حقيقة أم خديعة.. ماذا وراء معجزة إيطاليا الاقتصادية؟
تاريخ النشر: 28th, December 2024 GMT
منذ أن فازت "جورجيا ميلوني" وحزبها "إخوة إيطاليا" في الانتخابات التشريعية التي أجريت عام 2022 وحصول الحزب على أكثر من 26% من الأصوات بمفرده و44% من الأصوات للائتلاف الحاكم ككل، استطاعت ميلوني أن تشكل حكومة تمتعت باستقرار واستمرارية يصعب تحقيقها في إيطاليا التي تُعرف وسط جيرانها الأوروبيين بالسقوط السريع للحكومات بسبب الانقسامات المستمرة في صفوف الأحزاب السياسية.
فمنذ تأسيس الجمهورية الإيطالية بشكلها الحالي عام 1946 في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تعاقبت على البلاد 68 حكومة، ما يسلط الضوء على الطبيعة المعقدة للنظام البرلماني الإيطالي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا تعرف عن إمبراطورية لوكهيد مارتن التي تُشعل ساحات الحروب بالعالم؟list 2 of 2أميركا اللاتينية.. ساحة الصراع المنسية بين الصين وأميركاend of listيجبرنا تاريخ إيطاليا على الحذر حين الحديث حول استقرار حكومة ما أو التفاؤل بمدة بقائها، لكن بعد أكثر من عامين قضتهما "المرأة الحديدية" في الحكم، وهي للمفارقة أول رئيسة وزراء أنثى في تاريخ بلادها، لا تزال ميلوني تتمتع بنفس القوة السياسية، إذ استطاع حزبها أن يتصدر نتائج الانتخابات الأوروبية في إيطاليا عام 2024 بـ27% من الأصوات، وهي الانتخابات التي حولتها ميلوني إلى استفتاء على شخصها، إذ طالبت الناخبين بأن يكتبوا اسمها على بطاقات الاقتراع.
واحدة من العوامل الرئيسية التي كفلت شعبية ميلوني وحافظت على استقرار سلطتها كان الأداء الاقتصادي الجيد لإيطاليا خلال العامين الماضيين، والذي صحبه تفاؤل واضح ولاقى استحسانا من قبل العديد من المحللين الاقتصاديين الأوروبيين، الذين اعتبروا أن رئيسة الوزراء أدارت الملف الاقتصادي بحكمة واحترافية مبتعدة عن السياسات الاقتصادية الكلاسيكية لتيارات أقصى اليمين، ومتبنية سياسات أكثر "وسطية" في هذا الملف.
إعلانلكن بعض الأرقام الأخيرة الخاصة بالأداء الاقتصادي الإيطالي تصطدم بالصورة المشرقة التي رسمتها الحكومة والمحللون للاقتصاد الإيطالي في العامين المنصرمين، وتنذر بأن هناك مشكلات هيكلية في الاقتصاد الإيطالي يمكن أن تنفجر في أي وقت قريب.
بعد فوز جورجيا ميلوني بأشهر قليلة، انهالت عبارات الاستحسان بشأن أدائها الاقتصادي حتى من منافسيها الذين أعربوا عن دهشتهم من كونها لم تنتهج سياسات اقتصادية يمينية متشددة.
على سبيل المثال صرح "إنريكو ليتا"، زعيم يسار الوسط السابق، قائلا إن رئيسة الوزراء أدت أفضل كثيرا مما توقعه في ملفات الاقتصاد والمالية، وبحسب إذاعة "دويتشه فيله" الألمانية فإن ميلوني في السياسة الاقتصادية اتبعت نفس المسار الذي سلكه سلفها رئيس الوزراء ذو الشعبية الكبيرة ماريو دراجي، الأكاديمي الاقتصادي والرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، وأكدت الإذاعة الدولية الألمانية أن هذا المسار في الواقع آتى ثماره مع ميلوني.
بحسب صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، حقق الاقتصاد الإيطالي في العامين الماضيين نموا، وإن كان بطيئا، تفوق على متوسطات النمو الحالية في منطقة اليورو بفضل سياسات تقليص الإنفاق الحكومية وتوسع البلاد في تصدير منتجات التكنولوجيا والسيارات، وهو أداء متميز بالنسبة لواحد من الاقتصادات في جنوب القارة التي كان ينظر عليها قبل أقل من عقد على أنها مركز للديون في منطقة اليورو.
