في عالم الأقوياء .. من يحب الضحايا؟!
تاريخ النشر: 28th, December 2024 GMT
على عكس ما يُتوقع من الشعر انحيازه للضحايا المهزومين والمستضعفين، عُرف عن الشاعر الألماني هانز ماغنوس إنتسنسبرغر شعرُه الذي يمقت أسلوب الضحية، وينتقد نقدًا لاذعًا طبيعتها الرخوة والمتخاذلة بدلًا من التعاطف التقليدي معها. لا تروق للشاعر عقيدة المظلومية التي يتذرَّع بها الضحايا المنتهَكون من قبل الذئاب وشتى أنواع القوى المفترسة، بل ينظر إلى عقيدتهم تلك باعتبارها عقدة استحقاق سلبية، لا يستحق أصحابها إلا الشفقة في أحسن الأحوال.
«انظروا في المرآة: جبناء أنتم،
تتهربون من أعباء الحقيقة،
تنفرون من التعلم،
تلقون بمسؤولية التفكير على عاتق الذئاب،
أي حيلة تنطلي عليكم، وتقبلون...
كل عزاء رخيص، وكل ابتزاز لكم
هو أقل مما يجب».
مهما بدا متطرفًا بعض الشيء، إلا أن موقف إنتسنسبرغر النقدي الجريء من الضحايا في قصيدته يلائم حالتنا العربية الجديدة وبقوة، حيث تتفشى ثقافة الهزيمة أكثر من أي وقت مضى تمهيدًا للخروج من حقبة الهزيمة للدخول، طوعًا أو كراهية، في عصر الاستسلام المطلق، فالتنظير للاستسلام والترويج له بوصفه حلًا نهائيًّا للمأساة بات خطابًا مألوفًا ومقبولًا، وربما مُقنعًا بالنسبة لشريحة لا يستهان بها من العرب!
عفوًا، لكن المشكلة ليست في الهزيمة بحد ذاتها، فالشعوب قد تنتصر أو تُهزم في الحروب، وهذا ديدن الصراع الأزلي عبر التاريخ. المشكلة هي الاستسلام؛ أي تحويل الهزيمة العسكرية على الأرض إلى واقع سياسي، ولاحقًا ومع الوقت إلى واقع ثقافي جديد يعيد تعريف الهوية وحدود الوطن بناءً على اتفاقية استسلام يُوقعها الطرف المهزوم بانحناءٍ تحت راية الجنرال المنتصر.
لنذهب إلى مثالين متقابلين من التاريخ المعاصر (مع التحفظ على الاختلافات الجوهرية والظرفية بينهما): 1. مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وعلى إثر قيامة هيروشيما وناجازاكي، وقَّع ممثلو الإمبراطور صك استسلام اليابان المذل على سطح سفينة حربية أمريكية كانت ترسو في خليج طوكيو.2. بينما اعترفت مصر الناصرية بهزيمتها المريعة عام 1967، رفض الشعب والجيش تحويل الهزيمة إلى استسلام (تطبيع). حشدت مصر جماهيرها في شوارع القاهرة لتعيد الرجل المهزوم إلى منصبه، الرجل الذي سيرد على الهزيمة بمقولته الشهيرة: «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة». وخلال أشهر وجيزة كانت مصر قد أعادت ترميم جيشها لتبدأ حرب استنزاف شرسة مع العدو، المجهود الحربي المتراكم الذي سيقود في عهد السادات إلى ملحمة أكتوبر عام 1973.
غير أن المفارقة التاريخية التي ينبهنا إليها المؤرخ المصري خالد فهمي هي ذهاب مصر الساداتية، بعد خمس سنوات من ذلك «الانتصار النسبي» المفترض، إلى استسلامها بحجة «السلام» في كامب ديفيد عام 1978؛ أي أن مصر لم تستسلم إلا بعد خمسة عشر عامًا من الهزيمة. المفارقة المصرية بين عهدين (عمليًّا بين رجُلين) مثال كاشف على أنْ ليس كل مهزوم ضحية بالضرورة، وهو ما يعبر عنه اليوم تعبيرًا حيًّا المجتمع المقاوم في غزة وفي جنوب لبنان. فالمهزوم ليس ضحيةً ما دام يقاوم، هذه حقيقة بديهية من الواجب تكرارها مرةً تلو المرة وسط هذا المناخ من الهزيمة العامة، حتى لو بدت قولًا متنطعًا أو مجرد مكابرة رومانسية بالنسبة لجمهور من الضحايا الانهزاميين المفتونين سرًا بقوة «الذئاب». وهنا تصبح قصيدة إنتسنسبرغر مناسَبة للتوقف أمام التساؤل المحرج حول ما إذا كانت الشخصية العربية المهزومة ظلت في العمق «تستغل» موقعها ضحيةً لتبرير هزائم الماضي والحاضر؟! الإجابة عن هذا السؤال تتطلب بحثًا نفسيًّا يفسر فداحة الآثار التي تخلفها الهزيمة في الطبقات العميقة لذاكرة الشعوب وكيف يتحول الانهزام إلى سمة وسلوك.
