سوريا الجديدة.. رابح وخاسرون كُثر
تاريخ النشر: 30th, December 2024 GMT
بعد مضي أسابيع على نجاح ثورة الشعب السوري ضد نظام آل الأسد، وهروب الرئيس المخلوع بشّار من سوريا، تاركًا وراءه كل من وقف معه وإلى جانبه، وقدّم الدماء لأجله ظانًا أنه إلى الأبد أو أنه الأقدر على حماية البلد من "المؤامرات الخارجية" ومن ملايين "الإرهابيين" من أبناء الشعب السوري المشرّدين والنازحين واللاجئين في أصقاع الأرض، كما كان يُعلن ويكرّر، وتاركًا وراءه شرائح من تجّار الحروب المنتفعين والمستفيدين.
هذا التغيّر الكبير في المشهد السوري، يسير حتى اللحظة بهدوء، في ظل فرحة وحذر، لأن الحرية كقيمة إنسانية منشودة في العالم العربي، وفي المشرق العربي، لها خصومها إن كان على مستوى الأنظمة اللاديمقراطية أو المستبدّة، أو على مستوى النخب السياسية والإعلامية والاقتصادية التي ربطت نفسها ومصيرها بتلك الأنظمة السلطوية المؤلّهة.
بعض القوى والأنظمة العربية، ستنظر لهذه الثورة والنجاح ضد الاستبداد بكثير من الريبة، خشية العدوى وتكرار السيناريو في هذا البلد أو ذاك، لا سيّما أن بلدانها ما زالت تعاني من الفساد والتخلّف، والتدهور الاقتصادي، وكبت الحريات المستفحل بعد "الربيع العربي".
إعلانإن نجاح الثورة في إسقاط النظام، ومن ثم نجاحها لاحقًا في ترتيب الأوضاع الداخلية لسوريا والنهوض بها اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا، ربما لا يلقى قبولًا لدى بعض الأنظمة المستبّدة القائمة على التحكم في الشعوب ومقدراتها، ومن هنا ليس مستبعدًا أن تذهب تلك الأنظمة إلى اللعب في أمعاء السوريين بتحريض بعض المتضررين من الثورة، من مخلّفات المرحلة الماضية، ودعمهم لإثارة النعرات الطائفية والمذهبية والعِرْقية لزعزعة أمن واستقرار البلد.
وهذا يستدعي الحذر، بتمتين البيئة السورية الداخلية، والانفتاح على الدول العربية وطمأنتها على قاعدة احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وفتح أبواب التعاون مع من يريد الخير لسوريا والمنطقة.
إسرائيل والمنظومة الغربيةفي خطٍ موازٍ، الاحتلال الإسرائيلي هو الآخر قلق من مآلات الثورة السورية، فالحرية لأي شعب عربي ليست في صالح إسرائيل، علاوة على أن تل أبيب، تخشى من الثوار الجدد بصبغتهم الإسلامية، الأمر الذي تلتقي عليه المنظومة الغربية أيضًا، لقناعتهم أن الإسلاميين برؤيتهم القيَميّة والسياسية وتطلعهم للاستقلال والنهوض كأمّه، يشكل ذلك تحديًا لهم ولدولهم المهيمنة والمسيطرة على حوض البحر الأبيض المتوسّط، ومصادر الطاقة، والسوق الاستهلاكي في عموم الدول العربية.
إسرائيلُ المحتلة لفلسطين ولأراضٍ سورية، والدولُ الغربية "الديمقراطية" ذات الطابع الاستعماري، لن تكون مسرورة كثيرًا من التغيّر الذي يقود سوريا وشعبها إلى الحرية والاستقلال والنهوض، فسوريا ليست بلدًا هامشيًا في العالم العربي، ولذلك فإن تلك الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية ستسعى لاحتواء أي نظام جديد في دمشق وفقًا لسياستها الخارجية وخطوطها الحمر، ومنها إسرائيل ومصالحها، كأحد أهم محددات العلاقة مع واشنطن، التي تملك القدرة على محاصرة أي بلد عبر نفوذها في المؤسسات الدولية، وعلاقاتها السياسية والاقتصادية العابرة للقارات.
