بينما أجوب صنوف الأدب لأُرضي تلك المقولة «لا يكتب الكاتب قبل أن يقرأ ألف كتاب» وفـي محاولة اللحاق بهذا الرقم وذاك، دائمًا ما تتردّد فكرة فـي رأسي مفادها: رغم اتساع رقعة الأدب بعناوينه وفهارسه ومجلداته إلا أن هناك من الموضوعات التي لم يُطرق بابها بعد، يتوق لها القارئ وبحاجة إلى عكازي العلم والأدب ليسير نحوها، ومحاولة الوصول إلى الإجابة وإن كان بسؤال آخر يقترب من الحقيقة شيئًا فشيئًا.
وما زالت الفكرة تطرق رأسي، إلى أن سمعت صوت طرقات على الباب..
من الطارق؟ الروع.
لأفتح الباب فأجد محجان.
وفـي رواية أخرى، قيل ليس هناك بطارق من الأساس.
أمام كل تعدديّة الخيارات من حولنا تبقى الحيرة كبندول راقص، لا تعرف أصله الثابت من المتحرّك، قبل التطرّق للحكاية، أصلها ومنفاها، وأحداثها وما ورائيات تلك الأحداث، ورمزها ومعناها، نعود إلى الأدبيات الكلاسيكية التي تغنّت بالرمز، وناشدت بضرورة تعدديّة المعنى، حتى قيل لا نص أدبي بلا رمز ولا مُواربة فـي المعنى.
لتأتي رواية «الروع» لكاتبها زهران القاسمي، فـيقدّم ما يليق بمرحلة ما بعد فوزه بجائزة كتارا عن روايته «تغريبة القافر»، ليواصل التغنّي بالنفس، والتعجب من أسرارها، فـي محاولة منه لمشاغبة القارئ بدهشة وعجائبية تحاكي الواقع البسيط.
لتأتينا ببساطة السرد وسلاسته فنظنّ أننا فهمنا من الحكاية أحداثها، لنكتشف تعددية المعنى، ونصطدم بالحقيقة التي لم ولن نصل إليها، ليكون نصًا مفتوحًا بامتياز، ليس فـي نهايته فحسب، بل مفتوحًا عبر كلّ أبعاد الحكاية، فما كانت تلك البداية سوى بناء للنفس، وما كان فـي نهايتها سوى خوف من لبسها وغموضها، رغم صدقها الأصيل.
«محجان» نصبَ فزّاعته هناك فـي الحقل، وأخذَنا معها فـي تفاصيل حكايات العوابي والحقول، والطيور التي تكاد تكون من فرط رقتها هي عدوّنا الأول لهشاشتنا الروحيّة، ليجد محجان «بطل الرواية» أنه لم يكن يصنع سوى نفسه لكن من الداخل العميق جدًا، أو أنّ كلّ ما كان يصنعه فـي الخارج له انعكاساته فـي مرآة الذات الصقيلة، والتي يكون فـيها الصدق فـي أوج تجلّياته، لتشعر فـي النهاية بوخزة الحقيقة رغم ضبابيتها، ولتمسك بخيط المعرفة الذي يعود مجددًا ليذوي نحو المجهول، فلا يبقى لنا سوى الحكاية «محجان وروعه».
وكما كان الأدب على الدوام يرشدنا بدلالات رمزيّة بدون أن يخبرنا بشفافـيّة وصدق، فإن محجان استرشد بالأمثال كرَوع منصوب فـي طريق الحياة، تختصر له تلك المسالك الوعرة، وإن كان لجأ إلى الساخر منها، الذي يكشف عن السخرية الواقعة ما بين الحقيقة والخيال، وبين ما نعرفه نحن وعن ماهيّة الحياة فـي جوهرها.
لينساب القارئ مع الأحداث، كمثل «شرجة ولاقية مهباط»، رغم أنها ليست بذلك الكمّ من الصفحات والتي يطول معها وقت القراءة، تتحرّر بذلك من نمطيّة الروايات الطويلة، وعلى ما يبدو فإنّه صدقت بالقول «الطول طول نخلة والعقل عقل صخلة»، أو أن «كلّ طويل هبيل»، لتتوالى الأحداث التي يتقاسمها محجان مع القارئ، وكأنه يرى بذلك انعكاس لحكاياته، لكنّها بلا روع ولا حقل، يتقاسمان فـيما بينهما الهزيمة والخسران ليطمئنّ بقوله «نام مغلوب ولا تنام غالب»، ومع اقتراب النهاية والصفحات الأخيرة، وبنفس تتوق للنهاية ليفاجئ القارئ من عناصر الدهشة، فلا يشعر سوى بلطمة مفاجأة، لكن «كفّ صفعني نفعني».
