العبودية الطوعية في الإسلام السياسي: قراءة في فلسفة الهيمنة
تاريخ النشر: 29th, December 2024 GMT
إبراهيم برسي
13 مارس 2023
منذ أزل التاريخ، عندما بدأ الإنسان يتجمع في مجتمعات أكبر من وحدته الفردية، ظهرت الحاجة إلى قيادة توجه الجماهير، تضع لها النظام، وتخلق لها انتماءً يشبع حاجتها إلى الأمن والهوية. لكن هذه الحاجة لم تكن بريئة في معظم الأحيان ؛ إذ سرعان ما تحولت إلى آلية للاستغلال والهيمنة.
الفيلسوف ميشيل فوكو في حديثه عن السلطة يشير إلى أن السلطة ليست مجرد قمع مباشر، بل شبكة من العلاقات التي تتغلغل في كل تفاصيل المجتمع، وتهيمن على العقول قبل أن تسيطر على الأجساد.
مع ظهور الإسلام، كان هناك تحول جذري في البنية الاجتماعية. النظام القبلي الذي كان يُعتبر مركز الهوية الاجتماعية والسياسية بدأ يتفكك تدريجيًا. الدين الجديد لم يكن مجرد دعوة روحية، بل مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا يهدف إلى توحيد القبائل تحت راية واحدة، وهو ما ظهر جليًا في معركة بدر، حيث وقف المسلمون صفًا واحدًا ضد قبائل قريش، التي كانت تمثل النظام القبلي التقليدي.
هذه الوحدة، رغم بريقها الظاهري، خلقت نوعًا جديدًا من التبعية، حيث تم استبدال الولاء القبلي بالولاء للأمة الإسلامية.
وكما يقول المفكر الفرنسي روجيه غارودي، فإن هذا التحول كان يحمل في طياته بذور الهيمنة، حيث استُبدل رب القبيلة بسلطة مركزية تبرر أفعالها بالدين.
وعلى الرغم من هذا التحول، فإن الحديث عن الجاهلية، رغم ما يحمله من دلالات سلبية في الخطاب الإسلامي التقليدي، يستحق إعادة قراءة. فتلك الحقبة، رغم ما قد يبدو عليها من بدائية، كانت تحمل نظمًا اجتماعية وقيمًا أسهمت لاحقًا في تشكيل الثقافة الإسلامية. نظام الدية، قوانين حماية الضيف، والشعر الذي كان يُعد ديوان العرب، كلها عناصر لا يمكن تجاهلها.
ولكن الإسلام، في سعيه لبناء مجتمع جديد، لم يُلغِ هذه العناصر بل أعاد تشكيلها لتخدم مشروعه الأوسع. ومع ذلك، لم يكن هذا المشروع خاليًا من التحديات.
فمع وفاة النبي محمد، بدأت الخلافات السياسية تتجلى بوضوح. النزاع بين علي ومعاوية لم يكن مجرد خلاف حول السلطة، بل كان يعكس هشاشة النظام الذي حاول الإسلام تأسيسه.
هنا بدأ الدين يتحول تدريجيًا إلى أداة سياسية. فبني أمية، على سبيل المثال، استخدموا الخطاب الديني لتبرير سياساتهم. خطبة معاوية الشهيرة التي قال فيها: “إني لا أقاتلكم لتصلوا أو تزكوا، إنما أقاتلكم لأتأمر عليكم” تُظهر بوضوح أن السلطة السياسية كانت الهدف الحقيقي.
ولا يقتصر الأمر على السلطة السياسية فقط، بل يتعداها إلى التعليم، الذي كان دائمًا أداة فعالة لصياغة العقول.
التاريخ الإسلامي مليء بالأمثلة التي تظهر كيف تم استخدام التعليم لترسيخ خطاب السلطة. ففي العصر العباسي، على سبيل المثال، كانت المدارس تُموَّل من قبل الدولة، وكان يتم التحكم في المناهج بحيث تكرس الولاء للخليفة.
هذه الظاهرة لم تنتهِ مع سقوط العباسيين، بل استمرت بأشكال مختلفة. في القرن العشرين، نجد سيد قطب يتحدث في كتابه معالم في الطريق (Milestones) عن نظام تعليمي يقتل روح الإبداع في الفرد ويجعله آلة طيعة في يد السلطة. من الناحية النفسية، هذا النهج يُفسَّر من خلال مفهوم “التكيف القهري” الذي طرحه عالم النفس إريك فروم (Escape from Freedom)، حيث يُجبر الفرد على القبول بالنظام القائم خوفًا من مواجهة تبعات الحرية.
