صيادو غابة البيانات الإلكترونية!
تاريخ النشر: 29th, December 2024 GMT
كم مرّة يسترقُ أحدنا النظر إلى شاشة هاتفه فـي اجتماعات العمل؟ كم مرّة نندمجُ بمتابعة مقطع فـيديو أو «ريلز» بينما ندعي مساعدة أبنائنا فـي حل واجباتهم المدرسية؟ كم مرّة نتركُ أعمالنا المُتراكمة فـي البيت لنراقب الإشعارات التي تصلنا من قنوات اليوتيوب، كم مرّة نتجاهلُ الأصدقاء المجاورين لنا فـي المقهى لترمش أعيننا رمشتها الوثابة تجاه بريدنا الإلكتروني الوارد؟
فـي الحقيقة يحدثُ ذلك كثيرا، لكنني أصبتُ بصدمة عندما وصف نيكولاس كار فـي كتابه «السطحيون»، ت: وفاء م.
فهذا التلاعب الآنيّ بمهامنا الدماغية يُطلق عليه العلماء «تكلفة الانتقال»، ولكم أن تتصوروا أنّه يتعين على دماغنا المسكين -فـي كل مرّة نصرفُ فـيها انتباهنا من شيء لآخر- إعادة توجيه نفسه من جديد، الأمر الذي يجعله غافلا عن معلومات مُهمة أو ذاهبا لتفسيرات خاطئة!
ها نحنُ الآن نقعُ جميعا فريسة اللهاث المحموم لمعرفة ما يجري فـي سياقات متنوعة من شؤون الحياة بواسطة الشبكة، وكأنّ عدم قدرتنا على الولوج إلى السيل المعلوماتي، يجعلنا غير مرئيين أو غير قادرين على الاتصال بحديث مُشترك مع المجموعات التي تُحيط بنا ونتقاسم المعرفة معها. تلك الهالة السحرية التي تطال كل شيء، دون استثناء للتافه والدنيء منها!
جميعنا يعي -من جهة أخرى- أنّنا لو عطلنا تلك التنبيهات سيعترينا شعور جارف ومخاتل بانقطاعنا عن العالم أو بوقوعنا فـي فراغ عزلتنا الاجتماعية! لكن المُفزع أكثر هو ما أشار له كار بوضوح حول أنّ: التجاهل أو الانقطاع لم يعد خيارا لأحدنا!
يذهبُ كتاب «السطحيون» إلى أنّ شبكة الإنترنت -رغم شقها الإيجابي فـي تمرين العقل على غرار تمارين حل الكلمات المتقاطعة- لا تذهب تمارينها لما هو أعمق، فهذه الشبكة الثورية والجامحة، تتلاعبُ بتشكيل عقلنا البشري الجديد حقا، فبينما يتسنى الآن للبشر المُعاصرين أن يمارسوا ملايين الأنشطة التي لم تتسنَ للإنسان من قبل ممارستها، يُكابد الدماغ تغيرات مُذهلة بشكل سريع وجذري.. وربما أحد أهم هذه الأنشطة «القراءة». إذ بقدر ما تدعم شبكة الإنترنت القراءة السريعة، تدفعنا إلى التفكير العجول والمُشتت أيضا، فتلك النقرة السريعة على محركات البحث، تجعلنا فـي مواجهة مباشرة مع صنابير معلوماتية عارمة، تندفعُ بأقصى ما يمكن لها، إلى أن يُصبح «الحمل المعرفـي» متجاوزا قدرتنا على التخزين والمعالجة، ولذا يبقى فهمنا فـي الغالب «سطحيا»!!
ثمّة تغيرٌ طرأ على القراءة فـي السنوات العشر الأخيرة لا يمكن إنكاره، فالبيئة الرقمية التي تُشجع على استطلاع المواضيع، منحت القراء خاصية «التخطي» وصولا إلى النهاية، ولذا انتشر الآن ما يُسمى بالقراءة غير الخطية.
لا ينكرُ الكتاب أنّ الاتصال بالشبكة يجعل أدمغتنا المرنة أكثر فطنة وذكاء فـي أداء المهام، لكنه يجعلها أيضا أقل قدرة على التفكير المُتعمق والإبداعي، ومجردة إلى حد كبير من التفكير الناقد والخيال والتأمل.
ويصف كار ما نمرُّ به بصورة مجازية باعتباره نقيض مشروع الحضارة، فكما نعلم: بدأ الإنسان صيادا وجامعا ثمّ تحول إلى مزارع ومستأنس.. بينما فـي غابة البيانات الإلكترونية: بدأنا بزارعة المعرفة ثمّ ظهر الإنسان الحديث كجامع أو صياد لها.