ليود القارئ أخيرًا أن يُلاحق الكاتب ويقاضيه على تلك النهاية، والرمزيّة المشوّكة داخل الحكاية، لكن وعلى ما يبدو ينطبق فـيه المثل «باغية تزعل وما متفـيقة من شغل البيت».
فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما کان
إقرأ أيضاً:
جيوبنا التي لم يمسّها السيسي
اجتمع السيسي منذ أسبوعين بمجموعة من حملة المباخر الذين يزيفون وعي الشعب، ويقتاتون من الكذب علينا في وسائل الإعلام، ولا همَّ لهم سوى أن يكونوا لسانا سليطا على كل معارض، أو حتى ناصح لهذا النظام الفاشل الدموي، ومع تكرار السيسي لأكاذيبه في معظم لقاءاته الإعلامية، فإنه تحدث بوقاحة عن أن يده لم تتلوث بدم أحد ولم تأخذ مال أحد، ومدح ما أسماه "تحمل المصريين" للوضع الاقتصادي، بينما الحقيقة أنهم مكبوتون في ظل حكمه الدموي لا القمعي وحسب.
في ثقافة السيسي لا شيء مجاني، فعلى المواطنين أن يجوعوا ويتحملوا لأجل بناء الدولة، بينما يلحظ المواطنون أنه لا يجوع مثلهم، بل ينعم مع أسرته من كدِّهم، ونتيجة التقتير عليهم، كما أن يده تمتد يوميّا إلى جيوب المواطنين بالقهر والغصب، بضرائب أو زيادات متكررة في أسعار الخدمات والسلع الأساسية، أو قروض أو مشروعات فاشلة، يتحمل المواطنون عبأها وحدهم، بينما ينعم هو في أملاك الدولة، ويزين جدرانها بصُوَرِه المُقْبِضَة للأرواح والكفيلة رؤيتُها بتعكير سائر اليوم.
تكاليف الحياة باتت مرهقة للطبقات المتوسطة، فضلا عن الفقيرة أو تحت خط الفقر، فقد ارتفع معدل التضخم بنحو 500 في المئة بدءا من آب/ أغسطس عام 2013 إلى الشهر نفسه عام 2023
بحسبة بسيطة، من المصادر الرسمية، نجد أن تكاليف الحياة باتت مرهقة للطبقات المتوسطة، فضلا عن الفقيرة أو تحت خط الفقر، فقد ارتفع معدل التضخم بنحو 500 في المئة بدءا من آب/ أغسطس عام 2013 إلى الشهر نفسه عام 2023، فكان في أول الفترة يبلغ 8.5 في المئة ووصل إلى 41 في المئة بعد عشر سنوات فقط من سيطرة السيسي على الحكم، كما انخفضت قيمة العملة من نحو 7 جنيهات مقابل الدولار الواحد، إلى قرابة 50.8 جنيه وقت كتابة المقال، بزيادة تجاوز 700 في المئة، وارتفع الدين الخارجي بنحو 372 في المئة، إذ ارتفع من 43.2 مليار دولار في حزيران/ يونيو 2013، إلى 160.6 مليار دولار بنهاية الربع الأول من العام الحالي، ولا ينبغي إغفال سعر صرف الدولار مقابل الجنيه عند النظر إلى هذه الأرقام.
هذه الزيادات المتتالية لم تتناسب مع الأجور المتدنية، التي كانت رحلتها منذ ثورة كانون الثاني/ يناير 2011 على النحو التالي:
في حزيران/ يونيو 2011 ارتفع الحد الأدنى للأجور من 400 جنيه إلى 700 جنيه، نحو 118 دولارا وقتها، وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2013 ارتفع إلى 1200 جنيه نحو 174 دولارا وقتها، ثم توالت الزيادات ليرتفع الحد الأدنى في آذار/ مارس 2019 إلى 2000 جنيه، نحو 114 دولارا وقتها، وفي آذار/ مارس 2021 ارتفع إلى 2400 جنيه، نحو 130 دولارا وقتها، ثم بلغ 2700 جنيه في كانون الثاني/ يناير 2022، نحو 173 دولارا وقتها، ثم زاد مرة أخرى في آذار/ مارس 2023 إلى 3500 جنيه، نحو 114 دولارا وقتها، ثم زاد إلى 4 آلاف جنيه في أيلول/ سبتمبر 2023، نحو 130 دولارا وقتها، ثم زاد في شباط/ فبراير 2024 إلى 6 آلاف جنيه، نحو 195 دولارا وقتها، وبعد أقل من شهر، خفَّضت مصر قيمة العملة لتصبح هذه الزيادة توازي اليوم 118.1 دولار فقط، ما يعني العودة تقريبا إلى نفس معدل الأجور الذي كان معمولا به إبان الثورة المصرية عام 2011.
