في واحدة من أبرز التسريبات الاستخباراتية التي توثق جرائم نظام الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، كشفت صحيفة "صنداي تايمز" عن آلاف الوثائق التي تفضح الأساليب المرعبة التي اعتمدتها أجهزة الأمن السورية للسيطرة على المواطنين وقمع الحراك الشعبي الذي اندلع في 2011. هذه الوثائق، المكتوبة بخط اليد أو مطبوعة باللغة العربية، تبرز الطريقة التي تسلل بها النظام إلى المجتمع، مستخدمًا شبكة واسعة من المخبرين وتقنيات مراقبة حديثة لرصد كل من شك في ولائهم.

الوثائق: تفاصيل صارخة عن التجسس والقمع


أظهرت الوثائق التي حصلت عليها الصحيفة البريطانية من قواعد استخباراتية في مدينة حمص، المعروفة بـ "عاصمة الثورة"، مدى التغلغل الأمني الذي مارسه النظام. عبر التنصت على المكالمات الهاتفية، واختراق أجهزة الكمبيوتر، وزرع مخبرين بين صفوف المتظاهرين وحتى داخل العائلات، جمعت الأجهزة الأمنية معلومات شاملة عن الأشخاص.

تضمنت التقارير المراقبة الدقيقة لحياة الأفراد اليومية، مثل الأماكن التي يرتادونها، والأقارب الذين يزورونهم، وحتى تفاصيل دقيقة عن ممتلكاتهم. على سبيل المثال، وردت تقارير عن موقع مرآب للسيارات حيث قامت والدة أحد المشتبه بهم بإصلاح سيارتها، كما أُدرجت معلومات عن عدد الأبنية السكنية التي يمتلكها مشتبه آخر.

دور المخبرين: شبكات تجسس ممتدة في المجتمع

اعتمد نظام الأسد بشكل كبير على شبكة ضخمة من المخبرين الذين كانوا يقدمون تقارير عن أصدقائهم وأقاربهم وحتى جيرانهم. الوثائق تشير إلى أن بعض هؤلاء المخبرين كانوا في الأصل جزءًا من حركة الاحتجاج، قبل أن يُجبروا أو يُغَروا للعمل مع أجهزة الأمن.

أحد الأمثلة البارزة كان لمخبرة كانت تتجسس على أحد أفراد عائلتها، حيث أكدت وثيقة سرية أنها قدمت سابقًا معلومات دقيقة عن تحركاته، لكنها أعربت عن خشيتها من زيارتها لمكاتب الأمن خشية اكتشاف أمرها من قبل العائلة. هذا التجسس المتغلغل أدى إلى حالة من الريبة والخوف داخل المجتمع السوري، حيث لم يعد أحد يثق في الآخر، وحتى المخبرون أنفسهم كانوا يخضعون لمراقبة مستمرة من قبل زملائهم.

محاولات طمس الأدلة: حرق السجلات
مع انسحاب القوات التابعة للنظام من بعض المناطق في حمص، حاول ضباط الاستخبارات التخلص من الأدلة التي تدينهم عبر حرق السجلات. لكن الوقت لم يسعفهم لحرق كل الوثائق، مما مكّن المعارضة المسلحة من الوصول إلى آلاف الملفات.

الصحيفة البريطانية التي دخلت إلى أربع قواعد استخباراتية في المدينة حصلت على إذن بالبحث في الوثائق ونسخها ونشرها، بشرط تغيير أسماء الأفراد والمواقع والتواريخ لحماية الجهود القضائية المستقبلية لمحاسبة المسؤولين عن الجرائم.

ضحايا القمع: من الأطفال إلى العاملين في المجال الإنساني

الوثائق التي حللتها الصحيفة سلطت الضوء على قسوة النظام في التعامل مع الجميع، بمن فيهم الأطفال. على سبيل المثال، تضمنت السجلات حالة صبي يبلغ من العمر 12 عامًا تم اعتقاله في حمص عام 2012 بعد أن اتهم بتمزيق ورقة تحمل صورة الرئيس.

وفقًا لتقرير الاستجواب، كان الطفل في فصله الدراسي عندما عثر على الورقة الممزقة تحت مكتبه. أُبلغ المعلم بالأمر، ثم المشرف التربوي، وأخيرًا الشرطة. رغم أن التحقيق أظهر أن الطفل لم يكن ينوي الإساءة، أُرسل للمحاكمة بعد أربعة أيام فقط من الواقعة.

