بشير عباس (1-4) ربيع الجنة داني !!
تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT
تضافرت عدة عوامل أفضت إلى نضوب جداول ألحان الأغاني السودانية؛ بالرحيل الأبدي أو الهجرة القسرية واغتراب الضرورة أو الظروف المعاكسة أو طول التجاهل و"الغربة البطالة"..وكان أن اندثرت ساقية الألحان وتعطّلت قواديسها..!
لقد نشطت رياح الرحيل والفقد وانقضت الأيام الخوالي إلا من بعض الاتكاءات والاجتهادات المتفاوتة: رحلت ثلة مباركة بعد سرور وكرومة وإسماعيل عبد المعين وعبدالحميد يوسف؛ برعي محمد دفع الله وبشير عباس وعبد الرحمن الريح، ومحمد آدم أدهم، وعلاء الدين حمزة، والموسيقار النوبي الجميل حمزة علاء الدين، وعلي مكي (والقمرين النيّرين خليل أحمد وأحمد زاهر) ثم وموسى محمد إبراهيم، وسليمان أبوداؤود، وحسن بابكر (حسن بابكر من أخطر الملحنين منذ كرومة.
وتوقفت بعض المزامير بعد أن كان فتحي المك يقوم بتلحين أغانٍ من شاكلة (تحرمني منك) و(حلوة الصدفة البيك جمعتنا) و (أرخي الرمش فوق الرمش)..أو عندما كان عمر الشاعر يوظف إيقاع "الفرنقيبا" في (أسير حسنك يا غالي)..!
لقد كان في المدرسة الوترية مطربون عمالقة يجيدون التلحين منهم ابراهيم الكاشف والتاج مصطفى وعثمان حسين وأحمد المصطفى وسيد خليفة وصلاح بن البادية ومحمد وردي وعبدالكريم الكابلي ومحمد الأمين والعاقب محمد حسن..وخوجلي عثمان..!
وترابط ثلة أخرى وهي تعاني التعب والإعياء وفقدان الإلهام والتحفيز، وبين بعض مظاليم الهوى هؤلاء عبداللطيف خضر (ودالحاوي) وشرحبيل أحمد، وصلاح مصطفى، ويوسف الموصلي، وعثمان النو، ويوسف السماني، وعبد الفتاح الله جابو، والنور الجيلاني، والجيلاني الواثق، والفاتح حسين، والماحي سليمان، وأحمد المك، والفاتح قميحة، وعبد الله التوم، وعبد القادر سالم، ومحمد سيف، وعبدالله شمو.. وآخرين..!
تلك أيام خلت..! وهذا ما جعل الأغنية السودانية تعاني حالياً من نضوب في الألحان لا تكاد تخطئه العين ولا الأذن..!
**
الأخ الصديق الباحث النحرير صلاح شعيب أوضح أن الرجل الكبير الراحل المغفور له "محمد عثمان يس" الوكيل الدائم لوزارة الخارجية وقتها . ساهم كثيراً في تيسير ابتعاث برعي محمد دفع الله إلى لندن، وجمعة جابر إلى موسكو، والتاج مصطفى إلى ايطاليا، وعبدالله عربي إلى النمسا لزيادة معارفهم في الموسيقى.. فكراً وفناً وممارسة...فأين ذلك الآن..؟!
(بهذه المناسبة فإن محمد عثمان يس كان من مؤسسي الخارجية السودانية وروادها الأوائل وهو مؤلف أول باليه سوداني "باليه الشاعر" عن قصيدة بشارة الخوري "الاخطل الصغير" في رثاء الشاعر احمد شوقي..وللأسف رحل أستاذ يس قبل أن يجد يرى أول باليه سوداني على خشبة المسرح القومي بأم درمان)..!
(وبالمناسبة أيضاً فقد غنى التاج مصطفي من كلمات بشارة الخورى اللبناني "الأخطل الصغير" أغنيته العذبة (المها أهدت إليها المقلتين / والظِبا أهدت إليها العُنُقا)..!
