إن المرحلة التي يعيشها السوريون بعد سقوط الطغيان وخلع النظام الاستبدادي هي من أعظم النعم التي أكرم الله بها هذا الشعب المكلوم، لكنها أيضا من أشد الابتلاءات التي تتطلب حكمة ورشدا وتبصرا في إدارة شؤون بلد عريق كسوريا.

فالتحرر من الظلم هو بداية الطريق، وليس نهايته، إذ إن بناء الأوطان وصون الحقوق وتحقيق العدالة يتطلب جهدا جماعيا وتوافقا بين مختلف المكونات.



أولا: وحدة الصف وعصمة الدماء

إن شريعتنا الغراء تدعونا إلى وحدة الكلمة ورص الصفوف، فإن الفرقة والتنازع لا يجلبان إلا الضعف والهوان. قال الله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعا وَلَا تَفَرَّقُوا" (آل عمران: 103). وإن عصمة الدماء واجب شرعي لا يقبل المساومة، فقد قال النبي ﷺ: "لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن بغير حق". وعليه، فإننا ندعو إلى نبذ كل أشكال الانتقام أو الثأر، وأن تكون العدالة وفق ميزان الشريعة هي الفيصل في حل النزاعات.

التحرر من الظلم هو بداية الطريق، وليس نهايته، إذ إن بناء الأوطان وصون الحقوق وتحقيق العدالة يتطلب جهدا جماعيا وتوافقا بين مختلف المكونات
ثانيا: التوافق على القضايا الكبرى

إن الشريعة الإسلامية تقدم لنا رؤية متكاملة لبناء المجتمعات على أسس العدالة والرحمة والإحسان. ومن هذا المنطلق، يجب أن يكون التوافق على القضايا الكبرى أساسا لعملنا المشترك، ومنها:

- إعادة الإعمار المادي والمعنوي: بناء الوطن لا يقتصر على إعادة المباني، بل يتعداه إلى ترميم النفوس وتعزيز روح الأخوة بين أبناء الشعب.

- العدالة الانتقالية: إقامة نظام قضائي عادل يضمن محاسبة المجرمين دون ظلم أو تحامل، ويعيد الحقوق لأصحابها.

- ترسيخ قيم المواطنة: تحقيق التوازن بين انتمائنا الديني وهويتنا الوطنية، بحيث يشعر كل مواطن بأنه جزء من هذا الوطن، وله فيه حق وواجب.

ثالثا: تفويت الفرصة على التدخلات الدولية

إن استقلال القرار الوطني هو من أسمى الأهداف التي يجب أن يجب أن نسعى إليها، ولن يتحقق ذلك إلا بإغلاق أبواب الفتن التي تتسلل منها التدخلات الدولية والإقليمية. وهذا يتطلب منا تجاوز المصالح الشخصية والفئوية، والعمل بروح الفريق الواحد، ووضع مصلحة سوريا فوق كل اعتبار.

استقلال القرار الوطني هو من أسمى الأهداف التي يجب أن يجب أن نسعى إليها، ولن يتحقق ذلك إلا بإغلاق أبواب الفتن التي تتسلل منها التدخلات الدولية والإقليمية
رابعا: التربية على المسؤولية الجماعية

إن الأمة لا تنهض إلا ببناء الفرد الصالح والمجتمع المتماسك. وهذا يقتضي تربية أنفسنا وأبنائنا على القيم الإسلامية الأصيلة التي تجمع بين القوة في الحق والرحمة بالخلق. قال الله تعالى: "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى" (النحل: 90).

خامسا: بناء مشروع فكري جامع

إن أي نهضة مجتمعية أو سياسية لا تستقيم إلا بوجود مشروع فكري واضح المعالم، يستند إلى مبادئ الإسلام السمحة وقيمه الخالدة، مع استيعاب متطلبات العصر ومستجداته.

وهذا المشروع يجب أن يكون جامعا لا يقصي أحدا، ويقوم على قضايا مشتركة مثل الكرامة الإنسانية، والحرية المسؤولة، والعدالة الاجتماعية، والتنمية الشاملة.

