تشابك المصالح الدولية المعقدة
تاريخ النشر: 19th, August 2023 GMT
تشابك المصالح المعقدة
الظاهر أن أميركا وروسيا متفقتان بقدر أوسع مما يبدو في غرب أفريقيا لكنهما متناقضتان في مواقفهما حول حرب أوكرانيا.
الموقف الأميركي يلتقي مع الموقف الروسي ويتناقض مع الموقف الفرنسي الداعي إلى استخدام السلاح ضد الانقلابيين في النيجر.
إذا كانت الدول الكبرى تراعي في مصالحها التعددية والتخلي عن مبدأ "إما الكل وإما لا شيء"، فإن أسباب مراعاة ذلك عند الدول الأصغر هي أقوى.
رئيسة وزراء إيطاليا حمّلت فرنسا مسؤولية نهب موارد النيجر ودول أفريقيا والتي أفقرت شعوبها وأجبرتها على البحث عن حياة كريمة في أوروبا.
أردوغان يتبع هذه السياسة، ويبقي الأبواب مفتوحة على تغيير المواقف من الإيجابي إلى السلبي وبالعكس حسب ما تقتضيه ظروفه الاقتصادية والسياسية.
لا تبدي أميركا معارضة جدية في تعاون أوبك مع روسيا لكنها تفرض على روسيا عقوبات لمنعها من تصدير سلعها من النفط السائل والغاز إلا ضمن سقوف سعرية.
انهيار أسواق البورصات بأميركا سيحدث صدى كبيراً في بورصات العالم بما فيها دول "بريكس" التي اجتمعت بحوهانسبرغ لبحث مستقبل الدولار واستبداله بالذهب.
إيران تفاوض أميركا سراً بينما تزيد الإدارة الأميركية ضغوطها على إيران وحلفائها وأعادت إيران العلاقات الدبلوماسية مع السعودية لكنها تطالب بحصة في حقل غاز الدُرّة.
ما يلزم دول المشرق العربي لإعادة النظر إرهاصات وتطورات سلبية ضاغطة عليها فهي لا تأمن من تصطف معهم إن شعروا أنهم قادرون على التصرف بمصالحها.
تحول في العلاقات الدولية وتعقدها ومرونتها لأن القطبية الأحادية انتهت ولا تستطيع الدول المتوسطة والصغيرة التزام خيار الصفر أو التعامل مع قوة عظمى على حساب مصالحها مع قوة عظمى أخرى.
تزداد الاعتمادية المتبادلة عالميا فالدولار ليس العملة المفضلة لدى دول عديدة وتمقت تفرد أميركا بالنظام النقدي العالمي مع تمتع الدولار بمقبولية عالمية لكنهم يعلمون أن انهيار الدولار سيكلفهم كثيرا.
* * *
تحضر حقائق التاريخ إلى ذهني، وأنا أنظر إلى التحولات في المصالح وتغير نموذج العلاقات بين الدول على أساس المصالح.
ويبدو من الظاهر على سبيل المثال أن الولايات المتحدة وروسيا متفقتان إلى حد قد يكون أوسع مما يبدو على السطح في غرب أفريقيا، ولكنهما متناقضتان في مواقفهما حول الحرب الجارية في أوكرانيا.
كذلك، فإن الولايات المتحدة لا تبدي معارضة جدية في تعامل منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) مع روسيا، ولكنها تفرض على روسيا عقوبات لمنعها من تصدير سلعها من النفط السائل والغاز إلا ضمن سقوف سعرية.
وقد استمعنا لتصريحات مسؤولين أميركيين في وزارتي الخارجية والدفاع ممن يشككون في صحة الرواية التي تدعي تورط روسيا في انقلاب النيجر، ولكنهم في نفس الوقت يدعون قادة الانقلاب لضرورة العودة للشرعية.
ولكن الموقف الأميركي يلتقي مع الموقف الروسي ويتناقض مع الموقف الفرنسي الداعي إلى استخدام السلاح ضد الانقلابيين.
ورئيسة وزراء إيطاليا، جورجيا ميلوني، تشن هجوماً كاسحاً على الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حين انتقد إيطاليا واتهمها باللاإنسانية حين منعت اللاجئين عبر البحر المتوسط من دخول إيطاليا.