إعلانلذلك فإن المرحلة القادمة، ستشهد جولات من التواصل والحوارات بين دمشق والعالم الغربي وخاصة واشنطن، لاطمئنان الأخيرة بألا تصبح سوريا الجديدة تهديدًا لـ "مصالحها"، وستكون ملفات معقّدة موضوعة على الطاولة ومنها؛ إسرائيل واحتلالها لأراضٍ سورية، والنفوذ الإيراني، وملف الأكراد السوريين المدعومين من الولايات المتحدة؛ بذريعة محاربة تنظيم الدولة، وطبيعة الحكم في دمشق وسياسته الداخلية والخارجية.
فالولايات المتحدة ستحاول جاهدة ابتزاز دمشق وقيادة الثورة؛ بهدف تدجينها وتكييفها بما يتلاءم مع مصالح المنظومة الغربية، تحت سيف التهديد بعدم الاعتراف بالنظام الجديد، ومحاصرته والتضييق على الشعب السوري إذا اقتضى الأمر، فالمنظومة الغربية وفي مقدمتها واشنطن يهمّها مصالحها ومصالحها، فقط بغض النظر عن القيم الإنسانية وحرية الشعوب وحقوق الإنسان، وخير شاهد على ذلك ما يحصل للشعب الفلسطيني من إبادة جماعية بغطاء وسلاح أميركي في قطاع غزة.
إيران خسرت ولكنسقوط نظام الأسد، شكّل خسارة كبيرة لطهران، التي دفعت أثمانًا كبيرة لحمايته منذ اندلاع الاحتجاجات الشعبية، باعتباره حليفًا إستراتيجيًا، أتاح لإيران الاستفادة من الجغرافيا السياسية لموقع سوريا شرق المتوسّط، وبكونها ممرًا بريًا إجباريًا للوصول إلى لبنان وحزب الله اللبناني.
خسارة إيران في سوريا مركّبة، فهي لم تخسر نظامًا وإنما خسرت بلدًا كاملًا بأرضه وشعبه؛ بسبب موقفها المعادي للثورة السورية منذ العام 2011، واشتراكها أمنيًا وعسكريًا مع حزب الله والعديد من الفصائل الطائفية في إسناد بشار الأسد ونظامه المسؤول عن سقوط مئات آلاف الضحايا، وتدمير المدن، وتشريد نصف الشعب السوري.
ما سيعقّد المشهد أمام إيران ومستقبل علاقتها بدمشق والقيادة الجديدة، اتهامها فصائل الثورة بعد دخولها دمشق وهروب بشار الأسد، بأنها أدوات لقوى أجنبية، وتلويحها بأن الأمر لن يستقر لها في سوريا.
إعلانإن لم تستدرك طهران على موقفها، واعترفت بالأمر الواقع الذي صنعته الثورة السورية ورحّب به الشعب السوري، فإن خسارتها ستتعاظم، لأن سوريا هي صلة الوصل بين إيران ولبنان، وهي الأكثر تأثيرًا على البيئة اللبنانية التي تتنفس من العمق والجغرافيا السوريّة.
من مصلحة إيران أن تعيد النظر في موقفها من الثورة السورية؛ لأنها تعبير عن إرادة شعب نشد حريّته أولًا، وثانيًا لأن حزب الله اللبناني ليس في وضع جيد بعد المعركة الأخيرة مع الاحتلال الإسرائيلي، وما زال خاضعًا لمقتضيات القرار 1701، ولموجبات اتفاق وقف إطلاق النار بإشراف الأمم المتحدة، وفرنسا، والولايات المتحدة الحليف الأوثق لإسرائيل التي تتربص بلبنان، وقد لا تنسحب من أراضيه التي احتلتها خلال العدوان الأخير.
إن مصلحة إيران وحزب الله اللبناني تقتضي، التعامل بإيجابية مع الإدارة السورية الجديدة في دمشق، وتأييد الشعب السوري وتطلعاته، وطي صفحة الماضي، والبناء على ما استجد من واقع، حتى وإن جاء متعارضًا مع مواقف إيران وسياساتها السابقة.