لكن إعجاب الضحية بنفسها لكونها ضحية علامةُ استفهام كبرى، إعجاب لا ينم في رأيي إلا عن إدمانٍ «مازوخي» جماعيّ متلذذ بهذا الدور، يغذيه الاعتقاد الواهم بأن العالم يحبنا لأننا ضحايا. وهم ثقافي وسياسي يحجب عنَّا رؤية أنفسنا من الخارج بعيون الآخرين. فمن يصدق بعد اليوم، وعلى وقع استمرار الإبادة في غزة، أن الملايين حول العالم يحبوننا لكوننا ضحايا؟ هل تصدقون بأن رافعي لافتات وقف إطلاق النار في غزة يحبوننا لأننا ضحايا؟ حتى جان جينيه الذي عاش أجمل سنواته «أسيرًا عاشقًا» بين الفدائيين الفلسطينيين الملثمين بدأ يفقد افتتانه بهم بعدما تلاشت ثورتهم وتحول الثوار إلى شعراء أطلال.
الحقيقة أن العالم الذي يعبر إنتسنسبرغر بلسانه هو عالم الأقوياء الذي لا يلمس في داخله استعدادًا حقيقيًّا للتعاطف مع ضحية اختارت، عن جبنٍ أو كسل أو غباء، أن تخضع لشروط جلاديها، وأن تبادر لتقليم أظافرها كي تبدو طيبةً إلى أبعد الحدود، ومسالمة تحت رحمة القوى المفترسة:
«أعلى النسر أن يفترس الزهور؟
أو تطلبون من ابن آوى أن يسلخ نفسه؟
أعلى الذئب أن يخلع أسنانه بنفسه؟».
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
شاهد لحظة الاصطدام..عشرات الضحايا بحادثة تصادم طائرتين في واشنطن
لقي 18 شخصاً مصرعهم بحادثة اصطدام طائرة ركاب تابعة لشركة"أميركان إيرلاينز" بمروحية عسكرية في سماء واشنطن، بينما تواصل فرق الإنقاذ البحث عشرات المفقودين.
وبينت شركة "أميركان إيرلاينز" أن الطائرة التابعة لها كانت قادمة من ولاية "كنساس" إلى مطار ريغان في واشنطن، وعلى متنها 60 راكبا و4 من أفراد الطاقم لحظة وقوع الحادث فوق نهر بوتوماك، في حدود التاسعة من مساء الأربعاء بالتوقيت المحلي.
ونقلت شبكة "سي بي إس" عن مصدر في الشرطة أن فرق الإنقاذ انتشلت جثث أكثر من 18 شخصا حتى الآن من نهر بوتوماك ولم يتم العثور على ناجين.
شاهد لحظة تحطم طائرة ركاب أمريكية بعد اصطدامها بطائرة هليكوبتر تابعة للجيش الأمريكي أثناء اقترابها من مدرج في مطار ريغان#الأخبار pic.twitter.com/0PHduo8gXj
— قناة الجزيرة (@AJArabic) January 30, 2025
© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com)
محرر البوابةيتابع طاقم تحرير البوابة أحدث الأخبار العالمية والإقليمية على مدار الساعة بتغطية موضوعية وشاملة
الأحدثترند شاهد لحظة الاصطدام..عشرات الضحايا بحادثة تصادم طائرتين في واشنطن انتشال 18 جثة.. و3 من الجيش الأميركي بمصير مجهول في اصطدام طائرة ركاب فوق واشنطن تفسير حلم رؤية الزوج المتوفي في المنام حظك اليوم الجمعة 31 يناير/ كانون الثاني 2025 أول أمير عربي يزور دمشق بعد إعلان الشرع رئيسا لسوريا للمرحلة الانتقالية Loading content ... الاشتراك اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن إشترك الآن Arabic Footer Menu عن البوابة أعلن معنا اشترك معنا حل مشكلة فنية الشكاوى والتصحيحات تواصل معنا شروط الاستخدام تلقيمات (RSS) Social media links FB Linkedin Twitter YouTubeاشترك في النشرة الإخبارية لدينا للحصول على تحديثات حصرية والمحتوى المحسن
اشترك الآن
© 2000 - 2025 البوابة (www.albawaba.com) Arabic social media links FB Linkedin Twitter