وقد انخفض معدل البطالة في البلاد على نحو ملحوظ، فيما تؤكد دويتشه فيله على أن سوق الأسهم الإيطالي استفاد من المزاج المتفائل تجاه الأداء الاقتصادي لروما بشكل عام، إذ ارتفع مؤشر "بورصة ميلانو"، وهو مؤشر سوق الأسهم القياسي لبورصة إيطاليا، بنحو 28% مقارنة بالعام الماضي أكثر من أي مؤشر آخر لسوق الأسهم الأوروبية.
من وجهة نظر كثير من الخبراء، تعد هذه النتائج المبشرة للأداء الاقتصادي الإيطالي ثمرة لمليارات الدولارات التي ضخها الاتحاد الأوروبي في الاقتصاد الإيطالي لتحقيق التعافي من تبعات جائحة كوفيد-19، لكنها تعززت بفضل سياسات الإنفاق الحذرة والميزانيات الصارمة التي اتبعتها حكومة ميلوني.
إعلانولكن بغض النظر عن الأسباب التفصيلية التي سنتطرق إليها لاحقا، كان مشهد الاقتصاد الإيطالي مع مطلع عام 2024 مثيرا للإعجاب بين قطاعات من المحللين خاصة إذا ما قورن المشهد بأداء الاقتصادات الأوروبية الأخرى.
فخلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام، نما الاقتصاد الإيطالي بنسبة 0.6%، بينما انكمش الاقتصاد الألماني، الأكبر في أوروبا، بنسبة 0.3% خلال الفترة نفسها. ولم يختلف اتجاه التنبؤات المستقبلية آنذاك عن الأداء الراهن، إذ توقعت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن ينمو الاقتصاد الإيطالي بنسبة 0.7% خلال عام 2024، مقابل نسبة 0.3% للاقتصاد الألماني.
وبحسب يورغ كرامر، كبير الاقتصاديين في بنك كوميرز (البنك التجاري العالمي بفرانكفورت في ألمانيا)، فإن الاقتصاد الإيطالي قد نما منذ عام 2019 إلى عام 2024 بما يعادل ضعف نمو الاقتصاد الفرنسي وخمسة أضعاف النمو الاقتصادي الألماني، وبنسبة تصل إلى 3.8%.
يعد هذا الانتعاش الاقتصادي الإيطالي، الذي يبدو أنه بدأ قبل عصر ميلوني وتعزز تحت سلطتها، مفاجأة بالنسبة لأوروبا، خاصة أنه ترافق مع أزمات متعددة في دول أوروبية أخرى اعتادت أن تكون هي نماذج الاستقرار والنمو، فمتوسط بقاء الحكومة في إيطاليا منذ الأربعينات لا يكاد يتجاوز عاما كاملا، ويعني ذلك أن روما اختبرت أكثر من ضِعف عدد الحكومات التي شهدتها ألمانيا وبريطانيا على سبيل المثال.
هذه الحقائق هي ما جعلت إيطاليا ينظر إليها دائما في أوروبا بوصفها "الطفل المراهق المزعج الذي يستنزف بطاقة ائتمان عائلته"، بحسب نيويورك تايمز.
لكن هذه الصورة تغيرت مؤخرا، فمع اقتراب العام الحالي من نهايته، وبينما تتمتع إيطاليا بحكومة مستقرة تعد من الأطول عمرا في تاريخ البلاد؛ أسقط البرلمان الفرنسي حكومة ميشال بارنييه بعد 3 أشهر فقط من توليها السلطة لتصبح أقصر الحكومات عمرا في تاريخ فرنسا الحديث، وذلك عقب اقتراع لسحب الثقة تعاون فيه أعضاء من اليسار واليمين المتطرف، وكانت تلك الحادثة الخاصة بتصويت حجب الثقة هي الأولى من نوعها في فرنسا منذ عام 1962.