وعلى مر العصور، استُخدم الدين كأداة مركزية لإعادة إنتاج الهيمنة. في السودان، كانت تجربة الجبهة الإسلامية مثالًا حديثًا على هذا النهج. بعد انقلاب عام 1989، بدأ النظام بقيادة حسن الترابي في إعادة تشكيل النظام التعليمي والإعلامي ليناسب مشروعه الإسلامي.
محمود محمد طه، الذي كان يمثل تيارًا فكريًا نقديًا، تم التخلص منه بطريقة وحشية، بعد أن استُغل الرئيس جعفر النميري كأداة لتنفيذ الإعدام. الترابي، الذي كان يدرك خطورة طه كصوت مستقل، برع في توظيف النظام القائم للتخلص من خصومه، مما يعكس كيف يمكن استخدام الدين كأداة قمعية في يد النخب السياسية.
وفي دول أخرى مثل السعودية، تركيا، وأفغانستان، نجد أن الدين استُخدم بطريقة مشابهة لتبرير الاستبداد. في السعودية، تحالف آل سعود مع المؤسسة الوهابية أسس نظامًا يستخدم الدين لشرعنة السلطة المطلقة. في تركيا، تحالف أردوغان مع الحركات الإسلامية خلق نظامًا يدمج القومية بالدين، مما سمح له بقمع المعارضة وتوسيع سلطته.
أما في أفغانستان، فطالبان تمثل مثالًا صارخًا على كيفية استخدام الدين لتبرير نظام استبدادي قمعي. لكن المثير للاهتمام هو أن هذه الأنظمة، رغم خطابها الديني، لا تتردد في التحالف مع قوى دولية لتحقيق مصالحها، مما يفضح زيف شعاراتها.
وعلى مستوى الأفراد، فإن برمجة القطيع ليست مجرد ظاهرة سياسية، بل لها جذور نفسية وفلسفية عميقة. يشير غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير (The Crowd: A Study of the Popular Mind) إلى أن الجماهير تسهل قيادتها لأنها تميل إلى التصرف بعاطفية، وتبحث عن زعيم يمنحها شعورًا بالأمان. في الإسلام السياسي، هذا الزعيم غالبًا ما يتم تقديمه كـ”ولي الأمر” الذي تجب طاعته.
وهنا يمكن استحضار مفهوم “العبودية الطوعية” الذي طرحه إتيان دو لا بويسي (Discourse on Voluntary Servitude). هذا المفهوم يُظهر كيف يمكن للإنسان أن يختار العبودية لأنه يجد فيها نوعًا من الراحة النفسية.
الدين، في هذا السياق، يوفر الإطار الذي يجعل هذه العبودية تبدو شرعية بل وضرورية.
رغم كل هذا، فإن التاريخ يُظهر أن الشعوب قادرة على التمرد.الثورة السودانية عام 2019، التي أطاحت بنظام البشير، تُظهر أن برمجة القطيع ليست أبدية. لكن التحرر يتطلب إعادة النظر في البنى الفكرية والثقافية التي تكرس الهيمنة. وكما يشير محمد عابد الجابري، فإن تحرير العقل العربي يبدأ بإعادة قراءة التراث، ليس لتمجيده، بل لفهم كيف تم استخدامه لتكريس السلطة.
وفي نهاية المطاف، فإن برمجة القطيع ليست ظاهرة إسلامية فقط، لكنها تجد في العالم الإسلامي بيئة خصبة بسبب التاريخ الطويل من التبعية. الحل يبدأ بتحرير العقل، وتعليم الأفراد كيف يفكرون بأنفسهم. عندها فقط يمكن أن يتحول الإنسان من تابع في قطيع إلى فرد حر، يقرر مصيره بنفسه.
zoolsaay@yahoo.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: الذی کان ی نظام ا
إقرأ أيضاً:
قيادات عمالية: فلسفة جديدة للتعامل مع حقوق وواجبات العامل وتعزيز الأمان الوظيفي
أكدت قيادات عمالية أن مجلس النواب حرص على إدراج مشروع قانون العمل الجديد ومناقشته قبل نهاية الفصل التشريعى الثانى، لا سيما أن القانون يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج والتنمية، وهما عاملان رئيسيان فى دعم عجلة الاقتصاد المصرى، وقال مجدى البدوى، نائب رئيس اتحاد العمال، إن مشروع قانون العمل الجديد يتضمن فلسفة جديدة للتعامل مع حقوق وواجبات العامل وتعزيز أمان وظيفى، وهو الأمر الذى لم يشهده قانون العمل الحالى رقم 12 لسنة 2003.