السؤال المقلق: كيف نُحافظ على رباطة جأش أذهاننا تحت وابل من المحفزات اللانهائية؟ ونحن على يقين بأنّ عاداتنا على الشبكة تنعكسُ على عمل مشابكنا العصبية فـي الأدمغة؟ لاسيما وأنّه لم يعد من اليسير لهذه الحضارة أن تعود بخطواتها إلى الوراء!!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: التی ت
إقرأ أيضاً:
القراءة بين الإبداع والاستهلاك
آخر تحديث: 30 يناير 2025 - 10:45 صأ. د. طلال ناظم الزهيري كثيرًا ما يتم تداول المقولة الشهيرة: “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ”، المنسوبة غالبًا إلى الشاعر الفلسطيني معين بسيسو، كإشارة منه إلى المشهد الثقافي العربي في منتصف القرن العشرين. حيث تُستخدم هذه العبارة بشكل عام من باب الفخر والتباهي للتعبير عن الدور الريادي للعراق في حب القراءة والإطلاع. غير أن هذا التصور السائد قد يحمل في طياته إشكالية أعمق، إذ يمكن أن يُنظر له باعتباره إشارة ضمنية إلى محدودية الدور الذي يضطلع به المثقف العراقي في سلسلة الإنتاج الثقافي. القراءة وحدها، مهما كانت كثافتها، إذا لم تتحول إلى إبداع فكري أو إنتاج معرفي، تصبح مجرد استهلاك سلبي للمعرفة. إن اختزال المشهد الثقافي العربي بهذه العبارة يمنح العراق دور المستهلك، مقارنة بدوري الإبداع والصناعة اللذين تمثلهما القاهرة وبيروت. القراءة، بوصفها شرطًا أساسيًا للمعرفة، لا تكتسب قيمتها إلا عندما تتحول إلى كتابة أو إنتاج فكري يُضاف إلى الإرث الثقافي. فالتاريخ لا يخلّد القرّاء، بل يكرّم الكتّاب والمبدعين الذين أسهموا بإنتاجهم الفكري في تشكيل الحضارة الإنسانية. لم يسجل التاريخ شخصية عُرفت فقط بكونها قارئة عظيمة، بل خلد أولئك الذين استطاعوا توظيف قراءاتهم في صياغة أفكار جديدة وإنتاج إبداعي يُسهم في تطور الفكر والمعرفة. من هنا، تبدو الإشكالية في ثقافة القراءة إذا ما بقيت مقتصرة على استهلاك المعرفة دون السعي لتحويلها إلى عملية إنتاجية. فعلى الرغم من انتشار القراءة في أوساط المثقفين العراقيين، كثيرًا ما يلاحظ أن الحوارات الفكرية بينهم ترتكز بشكل كبير على اقتباسات مأخوذة من نصوص العلماء والفلاسفة الغربيين والشرقيين، دون أن تكون هناك محاولات واضحة لتقديم رؤى نقدية أو إضافات جديدة تتجاوز حدود النقل. هذا النمط السائد يُكرّس صورة المثقف العراقي كناقل للمعرفة، بدلًا من كونه منتجًا لها، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا أمام تطور الفكر الثقافي والإبداعي. القراءة، في جوهرها، ليست غاية، بل وسيلة للوصول إلى الإبداع والابتكار. غير أن القراءة التي تبقى حبيسة حدود الاستهلاك تظل فعلًا عقيمًا، لا يؤدي إلى التقدم الفكري. والسؤال المحوري الذي يجب أن نطرحه هنا هو: ما الذي يمنع القارئ من أن يصبح كاتبًا؟ وما العوائق التي تحول دون تحول المثقف العراقي من مستهلك للمعرفة إلى منتج لها؟ قد تتعدد الأسباب بين نظام تعليمي يكرس الحفظ والتلقين على حساب النقد والتحليل، وثقافة مجتمعية تخشى الخروج عن المألوف، وغياب بيئة داعمة للإبداع توفر الحوافز اللازمة للكتابة والابتكار. في المقابل، نجد أن الثقافات الإنتاجية، لا سيما في الغرب، تنظر إلى القراءة كجزء من عملية متكاملة للإبداع. الفلاسفة مثل سارتر وديكارت، والعلماء مثل نيوتن وأينشتاين، لم يكتفوا بقراءة من سبقهم، بل تجاوزوا هذه الحدود وأعادوا تشكيل المعرفة بما أضافوه من أفكار جديدة. أما في المشهد الثقافي العربي عامة والعراقي على وجه الخصوص، غالبًا ما نتوقف عند حدود الإعجاب بالنصوص ونقلها دون أن نجرؤ على نقدها أو تجاوزها. واليوم لم يعد ممكنًا الاستمرار في تكرار هذه العبارة دون مراجعة جادة لدورها وتأثيرها في صياغة التصورات الثقافية. القراءة التي لا تنتج كتابة، والكتابة التي لا تضيف جديدًا، كلاهما يشيران إلى ثقافة استهلاكية لا تسهم في تطور الإنسانية. نحن بحاجة إلى منظومة ثقافية جديدة تُحفّز الإبداع والابتكار، وتكسر قيود النقل والتبعية. العبارة “القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ” قد عكست واقعًا ثقافيًا في فترة معينة، لكنها لم تعد ملائمة لعالمنا اليوم. المطلوب الآن هو بناء نموذج ثقافي جديد يُعيد توزيع الأدوار، بحيث يصبح المثقف العراقي ليس فقط قارئًا، بل أيضًا كاتبًا ومبتكرًا يسهم في صياغة مستقبل الفكر العربي. ففي الوقت الذي نتابع فيه الجهود التي تبذلها العديد من المنظمات المحلية في التشجيع على القراءة وإقامة الفعاليات الداعمة لها، إلا أننا نعتقد ان هذه المبادرات تفتقر إلى التوازن، إذ نادرًا ما نرى فعاليات مناظرة تهدف إلى تعزيز الكتابة والإسهامات الإبداعية. القراءة، رغم دورها الأساسي في بناء الوعي وتنمية المعرفة، تظل مجرد خطوة أولى في سلسلة الإنتاج الثقافي. ولا شك أن غياب التركيز على الكتابة يحرم الأفراد من تطوير قدراتهم الإبداعية وتحفيزهم على المساهمة بأفكارهم وتجاربهم. ان تعزيز الكتابة لا يقل أهمية عن التشجيع على القراءة، بل هو الخطوة الطبيعية التي تكمل هذا الجهد، لأن الإبداع هو ما يُخلّد ويُحدث الفارق في تطور الثقافات والمجتمعات.