إعلانأما ألمانيا التي تمتعت بفترة استقرار طويلة حكمت فيها المستشارة السابقة أنجيلا ميركل 16 عاما غيرت إيطاليا خلال 10 حكومات، فقد صارت الآن تعاني من عدم الاستقرار، إذ انهار ائتلافها الحكومي مؤخرا، وخسر المستشار الألماني "أولاف شولتس" التصويت على مذكرة حجب الثقة في البرلمان، ما يعني التوجه نحو تنظيم انتخابات تشريعية مبكرة.
هذا المشهد غير المعتاد الذي ظهرت فيه إيطاليا مؤخرا باعتبارها جزيرة الاستقرار السياسي والاقتصادي في قارة مضطربة عائمة على جبل من التوتر والأزمات، جعل رئيس وزراء إيطاليا الأسبق "ماتيو رينزي" يمزح قائلا: "مرحبا بكم في الفوضى الإيطالية…، لطالما تعرضنا للسخرية لسنوات بسبب عدم استقرار الحكومات في إيطاليا.
لم نصدر فقط جبن البارميزان والمعكرونة والنبيذ، وإنما أيضا مشكلات الائتلافات السياسية وعدم الاستقرار"، في حين قال جوليو أغاتا، السفير الإيطالي السابق بواشنطن وعضو حزب ميلوني "إخوة إيطاليا"، أن حكومة ميلوني قد أثبتت أخيرا أن إيطاليا قادرة على التمتع بحكومة تستمر لأكثر من عام ونصف.
هذا الاستقرار السياسي ومعه النمو الاقتصادي دفعا ميلوني وحزبها إلى التباهي بما وصلت إليه إيطاليا في وقت ينزف فيه الآخرون، فقد تفاخر رموز حزب "إخوة إيطاليا" بأن الاستقرار والنمو ساعدا في جذب الاستثمارات، وعلى رأسها إعلان شركة مايكروسوفت مؤخرا عن أكبر استثمار لها في إيطاليا، كما أعلنت خدمات أمازون ويب للحوسبة السحابية عن خططها لإنفاق 1.2 مليار دولار لتوسيع وتحسين البنية التحتية السحابية في إيطاليا.
حتى إن رئيسة الوزراء نفسها مارست الاستعراض السياسي مستندة إلى أرقام أداء الاقتصادي الإيطالي، مشيرة إلى أن اقتصاد بلادها يحقق معدلات نمو في عهدها أكثر من بقية اقتصادات أوروبا الكبرى رغم تباطؤ الاقتصاد في العالم كله عموما، كما تباهت ميلوني بالمعدلات المميزة التي حققتها حكومتها على صعيد تقليص البطالة وزيادة الاستثمار، وزيادة الثقة عالميا في مستقبل الاقتصاد الإيطالي.
إعلانلكن يبدو أنه في إطار هذا الاحتفاء والنغمة المتفائلة قد تناسى البعض شيئا ما، وهو أن النمو المستمر والانتعاش الاقتصادي في إيطاليا بعد جائحة كوفيد-19 كان مرتبطا بشكل أساسي بالدعم الأوروبي والديون الجديدة، وأن الاقتصاد في الحقيقة لا يزال يعاني من مشكلات هيكلية عميقة يمكن أن تطل برأسها بعنف قريبا إذا لم تسارع الدولة في حلها بحلول طويلة المدى وفعالة.
على خلاف الأرقام العامة المبهرة التي تعمل حكومة ميلوني دائما على تصديرها في الواجهة للجماهير وللإعلام الخارجي، فإن الأرقام التفصيلية للأداء الاقتصادي الإيطالي التي تقدمها المفوضية الأوروبية تسلط الضوء على نقاط عمياء مهمة لا يلتفت إليها كثيرا.
على سبيل المثال، تشير الحكومة الإيطالية أنها حققت أرقام إيجابية للغاية فيما يخص مشكلة البطالة، لكنها تتغافل عن ما تظهره الأرقام التفصيلية حول أن المزيد من الإيطاليين صاروا يعملون بالفعل لكن بأجور أقل، كما أن معدل التشغيل في إيطاليا لا يزال يقل عن المتوسط الأوروبي بـ9 نقاط مئوية، وبحسب معايير الاتحاد الأوروبي فهو يقع تحت تصنيف "ضعيف ولكن يتحسن".