وحمّلت ميلوني فرنسا مسؤولية نهب موارد النيجر وغيرها من الدول الأفريقية، والتي أفقرت شعوبها وأجبرتها على البحث عن حياة كريمة في أوروبا، في الوقت الذي نسيت فيه ما عملته إيطاليا مثلاً في مستعمراتها الأفريقية خاصة إثيوبيا وليبيا.
لكن إيطاليا السياسية تتفق مع فرنسا على أمور كثيرة داخل الاتحاد الأوروبي، وتقف معها ضد روسيا في حرب أوكرانيا، وضد الصين في التجارة الخارجية والتكنولوجيا.
وقد أصدر الرئيس الأميركي، جو بايدن، مرسوماً تنفيذياً يمنع فيه الشركات التكنولوجية الأميركية الكبرى من التعاون مع شركات صينية في مجالات معينة، وسمح بالتعاون في مجالات ضمن شروط منها الموافقة المسبقة على ذلك التعاون من قبل الجهات الرسمية الأميركية المختصة.
هذا يحصل بعد زيارة ثلاثة من المسؤولين الأميركيين إلى الصين وهم أنتوني بلينكن وزير الخارجية، ومن بعده جانيت يلين وزيرة الخزانة، ومن بعدهما جون كيري والذي يعمل الآن بصفته المبعوث الخاص للرئيس في شؤون المناخ.
وعلى المستوى غير الرسمي استقبل الرئيس الصيني شي جين بينغ وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر بصفته المبادر قبل حوالي نصف قرن بانفتاح الولايات المتحدة على جمهورية الصين الشعبية.
ونستطيع أن نرسم مصفوفات مشابهة في العلاقات الجديدة في المنطقة التي ننتمي إليها. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يتبع هذه السياسة، ويبقي الأبواب مفتوحة على تغيير المواقف من الإيجابي إلى السلبي وبالعكس حسب ما تقتضيه ظروفه الاقتصادية والسياسية. وما يمكنه من ذلك هو أن الآراء متفقة على أنه يفعل ذلك لصالح بلده، ثم حزبه، ثم أخيراً وقليلاً لنفسه.
وإيران صارت تتبع سياسات مشابهة. فهي تفاوض الولايات المتحدة سراً، في الوقت الذي تزيد فيه الإدارة الأميركية ضغوطها على إيران وحلفائها في المنطقة. وكذلك، فإن إيران قد أعادت العلاقات الدبلوماسية مع السعودية ولكنها تطالب بحصتها في حقل جزيرة الدُرّة الغازي (أو أراش حسب تسمية إيران)؛ وتصل لهجتها في المطالبة حد إعلان الحرب.
والسياسة السعودية الخارجية صارت أوضح بكثير في هذا الاتجاه متعدد الجوانب والمعقد، وهي تسعى بكل جهدها لكي تبقي مصالحها مع أميركا دون أن يكون ذلك على حساب علاقاتها بالصين أو روسيا.
وهي تستمع لمطالب الإدارة الأميركية بالتطبيع مع إسرائيل، ولكنها تريد أن يأتي ذلك في سياق لا يهدد نفوذها أو هيبتها في الوطن العربي. ومصر الآن تغازل تركيا وإيران وإن كانت عينها ما تزال ترمق رد الفعل الخليجي على ذلك.
هذا التحول في تشابك العلاقات الدولية وتعقدها ومرونتها في نفس الوقت قد أملته ظروف واضحة من أهمها أن القطبية الأحادية في العالم قد انتهت.
وفي ظل هذا الوضع لا تستطيع الدول وبخاصة المتوسطة والصغيرة أن تبقى ملتزمة بخيار الصفر، أي أن تختار التعامل مع قوة عظمى على حساب مصالحها مع قوة عظمى أخرى.
والسبب الثاني هو زيادة الاعتمادية المتبادلة في العالم. فالدولار ليس العملة المفضلة لدى بعض الدول وتمقت تفرد أميركا بالسياسات النقدية بسبب ما يتمتع به الدولار من مقبولية (acceptability) عالمية. ولكنهم يعلمون أن انهيار الدولار سيكلفهم مبالغ جسيمة.