وأضاف «البدوى»، لـ«الوطن»، أن القيادة السياسية تدعم ملف حقوق العمال بإصدار قانون شامل يوفر الضمانات اللازمة لشريحة كبيرة من العاملين فى القطاع الخاص، فضلاً عن الاهتمام بالعمالة غير المنتظمة، وهى الفئة التى ظلت تعانى من التهميش لسنوات طويلة: «جلسات الحوار الوطنى التى حضرها المختصون والمعنيون بملف حقوق العمال فى مصر، وكذلك المناقشات التى شهدها مشروع القانون داخل لجنة القوى العاملة بمجلس النواب طوال الأشهر السابقة، ساهمت فى خروج صياغات منضبطة لمواد مشروع قانون العمل الجديد».
وأوضح نائب رئيس اتحاد العمال أن مشروع قانون العمل الجديد يسهم فى القضاء على إشكالية استمارة «6»، التى دفع ثمنها كثير من العمال بعد أن تم إجبارهم على ترك عملهم وفقاً لقرار فردى من صاحب العمل، كما يواجه مشروع القانون الجديد فكرة الفصل التعسفى ويتيح للعامل التظلم والتقاضى أمام المحاكم العمالية لسرعة الفصل فى قضيته، لافتاً إلى أن اتحاد العمال لعب دوراً كبيراً فى توضيح المشكلات التى تؤرق العمالة المصرية سواء فى جلسات الحوار الوطنى أو خلال المناقشات التى تمت داخل لجنة القوى العاملة بمجلس النواب، وتم الأخذ بها خلال الصياغات النهائية لقانون العمل الجديد.
وشدد «البدوى» على أهمية المناقشات التى سيشهدها مشروع قانون العمل فى الجلسات العامة لمجلس النواب، حيث سيشارك النواب بعرض جميع الرؤى للوصول إلى صياغات محكمة قبل التصويت عليه بشكل نهائى وإقراره من مجلس النواب: «يحسب للبرلمان المصرى حرصه الشديد على إدراج مشروع قانون العمل الجديد ومناقشته قبل نهاية الفصل التشريعى الثانى، لا سيما أن هذا القانون يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالإنتاج والتنمية، وهما عاملان رئيسيان فى دعم الاقتصاد المصرى»، مشيراً إلى أن تشكيل مجلس أعلى للتدريب فى مشروع قانون العمل الجديد يضمن إعداد برامج تدريبية تتناسب مع متطلبات سوق العمل، مع رسم خطط التشغيل المستقبلية.
ويرى نائب رئيس اتحاد العمال أن الحكومة كان لها دور كبير فى إعداد مشروع قانون العمل الجديد بشكل متوازن، مبيناً إلى أن سحب مشروع القانون عدة مرات خلال مناقشته فى اللجان البرلمانية المختصة كان الهدف منه إعداد قانون جيد يعيد صياغة علاقة العمل بين العامل وصاحب العمل والمنشأة، ويتلافى العوار الذى يواجهه قانون العمل الحالى: «اتحاد العمال سيشارك فى الجلسات البرلمانية التى سيخصصها مجلس النواب لمناقشة مواد مشروع قانون العمل الجديد، وهو أمر محمود ويؤكد حرص البرلمان المصرى على الوصول لأفضل صياغات قانونية».
فيما طالب المستشار هشام فؤاد، رئيس النقابة العامة للمرافق، عضو المجلس القومى للأجور، بسرعة إقرار قانون العمل الجديد حتى يحدث التوازن المطلوب بين أطراف العملية الإنتاجية وتحقيق الأمان الوظيفى للعامل المصرى وجذب المزيد من الاستثمارات وكذلك القضاء على سلبيات قانون العمل الحالى رقم 12 لسنة 2003، وقال «فؤاد»: «هذه الآمال تعد التحدى الأكبر لتحسين مستوى المعيشة والارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للمواطنين وكذلك تقديم الدعم للفئات الأكثر احتياجاً وتحسين سوق العمل والخدمات الصحية التى تقدم للعاملين».