وتزيد المشكلات الاقتصادية كلما اتجهنا إلى جنوب البلاد، إذ من المعروف أن إيطاليا من أشهر الدول فيما يتعلق بالتباين الكبير بين التنمية في شمالها وجنوبها وكأنهما بلدان منفصلان وليسا منطقتين داخل نفس الدولة.
لا تقف التفاصيل القاسية عند هذا الحد، حيث تشير أرقام المفوضية الأوروبية أن نسبة الأشخاص المتضررين من الحرمان المادي والاجتماعي في إيطاليا مرتفعة للغاية، إذ بلغت نسبة من يعيشون في فقر مدقع في البلاد 9.8% بحلول نهاية 2023. أما بالنسبة للفجوة في الدخل بين الجنسين فلم تتحسن بحسب المفوضية الأوروبية طوال العقد الماضي، إذ تبلغ نحو 19.5 نقطة مئوية، وهذا الرقم هو ضعف متوسط الاتحاد الأوروبي.
إعلانفي غضون ذلك، لا تزال لدى إيطاليا واحدة من أعلى معدلات الشباب الذين لا يدرسون ولا يعملون داخل الاتحاد الأوروبي بنسبة تصل إلى 11.2%، ويفتقد التلاميذ في البلاد إلى المهارات الأساسية أكثر من متوسط الاتحاد الأوروبي بوضوح، إذ يعاني واحد من كل ثلاثة في إيطاليا -بحسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- من الأمية الوظيفية، علما بأنه في عام 2023 كان 45.8% فقط من البالغين الإيطاليين لديهم مهارات المعرفة الرقمية الأساسية.
كل تلك الأرقام وغيرها تجعل الاتحاد الأوروبي يضع العديد من المؤشرات الاقتصادية في إيطاليا في خانة "المشكلات الحاسمة" أو "التي ينبغي مراقبتها"، كما يعتبر الاتحاد الأوروبي إيطاليا من الدول التي لديها اختلالات مفرطة في الاقتصاد الكلي.
على جانب آخر، تلقت الحكومة الإيطالية مؤخرا خبرا غير سار، حيث خفضت وكالة الإحصاء الوطنية الإيطالية في شهر ديسمبر/كانون الأول 2024 أرقامها عن نمو إيطاليا الاقتصادي هذا العام إلى النصف، بواقع 0.5% فقط، مقارنة بالتوقعات التي بلغت 1% في يونيو/حزيران الماضي. كذلك صارت الوكالة تتوقع نموا في العام القادم بنسبة 0.8% فقط بدلا من نسبة 1.1% في توقعاتها السابقة.
ويأتي هذا التخفيض في الأرقام بحسب الصحيفة البريطانية "فايننشال تايمز" في ظل "مشكلات خطيرة" يعاني منها القطاع الصناعي في إيطاليا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام، بحسب وصف وزير المالية الإيطالي جيانكارلو جيورجيتي.
المشكلة الحقيقية هي أنه برغم أن استقرار حكومة ميلوني السياسي يجعلها قادرة على تمرير الميزانية والإجراءات اللازمة لخفض الإنفاق والتعامل مع الرياح الاقتصادية المعاكسة بخلاف بلدان مثل فرنسا وألمانيا التي تشهد اضطرابات سياسية، فإن ديون إيطاليا التي تفوق بوضوح نظراءها الأوروبيين تجعلها أكثر عرضة للتأثر بالصدمات الخارجية مقارنة بالبلدان الأخرى.
إعلانوبحسب يورغ كرامر، كبير الاقتصاديين في بنك كوميرز، فإن النجاح الإيطالي في العامين الأخيرين لا يمكن نسبته لسياسات ميلوني بشكل أساسي، وإنما يعود للتدفقات المالية الخارجية القادمة من الاتحاد الأوروبي في أعقاب جائحة كوفيد-19، والتي ستبلغ 200 مليار يورو (216 مليار دولار) بحلول عام 2026.
تمثل هذه الحصة الإيطالية نصيب الأسد من الأموال الأوروبية المخصصة للتعافي في أعقاب الجائحة، ويحذر الخبراء من أن روما إذا لم تنتبه إلى خفض عجز الميزانية شديد الارتفاع في أقرب وقت وتستخدم تلك الأموال في حل المشكلات البنيوية العميقة لاقتصادها، فمن المرجح أننا سنشهد قريبا انتهاء سريعا لفترة النمو الاستثنائية التي مرت بها، وستسقط البلدان حينها في دوامة من المشكلات الاقتصادية الجديدة القديمة.