وانهيار أسواق البورصات في أميركا سيحدث صدى كبيراً في أسواق بورصات العالم كلها بما فيها أسواق دول "بريكس" التي اجتمعت بجنوب أفريقيا لتبحث مستقبل الدولار واستبداله بقاعدة الذهب.
وإذا كانت الدول الكبرى تراعي في مصالحها التعددية والتخلي عن مبدأ "إما الكل وإما فلا"، فإن أسباب مراعاة ذلك عند الدول الأصغر هي أقوى. ولا تستطيع الدول الكبيرة أن تستخدم نفوذها دائماً لتلزم الدول الصغرى باختيار دولة كبرى على حساب أخرى بالمطلق.
هذه النسبية الجديدة في العلاقات الدولية باتت تلزم دولا كالأردن والكويت والعراق وسورية أن تعيد النظر في مصفوفة علاقاتها الدولية والإقليمية.
وواضح أن العراق يسعى لذلك، وإن كان ما يزال يعاني من نكد الدول التي ما تزال تتمتع بنفوذ كبير داخله مثل إيران وأميركا.
وما يلزم دول المشرق العربي تحديداً على إعادة النظر هو الإرهاصات والتطورات السلبية الضاغطة على هذه الدول وصارت لا تأمن من تصطف معهم إن شعر هؤلاء أنهم قادرون على التصرف بمصالح دول المشرق.
وهناك مؤشرات على أن دول المشرق العربي (العراق والأردن وسورية وفلسطين ولبنان) قلقة مما قد يخطط لها باعتبارها رهينة ظروف سياسية واقتصادية وعسكرية صعبة، وبدرجات متفاوتة.
ولا بد لهذه الدول أن تأخذ مصالحها ببعض الجرأة المحسوبة، وأن تدعم التنسيق فيما بينها بذكاء سياسي يحيد الضغوط المتناقضة والمفروضة عليها.
*د. جواد العناني سياسي وخبير اقتصادي، نائب رئيس الوزراء رئيس الديوان الملكي الأردني الأسبق
المصدر | العربي الجديدالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: أميركا روسيا الصين أوبك غرب أفريقيا الدول الكبرى القطبية الأحادية العلاقات الدولية الولایات المتحدة مع الموقف على حساب
إقرأ أيضاً:
مخاطر التشابكات المعقدة بين ثالوث الفساد والجريمة المنظمة والإرهاب
في ظل عالم مُضطرب يشهد تصاعدًا في التحديات الأمنية والاقتصادية، برز عام 2014 كفترة مفصلية تواجه فيها الدول صعوبات كبيرة في مواجهة ثالوث الفساد والجريمة المنظمة والإرهاب. في هذا السياق، قدمت لويز شيلي كتابها "Dirty Entanglements: Corruption، Crime، and Terrorism"، الذي (التشابكات القذرة: الفساد والجريمة والإرهاب) يعالج هذه التشابكات المعقدة بين الظواهر الثلاث، محللةً تأثيراتها المدمرة على الأمن العالمي، ومعترفةً بأن تلك الحقبة كانت شاهدة على تنامي التحديات التي تهدد استقرار الدول. يقدم الكتاب، حلولًا واقعية للتصدي لهذه الظواهر المتشابكة، مع تسليط الضوء على أوجه القصور في التعامل الدولي مع تلك القضايا.
في البداية توضح الكاتبة لويز إيزوبيل شيلي، التي تعمل أستاذة في كلية السياسة والشؤون الدولية بجامعة جورج ماسون بولاية فيرجينيا الأمريكية ومديرة تنفيذية لمركز مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود والفساد، توضح أن الفساد ليس مجرد ظاهرة منفصلة، بل عامل رئيسي يُمكّن الجماعات الإجرامية والإرهابية من التغلغل في الأنظمة السياسية والاقتصادية للدول عبر أساليب كالرشوة والمحسوبية.
يشير الكتاب، الذي صدرت طبعته الأولى في يوليو 2014 من مطبعة جامعة كامبريدج، إلى أن الفساد يعوق قدرة الحكومات على مكافحة الجريمة الجنائية والإرهاب، حيث يتعاون بعض المسؤولين الفاسدين في عدد من الدول مع الجماعات الإجرامية لتحقيق مصالح شخصية على حساب الأمن العام، هذا الفساد يجعل عمليات المكافحة أكثر تعقيدًا وصعوبة.