لم تترافق هذه التفاوتات مع عدالة في توزيع الأجور والمخصصات المالية لقطاعات الجهاز الإداري للدولة، أو على الأقل للقطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة، فبالنظر إلى موازنات الدولة المصرية، نجد أنها تخصص الباب الخامس، تحت عنوان "المصروفات الأخرى"، لمصروفات تُسمى "السطر الواحد"، وهي مجموعة من المخصصات المالية التي تُدرج رقما واحدا ولا يناقشها مجلس النواب في جلساته العامة، وتحظى موازنة الجيش بالرقم الأكبر في هذا الباب، وقد ارتفعت مخصصات هذا الباب من نحو 38.3 ميار جنيه في العام المالي 2013-2014، إلى 162.23 مليار جنيه في العام المالي 2024-2025.
بلغ المبلغ المخصص لقطاع الدفاع والأمن القومي في موازنة العام الحالي نحو 231.338 مليار جنيه، أما قطاع الأمن، فقد خصصت الموازنة لثلاثة فقط من بنوده الأساسية، وهي الأمن والشرطة، وديوان عام وزارة الداخلية، ومصلحة الأمن والشرطة، نحو 162.440 مليار جنيه، في حين خُصص لقطاعات القضاء والنيابة، ومعهما ديوان عام وزارة العدل التي تضم هيئات غير قضائية، نحو 34.485 مليار جنيه. ويُلاحظ أنه يوجد في مصر 22 ألف عضو هيئة قضائية حتى عام 2020، وفقا لوزير العدل حينها. أما المبلغ المخصص لقطاع التعليم فقد بلغ نحو 294.643 مليار جنيه، في حين بلغ المبلغ المخصص لقطاع الصحة نحو 200.146 مليار جنيه.
السيسي لم يكتف بالولوغ في دماء المصريين بمذابحه، بل سبح كذلك في أموالهم مع أسرته، ومع ذلك لا يكتفي بالادعاء والكذب في كل مناسبة يظهر فيها، كما لا يتورع عن إلقاء فشله على المصريين في كل مناسبة أيضا
بغض النظر عن أسباب تفاوت الأرقام، فإن الأوضاع العامة لضباط الجيش والشرطة وهيئة القضاء تبدو متفاوتة تماما مع غيرهم من القطاعات الأخرى، فمثلا تمكن ببساطة ملاحظة امتلاك أفراد هذه القطاعات لوسائل الأمان الاجتماعي كالمسكن والسيارات، في حين لا تتوفر نفس الإمكانيات لجميع المعلمين أو الأطباء، فضلا عن رفاهية التجمعات السكنية التي تكون مخصصة لهم، وبتسهيلات قد تصل إلى 20 عاما لشراء الوحدات السكنية، وهذه الأمور إن كانت غير منظورة في الميزانية، فملاحظتها ممكنة بأقل مجهود.
ورغم أن المختصين بالاقتصاد لا يستنكرون وجود مميزات تتعلق بالوظيفة، وأن التفاوت في الأجور طبيعي بحسب المخاطر، فإنهم في الوقت ذاته يستنكرون الفجوة الواسعة التي تجعل التمييز الحكومي مركِّزا على الفئات التي يمكن وصفها بفئات حماية النظام وأدواته، وهي الفئات التي يقلق أي نظام من إغضابها، مع إغفال غضب القطاعات التي لا تملك مجرد التلويح بغضب يقلق النظام السياسي.
إن السيسي لم يكتف بالولوغ في دماء المصريين بمذابحه، بل سبح كذلك في أموالهم مع أسرته، ومع ذلك لا يكتفي بالادعاء والكذب في كل مناسبة يظهر فيها، كما لا يتورع عن إلقاء فشله على المصريين في كل مناسبة أيضا، وهم مكروهون على بقائه بقوة السلاح، لا بإرادة الصبر والتحمّل، ولا أحد يعلم متى سينفجر غطاء الإكراه المحكَم في وجه واضعه.