سادسا: إدارة الاختلاف ضمن إطار الشريعة

لقد أقر الإسلام بالاختلاف كظاهرة طبيعية بين البشر، لكنه وضع له ضوابط تضمن أن يكون وسيلة للتكامل لا للتنازع. قال الله تعالى: "وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ" (الأنفال: 46). وعليه، فإن إدارة الخلافات في المرحلة المقبلة يجب أن تكون ضمن الأطر الشرعية التي تضمن احترام الآراء المختلفة والعمل على تحقيق المصلحة العامة.

سابعا: الاهتمام بالشباب وتأهيلهم لقيادة المستقبل

إن الشباب هم عماد أي أمة ووقود نهضتها. ولذا، يجب أن تكون لهم الأولوية في التخطيط والبناء، من خلال برامج تعليمية وتربوية وثقافية تعيد لهم الثقة في أنفسهم، وتؤهلهم لتحمل المسؤولية. وهذا يتطلب غرس قيم الإبداع، وحب الوطن، والالتزام الأخلاقي في نفوسهم.

ثامنا: الشراكة المجتمعية وإحياء روح التكافل

إن المجتمع السوري مرّ بسنوات طويلة من الألم والتشريد، ولا يمكن أن ينهض إلا بروح الشراكة بين جميع مكوناته. قال النبي ﷺ: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". فليكن شعارنا في المرحلة المقبلة: "التكافل يعيد بناء الوطن".

تاسعا: الحفاظ على الهوية الثقافية والدينية

في ظل محاولات طمس الهوية الإسلامية وتشويه معالمها، يجب أن نحرص على تعزيز ارتباط شعبنا بثقافته وهويته، دون تعصب أو انغلاق، مع الانفتاح الواعي على العالم.

عاشرا: الاعتماد على الكفاءات لا الولاءات
إننا أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وإن إضاعة هذه الفرصة بالتنازع أو التهاون هو خيانة لله وللشعب وللتاريخ
إن المرحلة المقبلة تتطلب الاعتماد على أهل الخبرة والكفاءة في جميع مجالات العمل، بعيدا عن المحاصصة والاعتبارات الشخصية. فبناء الوطن يحتاج إلى عقول مبدعة وسواعد مخلصة تعمل لصالح الأمة.

ختاما، نذكر أنفسنا وإياكم بقول الله تعالى: "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران: 159). فلنكن على قدر هذه المسؤولية العظيمة، ولنجعل من سوريا نموذجا يُحتذى به في الوحدة والبناء والسلام.

إننا أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر، وإن إضاعة هذه الفرصة بالتنازع أو التهاون هو خيانة لله وللشعب وللتاريخ. فلنتق الله في أمتنا، ولنعمل جاهدين على تحقيق مقاصد الشريعة في العدل والإصلاح والبناء.

نسأل الله أن يوفقنا جميعا لما فيه خير البلاد والعباد، وأن يجعلنا من الذين يعملون لإعلاء كلمته وإقامة عدله في الأرض.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه بناء العدالة سوريا الهوية سوريا بناء عدالة هوية مقالات مقالات مقالات سياسة من هنا وهناك صحافة سياسة سياسة من هنا وهناك من هنا وهناك سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الله تعالى یجب أن

إقرأ أيضاً:

«المفتي»: الأمن شرط أساسي لتحقيق البناء والإعمار

أكد الدكتور نظير عياد، مفتي الديار المصرية، أن القرآن الكريم قد ربط بشكل واضح بين الأمن وشرط تحقيق البناء والإعمار في العديد من الآيات، مؤكدًا أن الأمن يعد من المقاصد الأساسية التي تحقق الاستقرار والتنمية.

وقال مفتي الديار المصرية، خلال حوار مع الدكتور عاصم عبد القادر، ببرنامج "مع المفتي"، المذاع على قناة الناس، اليوم الجمعة: "الله تعالى ذكر في القرآن مثالًا لقريه كانت آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، ثم كفرت بأنعم الله، وهذا الربط بين الأمن والبناء هو أمر جوهري في رؤية الشريعة الإسلامية".

