لجريدة عمان:
2025-01-31@23:54:06 GMT

المعرفة كأيقونة لمشروع التقدم الاجتماعي

تاريخ النشر: 29th, December 2024 GMT

تضع دول العالم بناء مجتمع المعرفة ضمن أولويات خططها ومهامها التي تعدها للمسـتقبل لتخطو نحو التطور والتنمية بخطى ثابتة تسـتند إلى أسس معرفية، وهناك حقيقة تستحق الوقوف عندها ولا تقبل الجدل وهي أن جل أمم الأرض الناهضة لم تحقق تقدما يذكر، ولم يكن لها أن تحقق هذا الحضور الكبير في عالم اليوم قوةً ومكانةً وتأثيرًا إلا عندما توجهت لمسائل وقضايا تتركز حول قضايا تطوير التكنولوجيا والإنتاج العلمي وبناء المجتمع المعرفي.

إنَّ المعرفة وعصرها أصبحا عاملين أساسيين لزحزحة التفكير التقليدي، حيث لم تعد الأساليب القديمة في القيادة والإدارة قادرة على مواكبتها وذلك ما خلق معيارًا مهمًا لقياس مستوى تميز أي مجتمع عن الآخر من خلال مدى تميز نشاطاته المعرفية الرئيسية، وتتمثل تلك النشاطات في توليد المعرفة من خلال البحث والتطوير، ونشرها بالتعليم والتدريب وعبر وسائل الاتصال المختلفة، ثم توظيف المعرفة والاستفادة منها في الارتقاء بالإنسان وإمكاناته الاجتماعية والمهنية، وفي تقديم منتجات حديثة ذكية ومتجددة.

إلا أن ما يثير الاستغراب هذا التوهم الكبير بإمكانية صناعة عالم متقدم ماديًا وتقنيًا دون الولوج أيضًا لعالم الأفكار الكبرى التي شكلت الجسد الذي نما في أحشائه العلم، وتبلور وازدهر وأسهم في تقدم البشرية، ومن المحزن أن يلجأ البعض عندما لا يستطيع ربط سياق المعرفة ومنهجها بمحاولة تفكيك المقترحات التطويرية بحجة أن طرحها نظري بينما العملي في رأي تلك الفئة أن تأتي الحلول متسقة مع واقعهم الحالي الذي هم أوجدوا مشكلاته وأصبحوا جزءًا من المشكلة وليس حلها... إن ما تبحث عنه تلك الفئة من مؤشرات تقليدية وغير تقدمية والتي لا يجب أن تكون من خارج الصندوق بحيث لا تتجاوز أطر التفكير بواقع اجتماعي مغرق في قضاياه، وبالتالي تأتي فكرة التغيير في سياق لا تتحرك فيه عناصر التقدم ضمن مشروع ثابت وراسخ ليصبح الإنجاز مشروعا احتفاليا معزولا عن السياق العام في المجتمع فهو وإن حقق تقدمًا في مرحلة إلا أنه يمكن أن يتعثر في مراحل أخرى.... أما السبب فيعود إلى أن التقدم لا يقوده تراث والتنمية المادية والاجتماعية والبشرية لا تقودها أحلام وأمنيات ولكن يقودها خطط شاملة وخيال قيادي مبدع يشجع الفكر، ويحفزه ويوجد بيئة لديها قابلية إلى خلق ثقافة معرفية متميزة في المجتمع، تشكل الدعم الفاعل له والتشجيع والمساندة وتحترم قدرات التفكير والإبداع والبحث والتجديد وتبرزها بصورة جلية.