يتناول الكتاب أيضًا أوجه التشابه والاختلاف بين الجريمة الجنائية المنظمة والإرهاب، حيث تعتمد كلا الظاهرتين على أساليب تمويل وتجنيد وتشغيل متقاربة، فعلى الرغم من أن الإرهاب غالبًا ما يُنظر إليه كأيديولوجيا سياسية أو دينية، فإن الواقع يكشف عن أن التنظيمات الإرهابية تتبنى أساليب شبيهة بتلك التي تستخدمها عصابات الجريمة الجنائية المنظمة. تشمل هذه الأساليب الأنشطة غير المشروعة مثل تهريب المخدرات، وتجارة الأسلحة، وغسل الأموال، التي تشكل شبكة من المصالح المشتركة بين هذه الجماعات.
لويز شيليتشير الكاتبة إلى أن تهريب المخدرات وحده يدر مليارات الدولارات التي تُستخدم لتمويل أنشطة الإرهاب. وتبرز أدوار الدول الفاشلة أو التي تعاني من ضعف الحوكمة في دعم الإرهاب، حيث تسمح هشاشة أنظمتها بازدهار الأنشطة الإجرامية، ما يؤدي إلى تداعيات تتجاوز الحدود.
من بين أبرز المحاور التي يناقشها الكتاب مصادر تمويل الإرهاب، إذ تشرح شيلي كيف تعتمد التنظيمات الإرهابية على التبرعات، والتهريب، والأنشطة التجارية غير المشروعة. تضيف أن هذه التنظيمات، مثل "داعش"، استغلت الموارد المالية لتوسيع نفوذها وتنفيذ عملياتها عالميًا. ويُعد التمويل تحديًا كبيرًا لمكافحة الإرهاب، حيث أصبحت التنظيمات أكثر قدرة على تفادي الرقابة المالية باستخدام تقنيات مثل العملات المشفرة.
توضح الكاتبة أيضًا كيف يوفر الإنترنت المظلم (Dark Web) والعملات المشفرة للإرهابيين منصات آمنة وسهلة الاستخدام لجمع ونقل الأموال، مما يجعل تتبعها أكثر تعقيدًا. ترى شيلي أن هذه التقنيات تُعدّ عقبة أمام الرقابة الحكومية، مما يؤكد الحاجة إلى استراتيجيات حديثة لمواجهة هذا النوع من التحديات.
من الجوانب الأخرى التي يناقشها الكتاب تجارة الأسلحة والمواد المحظورة، التي تمثل مصدرًا رئيسًا لتمويل الجماعات الإرهابية. تستفيد التنظيمات الإرهابية من هذه التجارة لتنفيذ عملياتها، حيث يوضح الكتاب أن جماعات مثل "القاعدة" و"داعش" استفادت بشكل كبير من تجارة الأسلحة لتحقيق أهدافها.
تناقش الكاتبة أيضًا استخدام الجماعات الإرهابية لعمليات غسل الأموال لتصفية الأموال الناتجة عن الأنشطة غير المشروعة. وتبرز كيف أن هذه الجماعات تستغل الأسواق غير المنظمة لتضليل السلطات واختراق الأنظمة المالية الرسمية.
في مواجهة هذه التحديات، قدمت شيلي في كتابها Dirty Entanglements: Corruption، Crime، and Terrorism (التشابكات القذرة: الفساد والجريمة والإرهاب) مقترحات لتعزيز التعاون الدولي بين الحكومات، وتطوير الأنظمة القضائية والمالية، وتعزيز الشفافية. تؤكد أهمية رفع وعي المواطنين بمخاطر الفساد، الذي يشكل المدخل الأساسي للجريمة والإرهاب، حيث يمثل الفساد البوابة التي تمر عبرها الأنشطة الإجرامية والإرهابية، وعندما تضعف المؤسسات الحكومية وتنتشر الرشوة، تصبح الدول أرضًا خصبة للجريمة الجنائية والإرهاب، كما يسلط الكتاب الضوء على أهمية ت…