وأضاف مفتي الديار المصرية أن الشريعة الإسلامية تهدف إلى تحقيق الأمن والاستقرار لأنهما ركيزتان أساسيتان في عملية البناء والتشييد، لافتا إلى أن الإنسان خلقه الله ليعمر الأرض ويحقق الخير في مجتمعه، ولتحقيق ذلك لابد من توفير أمرين أساسيين: الغذاء والأمن، فالأمن يعني الاستقرار، والاستقرار هو ما يسمح للبشر ببناء المجتمعات وتشييد الحضارات.

وأشار إلى أنه لا يمكن تصور البناء والتشييد دون وجود الأمن: "عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم ودعا الناس إلى عبادة الله، وجد أن بيئة مكة في ذلك الوقت لم تكن مناسبة للبناء، فسمح للصحابة بالهجرة إلى الحبشة، وقال لهم: 'إذهبوا إلى أرض الحبشة، فإن فيها ملكًا لا يُظلم عنده أحد'، وهذه المقولة تعكس العلاقة الوثيقة بين الأمن والبناء، فالظلم والتشويش يؤديان إلى الاضطراب والخراب، في حين أن الأمن هو أساس التشييد والإعمار.

وتابع: "الإسلام لم يهتم فقط بالجوانب المادية للبناء، بل اهتم أيضًا بالجوانب المعنوية، فالأمن ليس فقط في الحفاظ على الممتلكات والمقدرات، بل في توفير بيئة نفسية ومعنوية تحفز الناس على الإنتاج والعمران، الجانب المعنوي في الشريعة الإسلامية يتمثل في تشجيع التعاون والعدل، ومكافحة الظلم".

وتطرق المفتي إلى كيفية تأثير القوانين الشرعية على الأمن والبناء، مشيرًا إلى مبدأ القصاص في الإسلام كأحد الأمثلة التي توازن بين الجوانب المادية والمعنوية، لافتا إلى أن القصاص في الإسلام هو أداة للحفاظ على الأمن الاجتماعي، لأن القتل فعل مادي يؤثر في الواقع، ولكن الشريعة قد وضعت عقوبات للحد من هذه الأفعال، بل وجعلت من القصاص وسيلة لاستعادة توازن المجتمع، ففي قوله تعالى: 'ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب'، نجد أن القصاص ليس مجرد عقوبة، بل هو حفاظ على حياة المجتمع بأسره، معنويًا وماديًا.

وشدد الدكتور نظير عياد على أن الأمن لا يمثل مجرد غياب للتهديدات، بل هو عنصر أساسي في البناء والتشييد الذي يشمل جميع جوانب الحياة الإنسانية، مضيفا أن الإسلام يعزز الأمن ليس فقط من خلال القوانين، ولكن من خلال تعزيز القيم الأخلاقية التي تبني مجتمعات مستدامة وقوية.

مقالات مشابهة

  • بـ3 كلمات في الليلة الثانية من شعبان.. ذنوبك لن تقطع رزقك ثانية
  • «المفتي»: الأمن شرط أساسي لتحقيق البناء والإعمار
  • سوريا والمرحلة الانتقالية
  • نهلة الصعيدي: المرأة القوية التي تحسن تربية الأبناء وتقدر على صنع المستحيل
  • دعاء أول جمعة في شعبان.. 6 كلمات تقضي حاجتك وتفرج همك
  • دعاء أول ليلة فى شعبان.. 3 كلمات تفتح الأبواب المغلقة ويرزقك الله من حيث لا تحتسب
  • الصلابي: سوريا تبدأ مرحلة البناء والدولة المدنية الحديثة
  • مباركة قيادة جيش سوريا الحرة للقائد الشرع بانتصار الثورة السورية
  • أول وفد من روسيا منذ سقوط الأسد يصل سوريا وهذه أبرز التطورات
  • قبل الدخول على أحد تخافه.. كلمات لو قلتها يغير الله قلبه تجاهك