فلا تقدم ولا تنمية ولا حضور ولا إنجاز طالما كنا متخلفين علميًا وتقنيًا، ومتراجعين في قدرتنا على إنتاج وتوظيف العلوم التقنية لصالح مشروع كبير يتجاوز في تركيزه الجدل المسيطر على مشهدنا الغارق حتى أذنيه في احتفالات مظهرية لم تستطع صنع الفارق.. لذلك يجب أن يعاد طرح السؤال على النحو التالي: كيف يمكن لنا أن نستخدم المعرفة لقيادة التطوير دون التأثر سلبًا ببعض الفئات التي لا تزال تتساءل ما هو العلم ؟ كيف يمكن لنا أن نتعاطى مع مشروع تقدمي معرفي دون أن يكون ثمة تأسيس لعقل جمعي يؤمن بحرية تداول الأفكار ومناقشتها وتوليدها ؟

إن التحولات والمتغيرات من حولنا التي طالت مفاهيم مهمة كالقيم الاجتماعية، المواطنة والانتماء، دور المرأة والعدالة الاجتماعية، المشروع الثقافي والتباساته، حرية التعبير وقضاياه، التفكير الديني ودوره في صياغة المجتمع، النخب وعلاقاتها بصناعة القرار ... كل هذه قضايا ليست كلامًا عابرًا أو توهمًا ثقافيًا أو حشوًا مصطنعًا، وعليه هل يمكن صياغة مشروع تقدمي دون مجتمع قادر على حسم خياراته تجاه تلك القضايا وسواها؟ هل يمكن أن نتقدم خطوة عبر ثقافة عمل وإنتاج قديمة ونتوجه نحو مجتمع المعرفة دون أن يكون بمقدورنا أن نقدم أيضًا مشروعًا يطول مسارات وأولويات وقضايا هي شغل الناس الشاغل.

ومن الأهمية بمكان التأكيد على أنه أصبح لمجتمع المعرفة أبعاد مختلفة ومتداخلة وهي أبعاد اقتصادية واجتماعية وتكنولوجية وثقافية وسياسية.. وهذه الأبعاد لابد أن تستغل بالشكل الأمثل حتى لا نظل على هامش المجتمع الدولي، ولذا فمن الضرورة عند وجود القناعة ببناء مجتمع المعرفة العماني، أن تتم دراسة التجارب الناجحة للدول المتطورة التي أقامت مجتمعاتها المعرفية وفق خصائصها الذاتية مع الاستفادة من تجارب الشعوب الأخرى التي أصبحت لديها المعرفة بمثابة (DNA) التفوق في صياغة أنماط الحياة وتشكيل الذوق الفني والقيم، وضاعفت من سرعة المنجزات العلمية والإبداعية .

إن الحديث عن أهمية مجتمع العلم والمعرفة وضرورة المضي فيه يجب أن تواكبه ثقافة اجتماعية لاحتضانه، مرتبطة بالمشروع الوطني الذي تتسع مساحته لتطول قضايا كبرى تتعلق بالإنسان تكوينًا وهويةً واختيارًا وقدرة على صناعة عالمه أو المشاركة في صناعته على النحو الذي يريده أو يأمله أو يطمح إليه... والفصل بينهما يذكرنا بالسؤال الأزلي هل تأتي عربة المعرفة وتطبيقاتها العلمية قبل حصان التقدم الاجتماعي أم الرهان أن يجرّ هذا الحصان العربة بما فيها ؟ هل يمكن تجزئة المعرفة إلى عناوين يمكن الاقتراب منها ومباشرتها، وأخرى يجب حذفها وتأجيلها ؟.... إن الربط بين المشروعين الوطن والمعرفة يجعلنا نركز على إيجاد الأسس المهمة لجعل الوطن حاضنة للمجتمع المعرفي، رؤيةً وبشرًا وإمكانيات وبما يبشر بإمكانية تحقيق إنجازات كبرى على المسارين، ويسهل على المشروع المعرفي أن يتماهى مع الوطن ورأس ماله البشري والاجتماعي .