فهما في الحسن أسنى حليتين
للعذراى جلّ من قد خلقا
ورمى في صدرها رمانتين
فهما في صدرها كالموجتين
أي صب ما تمنّى الغرقا؟
أو هما -وليسلما- كالتوأمين..
كلما همّت بأمر قلِقا..!
**
بعضنا ربما طاب له استرجاع اللحن الجميل الذي وضعه بشير عباس لأغنية (مشوار) لسيف الدين الدسوقي:
بتعرف إني من أجلك..
مشيت مشوار سنين وسنين
مشيت في الليل إلى الغربه
على الكلمات ودمع العين
وعشتك لمّا فارقتك..
حروف تتغنى بيك حنين
بتعرِف..؟ إنتَ ما بتعرِف..
أنحن بحبكم هايمين..
بتعرف..؟!!
وبعضنا قد يتوقف عند اللحن الفخيم الذي كلل به بشير أغنية الكابلي "طائر الهوى" للحسين الحسن:
طائر الهوى جناحه ماله..؟
راشه النوى؟
أم الجوى غاله..؟!
مسكين..مسكييييييييين…طائر الهوى
أو ربما حاول أن يسترجع أول لحن أهداه بشير عباس إلى صاحب الحنجرة الذهبية عبدالعزيز محمد داؤود في أغنيته العجيبة التي كتبها عبدالله النجيب "شاعر العيون":
أشوفك في عيني
ربيع الجنة داني
لو تسال حنيني
أو تلمس حناني.
إيه بينك وبيني..؟
غير أنبل معااااااااني..!
وهذا اللحن يشير إلى البدايات اللحنية الجسورة والمتجاوزة لبشير عباس، وما يمثله هذا اللحن على صعيد النضج المبكر، ومن جهة ثالثة ما تمثله هذه الخطوة من جرأة في اقتحام عرين الفنانين العِظام من ذوي العيار الثقيل مثل (أبو داؤود)، الذي يمثل أحد القمم الشواهق في عالم الغناء والألحان والموسيقى في بلادنا.
ومن جهة رابعة وأهم من كل ذلك؛ أن لحن هذه الأغنية كشف عن كُنه الموهبة الكامنة التي بدأ أكمامها تتفتّح بين أزهى تويجات حقول الألحان، حيث أضحى لحن هذه الأغنية يمثل لونية مميّزة وتياراً نغمياً خاصاً بين التيارات اللحنية والأدائية التي تميّز بها أبوداؤود فيما بعد عبر مسيرته الفنية الخصيبة..!
عبد الله النجيب هو (شاعر العيون الثاني) حيث أن الأول هو احمد إبراهيم فلاح (فلاح الكبير) صاحب "ديوان العيون"؛ ومن قصائده الغنائية "عيوني وعيونك أسباب لوعني" و"عيونك عَلمن عينيّ بُكا الخنساء" و"عيوني هم السبب في أذاي وهم العيوني" و"عيونك الغزلية أذى وشفا ودوا ليا" و"عيونك علمني الحب والغزل" و"يا عينيّ النوم النوم.. ليه جفاك الليله)؟" و"احبك يا نور عيوني" و"عيوني باكية وساهرة وعيونو ناعسة كحيلة".
**
لك أن تسمع عزف بشير عباس وأنفاس الصفير بالفم في المقطوعات والأغاني على شاكلة: "حيّرت أفكاري معاك إنت" و"سمير الروح قلبي سميرو" و"من أريج نسمات الشمال" و"حاول يخفي نفسو" و"ما هو عارف قدمو المفارق" و"حجبوك من عيني ليه يا ترى؟" و"حجبوه من عينيّ إلا من قلبي لا" و"لاقيتو باسم" و"بطرا اللي آمال وغاية" و"القمر في كنانة" أو لحن أغنية خالد أبو الروس "المقرن في الصباح "..الخ
يا حبيبي قوماك ننفرد..