كما كشفت الوثائق عن حالات أخرى مثل اعتقال عامل إنساني اتُّهم بـ "التواصل مع إرهابيين" لمجرد أنه دخل مناطق محاصرة لتقديم المساعدات. تم تجميع الأدلة ضده من خلال مراقبة نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي واختراق جهاز الكمبيوتر الخاص به.

استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كأداة قمع


لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في قمع المعارضة، حيث استخدمتها الأجهزة الأمنية لرصد نشاط الأفراد. تقارير استخباراتية تضمنت تفصيلًا للمنشورات التي وُصفت بأنها "تحريضية" أو "طائفية".

على سبيل المثال، أشار أحد التقارير إلى أن رجلًا كان يعمل مع منظمة إنسانية نشر تعليقات تنتقد النظام على صفحته على فيسبوك. بعد رصده، تم القبض عليه وتعرض للتعذيب قبل أن يُقتل في السجن.

الطيور: رمز المخبرين في المجتمع


في ظل النظام السوري، كان الناس يستخدمون رموزًا للحديث عن المخبرين، وأبرزها مصطلح "الطيور". تشير الوثائق إلى أن المخبرين كانوا يعملون في جميع المجالات، من الحركة الاحتجاجية إلى الجماعات المسلحة، وكانوا يُجبرون في بعض الأحيان على الإبلاغ حتى عن أفراد عائلاتهم.

المستقبل: محاسبة المتورطين


مع انهيار نظام الأسد في مناطق متعددة، يبقى السؤال مفتوحًا حول إمكانية تقديم الجناة إلى العدالة. تحدث مسؤولون في هيئة تحرير الشام عن نيتهم محاكمة المتورطين في الجرائم، لكنهم أكدوا أن هذه المحاكمات لن تتم إلا بناءً على أدلة ملموسة.

دروس من تجربة مريرة


تكشف هذه الوثائق عن مدى التغلغل الأمني الذي مارسه نظام الأسد لقمع أي محاولة للتغيير. إنها تذكير بأن الأنظمة القمعية تعتمد على الخوف وعدم الثقة لتثبيت سلطتها، لكن هذا التغلغل نفسه يمكن أن يكون سببًا في زوالها عندما تُفضح ممارساتها أمام العالم.

إن الإفراج عن هذه الوثائق وتسليط الضوء على تفاصيلها يمثل خطوة نحو تحقيق العدالة، لكنه في الوقت ذاته يطرح تحديات كبيرة أمام المجتمع السوري في رحلة التعافي وإعادة بناء الثقة التي مزقتها سنوات من القمع والترهيب.

 

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: نظام الأسد وثائق استخباراتية القمع السوري اعتقال الأطفال وسائل التواصل الاجتماعي الانتهاكات الحقوقية العدالة والمحاسبة انهيار النظام تحقيق العدالة المستقبل السوري نظام الأسد

إقرأ أيضاً:

لماذا استبدل بشار النفط بالكبتاغون؟

يا له من سؤال محيّر جداً، فكيف يمكن لنظام يمتلك خيار إنتاج النفط وتصديره للعالم، أن يستبدله وينتج بدلاً عنه الكبتاغون، ويتحوّل من منتج للطاقة ومؤثر في أسواق العالم إلى أكبر تاجر مخدرات عرفه التاريخ.

