د. إبراهيم بن سالم السيابي

غيَّب الموت إحدى أمهات الزمن الجميل بعدما خسرت معركتها الأخيرة في هذه الدنيا، بعد رحلة أثمرت تأسيس بيت وأسرة وأبناء يُكملون رسالتها في هذه الحياة، هي امرأة كانت تنتمي لهذا هذا الجيل من الأمهات الذي لا يعوض، أُمَّهات يُمثلن رمزًا للطيبة ودفء المشاعر الذي يجمع بينها وبين جيرانها وأبناء الحارة القديمة بكل معانيها وقيمها الثرية.


ورغم الظروف وقسوة الحياة، كانت تلك الأمهات حاضرات دائمًا يُقدمن العون والمساندة بلا تردد فهن ربات بيوت يقمن بإعداد كافة مستلزمات البيت والأسرة بلا كلل ولا ملل وهنَّ كذلك معلمات بلا مؤهلات علمية وهن طبيبات قبل أن تعلق شهادات الطب في أروقة المستشفيات والعيادات وهن ممرضات يضعن بلسمهن الخاص لكي يداوي كل أنواع الجروح والآلام، وتراهن الابتسامة لا تفارق مُحيَّاهُن في كل وقت وكل حين، وكانت هؤلاء الأمهات وكلماتهن تنطق بالحكمة ويجبرن الخواطر ويخففن عن الجميع قسوة الزمن والأحزان، كنَّ مثالا يحتذى به، والواحدة منهن كانت تحمل في قلبها صبر السنين وروحًا مليئة بالتفاؤل والأمل، كنَّ يجمعن بين القوة والحنان، وبين الصلابة في مواجهة المحن والدفء الذي يجعل كل من حولهن يشعر بالأمان، .لم يكنَّ فقط أمهات لأبنائهن؛ بل أمهات للحارة بأكملها، كن يشارك الجميع أفراحهم وأتراحهم، ويفتحن أبواب بيوتهن وقلبوهن لجبر الخواطر لكل محتاج. كانت كلماتهن تلامس القلوب، ونصائحهن تُنير الدروب ولم تكن أيديهن تعرف الراحة، فقد كانت أيديهن مشغولة دائمًا بالعمل من أجل الآخرين، وعيونهن مليئة بالحب والاهتمام.
ونحن نؤمن بقضاء الله وقدره وسنته في هذه الأرض منذ بدء الخليقة بأن كل من عيلها فان والإنسان مهما طالت رحلته في هذه الدنيا فلاشك أنه راحل، ولكن كم يؤلمنا كثيرا هذا الرحيل وهذا الفقد، بالإضافة إلى ما يتركه هذا الفقد في قلوب الأهل والأصحاب والأقارب من حسرة وحزن، كما إنَّ مثل هؤلاء الأمهات لا يمكن تكرارهن أو تعويضهن؛ فكُل واحدة منهن قد رحلت تركت بصمة لا تمحى في نفوس كل من عرفها، وعزاؤنا بأن تبقى كل واحدة منهن دائمًا مصدر إلهام لنا لنحيا بروحها وقيمها، فهن نموذج للمرأة التي لا تنحني أمام الصعاب، والتي تسعى دائمًا لأن تجعل من حولها أفضل وأقوى وذكراها يجب أن تبقى في كل زاوية من الحارة، وفي كل قلب عرف قيمتها وحبها، وكل واحدة منهن نموذج لامرأة من ذلك الزمن الجميل يفتقده ويحن إليه كل من عاش ذلك الزمن.
فقدان الأم موقف من أصعب المواقف لما فيه من الحزن والانكسار الذي يمر به الأبناء وتمر الأسرة به في حياتها.
لا شك أن رحيل الأم عن الدنيا لا يعني فقط فقدان شخص عزيز، بل هو غياب الحنان والحب الذي لا يعوضه شيء؛ إذ إنَّ الأُم هي الملاذ الأول والأخير، هي من تمنحنا القوة لمواجهة الحياة، وهي النبض الذي يدق في أرواحنا مهما ابتعدنا أو تغيرنا.