على مقرن النيل الظليل…
ولك أن تتوقف عند تلحينه لأغنية حسن عطية التي كتبها السر دوليب:
حُبو زي النيل..
جاري في وجداني
في الملامح عربي..
وفي الجمال سوداني.. !.
أو أغنية (كنوز محبة) الجميلة عند زيدان إبراهيم والتي كتبها كلماتها د.بشير عبد الماجد:
لمّا تشتاق للمشاعر تملا دنياك بي عبيرا
لمّا تشتاق للعواطف..تنسجم تلبس حريرا
ابقى اسأل عن قلوبنا
تلقى فيها كنوز محبة
تلقى فيها بحور حنان
تلقي فيها الشوق يغني
تلقى فيها الريده فارده..جناحا تشتاق للربيع
..يا ربيع يا ربيع..إلخ
أو "يا سهارى" لمحمد حسنين"..أو أغنية كبرياء التي كتبها أبو آمنة حامد:
ما بتنشتل الزهرة في الأرض اليباب
وما كل نجمة تضوي ليل..
ولا كل سحابه بتنهمل
ضمّخت إنت محبتك
بالشوق ..بالخير ..بالأمل
أو (الشال قلبي وسلا) للثنائي الكردفاني..أو أغنية ثنائي النغم "زينب وخديجة" (أمير الناس): عباس:
ما زلت عني بعيد..
ما حرّكك إحساس..
ما زلت أجمل زول
اسمك أمير الناس..!
إلخ
ما كان أجدر أن يُفرَّغ بشير عباس للتلحين والتأليف والأداء الموسيقي، وأن ينشأ مركز للموسيقى وفنونها الأدائية..باسمه أو باسم أستاذه وصديقه "برعي محمد دفع الله" الهرم الأكبر في عالم الألحان..!
**
السؤال هو: هل من الممكن تعليم وتعلّم الألحان والتأليف الموسيقي..؟! أم هي من غوامض الإلهام على نهج: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يَعرشون)..؟!
مرتضى الغالي
murtadamore@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التی کتبها بشیر عباس
إقرأ أيضاً:
إفطارهم فى الجنة.. محمد جبر شهيد الواجب الذى لم يرحل
في قلب كرداسة، هناك شوارع لا تزال تحمل صدى ذكريات الشهيد محمد جبر، مأمور القسم الذي دفع حياته ثمناً لأداء واجبه، لم يكن مجرد ضابط شرطة، بل كان رجلاً من لحم ودم، حمل على كاهله أمانة الوطن وراحته، هكذا يصفه كل من عايشه، هكذا تتذكره أسرته، وكأن روحه لا تزال تُرفرف في كل زاوية من هذا المكان الذي شهد آخر لحظاته.
محمد جبر، ذلك الرجل الذي رسم صورة للمثابرة، كان دائمًا ما يردد بين زملائه: "كلنا في خدمة الوطن، وإذا كان هناك من يتوقع أنني سأخاف، فهو لا يعرفني". كان شامخًا، رغم كل التحديات، يتحمل مسؤولياته بكل شجاعة وهدوء، لم يكن يهاب الصعاب، بل كان يقف دائمًا في الصف الأول ليحمي وطنه وأهله، تمامًا كما تعلم في كلية الشرطة، أن أسمى رسالة هي حماية المجتمع بكل ما يملك.
كان يومًا عاديًا، لم تتوقع أسرة الشهيد محمد جبر أنه سيكون آخر يوم في حياة ابنهم، لكن عندما جاء الصباح، جاء معه خبر الفاجعة، استشهد محمد جبر أثناء دفاعه عن مركز شرطة كرداسة، تلك المنطقة التي شهدت تطورات أمنية خطيرة. وعندما انتقل إلى جوار ربه، كانت الدموع في عيون الجميع، ولكن بقيت هناك ابتسامة حزينة على وجهه، ابتسامة تطمئنهم أنه كان قد أتم مهمته على أكمل وجه. "لم يكن يُخشى عليه، فقد كان البطل الذي يعرف كيف يحمي وطنه بروح عالية".