تشير تقارير بترولية أن حجم إنتاج سورية من النفط يصل إلى حوالي نصف مليون برميل يومياً، ويمكن تطويره إذا تم التعاون مع شركات بترولية غربية متقدمة في تكنولوجيا استخراج النفط إلى ما يقارب نفس الكمية الحالية، فضلاً عن الغاز المحتمل وجوده شرق المتوسط. 
وبمتوسط أسعار اليوم (70 دولاراً للبرميل)، فإن الدخل المتوقع لسورية كان سيصل إلى حوالي 12 مليار دولار سنوياً، وهو ما يعني دخلاً مرتفعاً واقتصاداً حيوياً وتنمية ممتازة، وتحسين دخل الأفراد وتعديل سعر العملة وخفض التضخم.
هذا الدخل المرتفع الذي كان سيساهم فعلياً في تحسين الاقتصاد السوري، ورفع مستوى المعيشة، وتجويد البنية التحتية القديمة، أضاعه النظام السابق بسبب إدارته السيئة للأزمة التي واجهها وحمّلها إخفاقاته.
لكن الحقيقة أن إدارته السيئة للطاقة سبقت حتى أحداث 2011، وعند الحديث عن تجارة المخدرات المحرمة التي ازدهرت في فترة الرئيس السابق بشار الأسد، يجب الإشارة إلى أن تلك التجارة ليست وليدة أحداث الاحتجاجات الصاخبة التي شهدتها المدن السورية بعد 2011، ففي تقرير سابق لصحيفة «دير شبيغل الألمانية» نشر في يونيو (حزيران) 2022، خلص إلى أنه «يبدو أن نظام بشار الأسد متورط بشكل عميق في تجارة المخدرات الصناعية، وقد عثر المحققون الألمان على دليل على أن الرئيس السوري يموّل حكمه بأموال المخدرات»، بحسب التقرير.
ونقلت الصحيفة في هذا السياق عن المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية جوييل رايبورن، قوله إن نظام الأسد لن يستطيع البقاء بدون عائدات الكبتاغون، مشيراً إلى أن الأسد وعائلته يتحكّمون بشكل مباشر في هذه التجارة. كما ذكرت أسماء مجموعة ممن يعتقد بكونهم متورطين في هذه التجارة.
كما أنه لا يمكن لوم الاحتجاجات على استخدام المخدرات في تمويل النظام، إذ تقول تقارير صحفية أخرى، إن قيادات أمنية وسياسية كانت مقربة من النظام خلال فترة الثمانينات الميلادية قادت بنفسها تجارة المخدرات والسلاح، وحوّلت سورية إلى مركز لها.
تجارة الكبتاغون تحديداً التي اشتكى منها العالم خلال العقد الماضي، ازدهرت بشكل متسارع على يد مسؤولين في نظام بشار الأسد، وهو ما جعل من سورية مركزاً عالمياً للمخدرات الصناعية، ودفع العديد من الدول إلى رفع مستوى حربها عليها بسبب كميات الإغراق الهائلة التي كان يدفع بها النظام السوري إلى محيطه العربي، والأوروبي.
الغريب أن النظام السابق الذي كان يمتلك النفط إضافة إلى موارد أخرى استبدله بالرغم من إمكانية أن يدر له أضعاف عوائد المخدرات، ولم يستخدمه للتنمية في بلاده، ولا حتى كوسيلة ضغط أو تفاوض مع الدول الكبرى خلال صراعه للبقاء، بينما استخدم المخدرات كوسيلة ضغط وابتزاز.
إذن ما الذي يدفع نظام للانغماس في تجارة محرمة وملاحقة وسيئة السمعة، مع إمكانه أن يجلب الأموال لخزينته بطرق شرعية ودون الدخول في مخاطرات كبرى، فمع أزمته الداخلية، كان من المفترض أن يحسّن علاقاته مع محيطه، ولا يستعدي العالم ضده، بل ويجعل من النفط أداة حل بدلاً من استخدام المخدرات أداة تدمير.
لقد استخدم نظام بشار الكبتاغون كسلاح يغزو به العالم ويعاقبه على فشله، كما أنه لم يكن الأول الذي يخضع لعقوبات اقتصادية، فقد سبقه العراق وليبيا، ومع ذلك تحايلت على تلك العقوبات من خلال عقود من الباطن أو بناء شراكات أو حتى بيعه في السوق السوداء، وهو ما يشير إلى إمكانية تحقيق مداخيل بعيداً عن تجارة المخدرات دون التورط في ما يطلق عليه جريمة منظمة يقودها نظام حاكم تلطخت سمعته للأبد.

مقالات مشابهة

  • دراسة تكشف عن نظام غذائي يقلل من خطر الوفاة المبكرة
  • تايمز: ملفات سرية لجهاز مخابرات الأسد تظهر محاكمته أطفالا
  • مركز للتنكيل والاغتصاب.. عربي21 تكشف عن جرائم نظام الأسد داخل أحد مساجد دمشق (شاهد)
  • الخارجية الروسية تكشف عن السر وراء السقوط السريع لنظام بشار الأسد
  • سوريا.. وثائق استخباراتية جديدة تفضح ممارسات النظام المخلوع
  • لماذا استبدل بشار النفط بالكبتاغون؟
  • وثائق سرية لنظام الأسد تكشف محاكمة أطفال
  • وثائق مخابراتية تكشف تجسس عائلة الأسد على بعضها.. راقبوا طلاب المدارس
  • "طيور الأسد".. وثائق تكشف كيف تغلغلت المخابرات في سوريا؟