عندما ترحل الأم، يشعر الإنسان وكأنه فقد ركنًا أساسيًا من أركان وجوده، فهي التي كانت تبني لنا عالما من الأمان والدفء بحضورها، وحين تغيب، يصبح العالم مكانًا أكثر برودة وأكثر وحدة. غيابها يشبه انطفاء شمسٍ كانت تشرق كل يوم لتمنح الحياة لونها وبهجتها، إنه ألم لا يمكن وصفه بالكلمات، بل هو شعور دائم بالحسرة والحنين.
يقول أحدهم إنه لم يحس بأنَّه تعدى مرحلة الطفولة إلّا عندما رحلت أمه عن هذه الدنيا فقد كان يعيش كطفل صغير في أحضانها بالرغم أنه أصبح أبًا؛ بل جِدًّا منذ سنين.
الحياة بدون آلام تأخذ طابعًا مختلفًا، فذكرياتها وفي المواقف التي كانت تملاها بحضورها وحنانها شيء آخر وحلم آخر فهي مصدر للدفء أحيانًا، وسبب في الحزن عند فقدانها.
الأم ليست مجرد شخص، بل هي رمز للحب الصادق والتضحية غير المشروطة فهي التي تعبت وسهرت وضحت من أجل أن ترى أبناءها في أفضل حال، وعندما نفتقدها نفقد ليس فقط الحاضر، بل نفقد الماضي بكل تفاصيله والمستقبل الذي كنا نتخيله معها وتصبح الأعياد والمناسبات بلا طعم، ويصبح كل فرح ناقصًا، وكأننا نفتقد جزءًا من أرواحنا.
كم هو صعب عندما يعيدنا الحنين إلى الذكريات، إلى ضحكاتها التي كانت تملأ المكان، وكلماتها التي كانت تهدئ القلوب، وحتى نظراتها التي كانت تحمل كل معاني الحب والاهتمام ودعائها الذي يعطي القلب الراحة والسكينة هذه الذكريات بالرغم صعوبتها قد تصبح وقودًا نستمد منه الطاقة لمواجهة الأيام. 
الحقيقة لا يمكن تجاوز فقدان الأم بسهولة، ولكن يمكننا أن نحول هذا الفقد الى قوة تلهمنا لنكون أشخاصًا أفضل، يمكننا أن نكرم ذكراها من خلال العيش وفق القيم التي غرسَتها فينا، ومن خلال مشاركة حبها وعطائها مع الاخرين وكل فعل طيب نقوم به وكل دعاء نصليه هو امتداد لإرثها الذي لن يمحوه الزمن.
نعم إن رحيل الأم هو واقع مؤلم يترك أثرًا لا يمحى في القلب وانكسارًا ما بعده انكسار لا يُجبر أبدًا مهما طالت الأيام ويبقى مكانها فارغاً لا يمكن أن يملأه أحد، ولكنه أيضًا يفتح أعيننا على جمال الحياة الذي كانت تصنعه لنا بحضورها وكانت تكافح من أجلها لكي نكون سعداء، بالتالي يجب أن نستمر في تذكرها بكل الحب والامتنان، وأن نجعل من ذكراها دافعًا لنكون أشخاصًا يحملون في قلوبهم شيئًا من حنانها وعطائها.
إن فقدان الأم رغم الألم والفقد يُعلمنا الكثير عن الحياة، عن الحب، وعن قيمة الأشخاص الذين يحيطون بنا ويجعلنا نقدر أكثر قيمة العائلة والأسرة وقيمة الوقت الذي نقضيه مع أحبائنا.
وفي الختام.. الله نسأل الصبر لكل من فَقَدَ أمّه، والدعاء لكل الأمهات اللاتي رحلن عن هذه الدنيا بأن يتغمدهن الله بواسع رحمته ويدخلهن فسيج جناته إنِّه قريب سميع الدعاء.
 