حرية الشعب السوري وحقه في تقرير مصيره لا تتناقض مع مصالح القضية الفلسطينية، فالشعب السوري كان وسيبقى داعمًا وسندًا طبيعيًا لفلسطين، والتقاطع مع سوريا الجديدة سيخدم هذا التوجّه، فالثورة السورية والشعب السوري مع فلسطين قبل وبعد الأسد، وهذا مدعاة لتدوير الزوايا الحادة في العلاقات السياسية على قاعدة احترام سيادة الدول، وإرادة شعوبها.
من يملأ الفراغ؟تعد تركيا بعد الشعب السوري، الرابح الأكبر من نجاح الثورة، فهي التي دعمتها منذ العام 2011، واستقبلت في سياقها أكثر من 3 ملايين لاجئ سوري، وبعد تعنّت بشار الأسد ورفضه التسوية السياسية، أعطت تركيا الغطاء لفصائل الثورة لأن تتقدّم نحو حلب، ومن ثم حمص، وحماة، ودمشق.
الاستقرار الحكومي والمجتمعي في سوريا، ووحدة الأراضي السورية، يعدّان محدّدين مهمّين للأمن القومي التركي، لأن الاستقرار يعني فرصًا كبيرة للاستثمار في العلاقات الثنائية في كافة المجالات بين بلدين مهمّين يربط بينهما تاريخ مشترك، وحدود تصل لنحو 900 كيلومتر.
إعلانكما أن وحدة الأراضي السورية، ستمنع شبح قيام كيان سياسي كردي على الحدود التركية الجنوبية، فتركيا ترى في أي كيان سياسي عِرقي/كردي على حدودها، أنه سيؤثّر على تركيا مباشرة وعلى استقرارها الداخلي، فهي ما زالت تعيش أزمة علاقة مع شرائح من المكوّن الكردي التركي داخل أراضيها، بمعنى أن وحدة الأراضي السورية تعني وحدة للأراضي التركية أيضًا.
إذن تركيا علاوة على أنها رابحة، فهي ستعمل على دعم سوريا الجديدة في كل القطاعات السياسية والاقتصادية والطبية والبنى التحتية والأمنية والعسكرية؛ لأن نجاح التجربة السورية سيعد نجاحًا لتركيا ولأمنها القومي من منظور إستراتيجي.
ومن هنا فإن دخول تركيا وقطر الدولتين الصديقتين، والداعمتين للثورة السورية، سيكون فرصة كبيرة لهما كما لسوريا الجديدة، للاستثمار وبناء الشراكات الإستراتيجية، ولعل وزن الدولتين؛ قطر وتركيا في الإقليم سيكون عاملًا مساعدًا لسوريا لتجاوز التحديات الأمنية والاقتصادية والسياسية، ومواجهة فرضيات الحصار، أو العبث بأمن واستقرار سوريا في المدى المنظور.
يبقى الرابح الأكبر هو الشعب السوري، الذي امتلك طريق الحرية والحق في تقرير مصيره، وبلا شك أن نجاح السوريين في إدارة بلدهم سيكون خيرًا، ليس فقط لسوريا، وإنما للمنطقة وأصدقاء الشعب السوري، الذي تحمّل عناءً وظلمًا استثنائيًا آن له أن ينتهي.
سوريا الجديدة ستعيد رسم ميزان القوى في الشرق الأوسط، وستعيد تركيب التحالفات في المنطقة، فنحن على أعتاب ميزان قوى إقليمي جديد؛ ففي الوقت الذي بدأت فيه إيران تتراجع في سوريا ولبنان، وقد يتأثر حضورها لاحقًا في العراق، فإن تركيا تستعد لملء الفراغ شرق المتوسّط المتاخم لحدودها الجنوبية والذي يعد ضمن مجالها الحيوي.
هذا تحوّل إقليمي مهم، وتموضع ستنحاز له بعض الدول العربية الأقرب لتركيا وسوريا الثورة، وتناوئه دول أخرى لا تلتقي مع تركيا لأسباب تنافسية أو لأسباب أيديولوجية على قاعدة رفض حكم الإسلاميين إن كانوا بلحية أم بربطة عنق، أو لأسباب دولية تتعلق بنظرة الولايات المتحدة الأميركية المستقبلية لهذا التموضع، فالعديد من الدول تحرص على البقاء في الفلك الأميركي وما يقتضيه ذلك من مواقف سياسية.