وختامًا، فإن إثارة الأسئلة الشاقة على المستوى الثقافي والاجتماعي هي وسيلتنا لنشارك في عضوية نادي التنمية العالمي ونحقق مجتمع المعرفة ونعزز حضور العلم ونتائجه وحصاده.... إن ما يتهمه البعض بأنه سجال ثقافي غير منتج قد يكون في الأساس منطلقًا حقيقيًا؛ لكي يحقق تأثيرًا في عقل المجتمع بل ويعول عليه أن يدعم التوجه نحو بناء مجتمع معرفي وطني وبرؤية جمعية تشكل الوعي الحقيقي الذي لا يرى العلم من ثقب المحاضرات الثقافية والتقنية المادية فقط ولكن من خلال قدرة القاعدة الاجتماعية على إنتاج عقل قادر على استعادة السؤال بلا وجل، عقل يؤمن بمشروع تحول يطول الجوانب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية... فالمعادلة الجديدة ليست الموارد الطبيعية ولا الموارد البشرية بل قوة المعرفة والمستقبل من نصيب أولئك الذين يكونون مستعدين لطرح أسئلة صعبة أساسها المعرفة، ويجرؤون على الحلم بعالم أفضل متسلحين بالمعرفة وقيادة التغيير .

د. خالد الحمداني كاتب عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: مجتمع المعرفة مشروع ا

إقرأ أيضاً:

ليبيا – باشاآغا: تصاعد السلوكيات المنحرفة يهدد النسيج الاجتماعي ويتطلب حلولًا جذرية

ليبيا – باشاآغا: تصاعد السلوكيات المنحرفة يهدد النسيج الاجتماعي ويتطلب حلولًا جذرية

حذّر وزير الداخلية الليبي السابق، فتحي باشاآغا، من تصاعد السلوكيات المنحرفة التي تهدد بنية المجتمع الليبي، مشيرًا إلى انتشار التسول، السحر والشعوذة، الأفعال غير الأخلاقية، تعاطي الممنوعات، وجرائم العنف الأسري، بما في ذلك حوادث سرقة الأقارب وقتل الوالدين.

وأوضح باشاآغا في تدوينة نشرها عبر موقع “فيسبوك” أن هذه الظواهر لم تعد مجرد حالات فردية معزولة، بل أصبحت أزمة متجذرة تهدد الأمن الاجتماعي والاقتصادي، مؤكدًا أن انهيار ركائز الدولة وضعف مؤسساتها يستدعي تحركًا عاجلًا لإيجاد حلول جذرية لهذه التحديات.

غياب الدور التوجيهي وتأثيره على الشباب

وأشار باشاآغا إلى أن الشباب، وهم الشريحة الأكبر في ليبيا، يعانون من إحباط متزايد نتيجة انعدام الفرص والغموض الذي يحيط بمستقبلهم، لافتًا إلى أن هذا الوضع تفاقم بسبب تراجع دور الأسر والمدارس والمنابر الدينية في التوجيه والتربية، مما جعلهم أكثر عرضة للاستغلال في الصراعات والانحرافات السلوكية.

وأكد أن معالجة هذه الظواهر تتطلب رؤية وطنية شاملة تتجاوز الحلول الأمنية التقليدية، وتعتمد على إشراك المجتمع بمختلف فئاته في التصدي لهذه المشكلات، وتعزيز التماسك الاجتماعي.

أسباب الظاهرة وحلول مقترحة

ودعا باشاآغا خبراء الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد إلى تقديم تحليل معمق للأسباب الحقيقية التي أدت إلى انتشار هذه الظواهر، مشيرًا إلى أن ضعف الوازع الديني، انتشار الفقر، ارتفاع البطالة، تزايد حالات الطلاق والتفكك الأسري، وانعدام العدالة الاجتماعية، كلها عوامل ساهمت في تفاقم الأزمة.

وأكد ضرورة دعم هذه الدراسات عبر برامج وقائية تستثمر طاقات الشباب في مسارات إيجابية، إلى جانب تعزيز دور الأسر في التربية، وخلق بيئة اجتماعية داعمة تسهم في بناء مستقبل أكثر استقرارًا لليبيين.