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: هذه الدنیا التی کانت لا یمکن دائم ا فی هذه

إقرأ أيضاً:

في قاعة المغادرين

 

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

في قاعة المغادرين؛ حيث تمتد الجدران الزجاجية لتعكس أضواء الرحيل، يتحوّل المطار إلى مسرح يومي لمشاعر متناقضة؛ هنا تتشابك القصص، وتتناوب اللحظات بين الوداع والانتظار، تنبعث رائحة قهوة الترقب، وعبق حقائب السفر، بينما تزدحم الوجوه بأمل يرافقه ترقّب لا شيء ثابت هنا سوى الحركة الدائمة، والسعي الدؤوب لكل من هو على حافة مغامرة جديدة.

في هذا الفضاء العابر، بين خطوات المسافرين وصوت الحقائب المتدحرجة، يتشكل عالم من اللقاءات المؤقتة، وتتصافح الأرواح التي جمعتها الصدفة، وربطها الزمن والمكان، هنا حيث تتقاطع البدايات بالنهايات، يُولد الحنين، وتُسطر الذكريات.

كنت جالسًا في زاوية هادئة من القاعة، أحتسي فنجان قهوتي الساخنة، وأقرأ الفصل الأخير من رواية، بينما أراقب الوجوه العابرة، لعلني أعرف أحدهم أو أتعرف على رفيق جديد لكي يكون رفيقاً لي في هذا السفر، وتجمعنا وجهة مشتركة في عالم السفر الطويل.

فجأةً، لمحت أحد الأصحاب، رحّبتُ به، وسألته عن سبب وجوده، فتبسم ضاحكا وقال: "أنا مسافر معك على نفس الطائرة، لعلاج والدتي العزيزة". بدأ بيننا حديث عابر عن السفر لأغراض العلاج، وتشاركنا الرأي بأن العلاج في الخارج ليس شرطاً بسبب ضعف الخدمات الطبية المحلية واتفقنا على وجود الكوادر المؤهلة التي تستحق منَّا الشكر والتقدير، وإنما هو أحيانًا البحث عن رأي طبي آخر، أو الهروب من فترة الانتظار لموعد الطبيب، وفي الوقت ذاته، البعض يراها فرصة تجمع بين العلاج والتسوق والاستجمام.

وبينما نحن في خضم الحديث دلَّهُ قلبُهُ لأن يلتفت، فلمحها هناك في آخر الرواق تنظر إليه فذهب ليتأكد ثم عاد، قال لي: يا لها من صدفة "إنها هنا، في نفس القاعة، مع أسرتها" فسألته بفضول من هي؟ فصمت، قبل أن يضيف بصوت خافت: "إنها الحب القديم". فرأيت في عينيه بريقًا لم أعهده فيه من قبل، بدا وكأنَّ ذكريات دفينة نُبشت فجأة من أعماق قلبه فأنا كنت أظن بأنَّ القصة قد انتهت منذ زمن، فقد أخذت الحياة كلٌّ منهما في طريقه، إلا أن مشاعر صاحبي حملت حنينًا صامتًا، لم يتمكن الزمن من محوه. ففي زحام قاعة المغادرين، تلاقت أعينهما بعد سنين الفراق، فارتجف الزمن وتوقف النبض لحظة، لم يكن بينهما كلام، فقط نظرات مثقلة بالشوق وألم الذكريات، تنبض بما بقي في القلب من حب لم يمت، ثم افترقا بصمت، وكلٌ منهما يجر خلفه وجع الحب الأبدي الذي لا يشيخ.