إعلانسوريا الجديدة ونجاح الثورة السورية، يعدّ ذلك مُعْطًى مهمًا على أعتاب مرحلة حسّاسة يعيشها الشرق الأوسط، فالمنطقة تعيش مخاضًا لم ينته بعد؛ إن كان في فلسطين، ولبنان، والعراق، وإيران، واليمن، وشرق المتوسّط، والبحر الأحمر، فالمنطقة تسير على سطح رمال متحرّكة تحتاج الكثير من الوقت والجهد والمعارك حتى تستقر، وأحد أهم معالم استقرارها أن تملك الشعوب حريّتها وحقها في تقرير مصيرها، وهذا مشوار طويل ولكنه ربما بدأ.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الثورة السوریة سوریا الجدیدة الشعب السوری المتوس ط فی سوریا نجاح ا
إقرأ أيضاً:
التحولات السورية ترسم خارطة العلاقات بين حلفاء إيران في الداخل العراقي
2 يناير، 2025
بغداد/المسلة: مع تصاعد الحديث عن تغييرات محتملة في خارطة الشرق الاوسط بعد سقوط النظام السوري، تبدو إيران غير متفائلة بمستقبل العلاقات مع دمشق في ظل الإدارة الجديدة.
التصريحات الأخيرة لعلي لاريجاني، مستشار المرشد الإيراني وعضو مجمع تشخيص مصلحة النظام، تعكس موقفاً متحفظاً يحمل في طياته إشارات تشكيك بقدرة النظام السوري على تحقيق استقرار داخلي أو تبني نهج سياسي يرضي الحلفاء الإيرانيين.
لاريجاني، في حديثه مع التلفزيون الإيراني، عبّر عن استبعاده تشكيل حكومة ديمقراطية في سوريا، معتبرًا أن البلد يعيش حالة من الفوضى حيث تتقاسم قوى دولية وإقليمية النفوذ على أراضيه. وتطرق إلى العلاقات مع الإدارة السورية الجديدة، مؤكدًا أن استمرار الدعم الإيراني مرهون بسياسات دمشق. لكنه في الوقت نفسه لم يخفِ تساؤلاته حول مدى التزام النظام الجديد بوعوده تجاه الشركاء الإقليميين، مما يسلط الضوء على تزايد فجوة الثقة بين الجانبين.
التشاؤم الإيراني تجاه مستقبل النظام السوري لا يقتصر على الجانب السياسي، بل يمتد ليشمل أبعادًا استراتيجية أوسع. لاريجاني أشار إلى أن سوريا أصبحت ساحة للتدخلات الدولية المتقاطعة، وقلّل من أهمية التحركات الدبلوماسية التي وصفها بـ”الاستعراض السياسي”.
هذه القراءة الايرانية لها صلة مباشرة بالأطراف العراقية المقربة من إيران.
في العراق، حيث النفوذ الإيراني يلعب دورًا رئيسيًا، قد تجد القوى السياسية المتحالفة مع طهران نفسها أمام اختبار صعب.
التحالفات التقليدية بين هذه القوى ربما تتعرض لهزة في ظل التحولات السورية، ما قد يؤدي إلى إعادة رسم خريطة العلاقات حتى في الداخل العراقي.
إيران، التي طالما اعتبرت دعم النظام السوري جزءًا من استراتيجيتها الإقليمية لمواجهة إسرائيل وتعزيز محور المقاومة، تجد نفسها الآن أمام واقع معقد.
و تصريحات قائد الثورة الاسلامية، آية الله علي خامنئي في ذكرى اغتيال قاسم سليماني حول “حتمية انتصار جبهة المقاومة” رسالة لتأكيد الاستمرار في هذا النهج، لكنها أيضًا تعكس إدراكًا للصعوبات المقبلة.
مع دخول المنطقة مرحلة جديدة من إعادة ترتيب الأولويات والتحالفات، يبدو أن إيران تعيد تقييم حساباتها تجاه النظام السوري الجديد، وهو ما قد يترك تداعيات بعيدة المدى على المشهد السياسي في العراق وسوريا على حد سواء.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post Author AdminSee author's posts