دور المنابر الدينية والإعلام في المواجهة

وأشار باشاآغا إلى أن المنابر الدينية يمكن أن تلعب دورًا محوريًا في معالجة هذه الظواهر من خلال استثمار خطب الجمعة والدروس الدينية في نشر القيم الأخلاقية وتعزيز التماسك المجتمعي.

كما شدد على أهمية الإعلام كأداة فعالة في تسليط الضوء على خطورة هذه الظواهر، عبر إنتاج برامج حوارية، أفلام وثائقية، ومبادرات تثقيفية تكشف المخاطر التي تواجه المجتمع الليبي، وتعيد الاعتبار للقيم الأصيلة ومكارم الأخلاق.

الشراكة بين الدولة والمجتمع.. ضرورة ملحّة

وأكد باشاآغا أن المؤسسات التعليمية ومنظمات المجتمع المدني لديها القدرة على إطلاق مبادرات وطنية تستهدف رفع وعي الشباب بمخاطر الانحراف، إلى جانب تشجيعهم على استثمار طاقاتهم في مشاريع إيجابية.

لكنه شدد على أن التصدي لهذه الأزمة يتطلب شراكة شاملة بين الدولة والمجتمع، مشيرًا إلى أن الحلول الأمنية وحدها لن تكون كافية ما لم تُدعم بـمبادرات مجتمعية مدروسة ومدعومة من مؤسسات الدولة لضمان استمراريتها.

ودعا إلى تشكيل لجان وطنية تضم خبراء اجتماعيين، مؤسسات دينية، وسائل إعلام، ومنظمات مجتمع مدني لصياغة استراتيجية وطنية متكاملة تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، وتقديم حلول مستدامة تعزز استقرار المجتمع.

مستقبل ليبيا يعتمد على استثمار الإنسان

واختتم باشاآغا تدوينته بالتأكيد على أن مستقبل ليبيا يتوقف على استثمار واعٍ في الإنسان، واستنهاض طاقات الشباب كشريك أساسي في بناء دولة قوية ومستقرة.

وشدد على أن الإعلام، المنابر الدينية، ومؤسسات المجتمع المدني تمتلك مفاتيح إعادة توجيه المجتمع نحو العدالة والتماسك، مؤكدًا أن ليبيا قادرة على تجاوز أزماتها متى توفرت الإرادة السياسية والرؤية الواضحة لبناء مجتمع أكثر عدلًا واستقرارًا.

مقالات مشابهة

  • ليبيا – باشاآغا: تصاعد السلوكيات المنحرفة يهدد النسيج الاجتماعي ويتطلب حلولًا جذرية
  • من هو الأسير المحرر الذي أشعل التواصل الاجتماعي؟.. تعرّف على زكريا الزبيدي
  • هل تعلم أن مغلي البقدونس يمكن أن يغير حياتك؟: إليك الفوائد التي لا تعرفها
  • "CDT " تعقد مجلسا وطنيا استثنائيا للحسم في الوضع الاجتماعي المأزوم والهجوم على الحقوق والمكتسبات
  • عام المجتمع.. يجسد رؤية قيادية للمستقبل محورها الإنسان ومركزها جودة الحياة
  • سرقة السيارة التي« لا يمكن سرقتها»
  • انطلاق المؤتمر الإقليمي للرعاية البديلة ودور التنمية المستدامة.. «الحماية الاجتماعية للأطفال والشباب والتمكين الاجتماعي والاقتصادي والاستدامة وبناء مؤسسات معاصرة» أبرز المحاور
  • علي بن تميم: «عام المجتمع» رؤية حكيمة تجاه بناء مجتمع مزدهر
  • السيدة الأولى لكينيا تزور وزارة التضامن الاجتماعي بالعاصمة الإدارية وتطلع على برامج الحماية الاجتماعية
  • أمير الجوف يستقبل وكيل وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية للضمان الاجتماعي والتمكين المكلَّف