كنت أنصت إليه، وقلبي يُعيد تركيب المشهد كما لو أنه يقرأ عليَّ رواية لم تكتمل، تلك الذكريات التي تلتصق بنا، وتظل نابضة رغم تغيّر كل شيء، هي ما يجعل بعض اللحظات عصيّة على النسيان، مهما مرّ عليها من وقت.

عند الوصول افترقنا، ومضى كلٌّ في سبيله، ونحو وجهته، وفي اليوم الأخير من رحلتي، بينما كنت أتجول في السوق لشراء بعض الهدايا، لمحت صاحبي في أحد المحال، لم يخبرني بشيء عن رحلته، لكنني كنت متأكدًا من ملامحه، من عينيه، من رعشة يديه، من تلعثمه بالكلام، بانه ترك كل شيء هناك في البلاد في قاعة المغادرين ليكون معها ويرافقها قلبه، وعقله، وروحه، فأي حب هذا لا يعرف الزمن، واي شوق هذا يهيم فوق السحاب!

بينما كانت والدته تتجول برفقة مرافقتها، وهي تغمرها السعادة وبدت كأنها نسيت كل الألم، والإبر، والأشعة، وساعات الانتظار الطويلة، كانت والدته مُستغرقة في اختيار الهدايا، ربما لأبنائها، أحفادها، أو حتى لصديقاتها أو جاراتها، أنهن أمهات الزمن الجميل فكان واضحًا أن الرحلة منحتها فرصة جديدة لتعيش، بعيدًا عن مرارة العلاج، فلحظة تسوّق بسيطة أعادتها إلى الحياة، وذكّرتها بأن السعادة يمكن أن تكون في أدق التفاصيل.

في بعض الأحيان، هذه هي القيمة الحقيقية للسفر، ليس فقط الانتقال من مكان إلى آخر؛ بل انتقال في دواخلنا، في مشاعرنا ووعينا وذكرياتنا، هو لحظة إعادة اكتشاف الذات، والفرح، والدهشة.

قاعة المغادرين، إذن، ليست مجرّد محطة سفر؛ بل مسرح لحكايات مكتومة، وذكريات لا تُنسى، ومشاعر لا تُروى إلّا بصمت، في هذه الصالة تبدأ القصص وتنتهي، وتظل الأرواح تحوم بين المقاعد، تبحث عن وداع، أو تترقّب لقاء.

في النهاية، يظل المطار أكثر من مجرد مكان أو بوابة للذهاب والعودة؛ إنه مسرح مفتوح لمشاعر البشر، ومكان لا يجمع فقط الرحلات؛ بل يجمع الحياة نفسها بفرحها وقلقها، بحنينها وأملها، بكل ما يجعلنا بشرًا نحمل كل هذا الكم من المشاعر والأحاسيس.

مقالات مشابهة

  • رانيا يوسف في تصريح مثير للجدل: «90 % من حالات الطلاق سببها الأمهات»
  • رانيا يوسف تثير الجدل باعترافات صادمة عن زيجاتها وتدخل الأمهات
  • قصف وحصار وتجويع حتى الموت.. وكالات أممية وطبية: حرب شاملة على الحياة في غزة
  • بعد سقوطها من الطابق الـ25.. فتاة صينية تنجو من الموت بأعجوبة
  • طقوس نجوم الزمن الجميل للاحتفال بشم النسيم
  • «مؤسس أمهات مصر» تهنئ الإخوة الأقباط بعيد القيامة المجيد.. وتدعو الطلاب لتهنئة زملائهم
  • ‏الأردن يرحب بالتوافق الذي توصّلت إليه واشنطن وطهران خلال الجولة الثانية من المباحثات التي عُقِدَت في العاصمة الإيطالية روما
  • في قاعة المغادرين
  • كيف صنع مسلسل عندما تمنحك الحياة ثمار اليوسفي بصمته الفنية؟
  • «أمهات مصر»: توصيات لقاء شيخ الأزهر بوزير التعليم تحل مشكلات التعليم حال تنفيذها