قالت أسرته في تصريحات سابقة لليوم السابع، بصوت يكاد يخبئه الحزن: "كان محمد هو الحلم الذي لم يكتمل، كان أبًا يُحيي الأمل في قلوب أولاده، وكان زوجًا يعكس أسمى معاني الوفاء. والآن، كلما نظرت إلى أبنائنا، أرى فيهما ملامحه وابتسامته التي لا تموت". لا تستطيع أن تمسك دموعها، لكن في قلبها تنبض مشاعر الفخر بما قدمه زوجها من تضحيات.
لا تكاد الذاكرة البصرية تخلو من صورة محمد جبر، التي تملأ غرفته في منزله ،صورة تعكس شجاعة وقوة رجل لا يعرف الخوف، فقد كانت الخدمة في شرطة كرداسة، في تلك الأيام العصيبة، رحلة محفوفة بالمخاطر. "هو في قلوبنا لا يموت"، هكذا يقول محبيه وهم يعانقون صوره، كانت الكلمات تتردد في حديثهم "محمد لم يكن مجرد اسم، بل كان عنوانًا للشجاعة والصدق، ومع كل فجر جديد، نقول له: أنت في القلب دائمًا".
وبينما يمر الوقت وتظل حكايات الأبطال تتوارث من جيل إلى جيل، يبقى الشهيد محمد جبر رمزًا للصمود والشجاعة. لم يكن مجرد ضابط شرطة، بل كان رمزًا للمسؤولية وحب الوطن. يبقى اسمه في قلب كل من يعرفه، وسيظل ضوءًا يضيء سماء كرداسة وكل مصر، يذكرنا بأن العطاء لا يُقاس بمدة، بل بنبل الهدف والشرف الذي خلفه.
في كل زقاق، وفي كل شارع، تحيا ذكرى محمد جبر، وتبقى قصته شاهدة على أن الشهداء لا يموتون، بل يتجددون في قلوبنا، ويتسابقون مع الزمن ليجعلونا نرفع رؤوسنا بكل فخر.
في قلب هذا الوطن الذي لا ينسى أبنائه، يظل شهداء الشرطة رمزًا للتضحية والفداء، ويختصرون في أرواحهم أسمى معاني البذل والإيثار، رغم غيابهم عن أحضان أسرهم في شهر رمضان، يبقى عطاؤهم حاضرًا في قلوب المصريين، فالوطن لا ينسى من بذل روحه في سبيل أمنه واستقراره.
هم الذين أفنوا حياتهم في حماية الشعب، وسطروا بدمائهم صفحات من الشجاعة والإصرار على مواجهة الإرهاب، هم الذين لم يترددوا لحظة في الوقوف أمام كل من يهدد وطنهم، وواجهوا الموت بابتسامة، مع العلم أن حياتهم ليست سوى جزء صغير من معركة أكبر ضد الظلام.
في رمضان، حين يلتف الجميع حول موائد الإفطار في دفء الأسرة، كان شهداء الشرطة يجلسون في مكان أسمى، مكان لا تدركه أعيننا، ولكنه مكان لا يعادل في قيمته كل الدنيا؛ فإفطارهم اليوم سيكون مع النبين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا.
مع غيابهم عن المائدة الرمضانية في بيوتهم، يظل الشعب المصري يذكرهم في صلواته ودعواته، تظل أسماؤهم محفورة في ذاكرة الوطن، وتظل أرواحهم تسكن بيننا، تعطينا الأمل والقوة لنستمر في مواجهة التحديات.
إن الشهداء هم الذين حفظوا لنا الأمان في عز الشدائد، وهم الذين سيظلون نجومًا مضيئة في سماء وطننا، فلهم منا الدعاء في كل لحظة، وأن يظل الوطن في حفظ الله وأمانه.
مشاركة