري والعقدي، وبذلك فهي تلتقي تمامًا مع التوجُّه الغربي، وكلاهما يُفرغ الدين من قِيَمِه ومبادئه، ربما أحدها بقصدٍ والآخر دون قصدٍ.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: التی ی

إقرأ أيضاً:

رمضان الفوائد وليس الموائد!

 

فلندع السياسة وغثاءها جانباً، ولنرحل قليلاً في روحانية الشهر الكريم وما يحمله من فوائد جمة للإنسان المسلم، وعلى مختلف المستويات الصحية والذهنية والاجتماعية والنفسية، وقبل هذا وذاك الجانب الروحي الذي يحتاج من الغذاء الخاص به، ما لا يقل عن احتياجات الجسد من الأكل والشرب وإشباع الغرائز.

-يقول الأطباء والمختصون أن عبادة الصيام -ومن وجهة نظر علمية بحتة- تعد من أهم الوسائل الفعالة جدا لإعادة شحن الدماغ، وتعزيز نمو وتطور خلايا دماغية جديدة، وشحذ القدرة على الاستجابة للمعلومات من العالم المحيط.. وأثبتت الدراسات العلمية، أن الصيام يجعل الدماغ أكثر قدرة على تحمل الإجهاد، والتأقلم مع التغيير، كما يحسّن المزاج والذاكرة ويعزّز من القدرة على التعلّم.

-في الجوانب الصحية، يوضح الأطباء أن الصوم يساهم بشكل كبير في تعزيز الوقاية ضد عدد من الأمراض المزمنة، مثل السكري وارتفاع ضغط الدم، وأمراض القلب والأوعية الدموية، فهو يؤدي إلى إراحة الجهاز الهضمي، والتحكّم في الوزن، ويقلّل من ضغط الدم والكوليسترول، ويحسّن من وظائف القلب، ويساعد على تنظيم مستويات السكر في الدم كما يحسن من مستوى حساسية الجسم للأنسولين، ويعمل على تحسين صحة الجهاز الهضمي والتخلص من السموم ويحسّن وظائف الدماغ، ويعزّز الذاكرة والتركيز.. ويساعد على مكافحة علامات الشيخوخة، كما يقلّل من التوتر والقلق.

-الحديث عن الفوائد والمنافع الصحية، التي تعود على الإنسان المسلم نتيجة أدائه فريضة الصيام كثير ومتشعب، ولا يمكن لمقال صحفي عابر أن يحيط بها علماً، وهي تحتاج كما يؤكد أصحاب الشأن إلى أبحاث ودراسات ومجلدات كما أن الكثير منها ما زال غامضا وربما يكشفه العلم وتطوراته التي تؤكد يوما بعد آخر كيف أن الخالق العظيم رؤوف بعباده رحيم بهم، حتى التكاليف التي يستثقلها البعض ويغفل عنها البعض الآخر تنطوي على منافع جمة للعباد أمّا هو سبحانه وتعالى غنيٌ عن العالمين.

– على المستوى النفسي والذهني يقول المختصون أن الصوم يساعد على الشعور بالراحة النفسية ويعلّم الصبر والتحكم في النفس ويلعب الدور الكبير في تحقيق السلام الداخلي والعمق الروحي، ويترك صفاء ورقة في القلب، ويقظة في البصيرة، ويزيد من مستويات التأثر بالذكر والعبادات وهي التي تُعد الغذاء الرئيس للروح.

– في الأخير كل هذه المنافع التي يأتي بها شهر الخير والحب والسلام قد تصبح في حكم العدم إذا لم يتجسد المسلم في أدائه الصيام الغايات والمقاصد والالتزام بالآداب والأهداف لهذه العبادة وأبدى الحرص الكافي على التزوّد من هذه القيم والمبادئ الروحية السامية لا أن يجعل منه كما يفعل البعض للأسف موسما للتخمة والنوم وفي تضييع وقته في التفاهات والسفاسف، والتفنن في إقامة الموائد واقتناء والتهام ما لا يحصى من أنواع الأطعمة والمأكولات، فعندئذ يكون الصائم من هذا النوع مصداقا لقول الرسول الكريم عليه وآله أفضل الصلاة وأزكى التسليم” رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش”

مقالات مشابهة

  • ماذا لو تركت هاتفك لـ3 أيام فقط؟.. دراسة مثيرة تكشف التأثير على الدماغ
  • رئيس جامعة أسيوط يشيد بورشة عمل الصلب المشقوق والمثانة العصبية في الأطفال
  • 8 طرق لتجنب العصبية أثناء الصيام
  • الدماغ البشري يتفوّق على الذكاء الاصطناعي في حالات عدّة
  • هل هناك علاقة بين العمل الصحفي والعلوم الاجتماعية؟
  • رمضان الفوائد وليس الموائد!
  • دعاء لتهدئة العصبية أثناء الصوم
  • نص المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد عبد الملك بدر الدين الحوثي 1446هـ
  • (نص) المحاضرة الرمضانية الأولى للسيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي
  • دراسة: هل لدهون البطن دور إيجابي في صحة الدماغ؟