تعد هذه الديون والمنح الأوروبية المحرك الأساسي للنمو الإيطالي خلال السنوات الأخيرة. وبحسب "دويتش فيلله"، كانت نسبة "الديون الجديدة" للدولة الإيطالية قبل جائحة كوفيد هي 1.5% من الناتج المحلي الإجمالي، لكنها وصلت بحلول النصف الأول من عام 2023 إلى 8.3%. ومن ثم فإن "جبل الديون"، بحسب تعبير المنصة الألمانية، ينمو باضطراد.
وفي بداية عام 2024، قدرت المفوضية الأوروبية أن إجمالي الدين الإيطالي سوف يتجاوز نسبة 140% من الناتج المحلي بنهاية العام الحالي، وأنه سيستمر في الارتفاع في عام 2025، في حين أن نسبة الدين في ألمانيا مثلا تتجاوز 66% من إجمالي الناتج المحلي، وفي فرنسا تقترب من 100%.
هذه الحقائق التفصيلية دفعت رويترز إلى التوقع بأن الضعف الهيكلي في الاقتصاد الإيطالي سيبدأ مرة أخرى في الظهور بعد موجة التعافي الاقتصادي من الجائحة، وأن إيطاليا ستعود سريعا لموقعها المعتاد بوصفها واحدة من أسوأ بلاد اليورو أداءً من الناحية الاقتصادية، إذ كان الاقتصاد الإيطالي هو الأكثر بطئا في منطقة اليورو منذ انطلاق العملة الموحدة قبل 25 عاما.
إعلانويهدد الركود الأخير، المخالف لتوقعات بداية العام، المالية العامة للبلاد، وهو ما يتناقض -بحسب رويترز- مع الصورة التي تقدمها حكومة جورجيا ميلوني التي تؤكد على أن عدم الاستقرار السياسي قبل عهدها كان السبب الرئيسي في الأزمات الاقتصادية بالبلاد، وأن هذه الأزمات قد انتهت حاليا.
لا تختلف الأرقام المحلية الإيطالية كثيرا عن تقديرات المفوضية الأوروبية، حيث تشير البيانات الرسمية إلى أن الدين العام للبلاد سيبلغ 138% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2026، ما يضعها في المرتبة الثانية على مؤشر الديون في منطقة اليورو.
ومع أرقام النمو المتراجعة حاليا، والتي تخالف التوقعات المتفائلة في منتصف العام، فإن الدين العام ربما يرتفع بشكل أسرع، وستقل الثقة في شراء السندات الإيطالية ويزداد عبء خدمة الديون على الدولة، في ظل أزمة تصنيع كبيرة وانكماش في قطاع الخدمات الذي يعد الآن الداعم الرئيسي للاقتصاد، وفي ظل حقيقة سلبية أخرى هي أن معدل ثقة الأعمال في إيطاليا بلغ أقل مستوى له منذ عام 2021.
انظر إلى إسبانيا لا ألمانيالا شك أن حكومة ميلوني حققت استقرارا سياسيا مقارنة بالحكومات السابقة، لكن الأرقام المتفائلة للاقتصاد الإيطالي ربما يحتاج أن تُقرأ في سياقات مختلفة أكثر دقة.
إن النظر إلى الاستقرار السياسي والاقتصادي في إيطاليا مؤخرا مقارنة بالوضع في فرنسا وألمانيا قد يعطي الإيحاء بقصة نجاح كبيرة للغاية، لكن ربما تكون المقارنة الأدق في الحالة الإيطالية، وهي اقتصاد جنوبي آخر في منطقة اليورو احتل المرتبة الثانية في قائمة المتلقين للمساعدات الأوروبية في أعقاب الجائحة.
نجحت مدريد في تحقيق نمو يتجاوز بـ4 أضعاف معدلات النمو الإيطالي بحسب رويترز، ومن المتوقع أن يصل نمو ناتجها الإجمالي بنهاية هذا العام إلى 3%، ويرجع ذلك بحسب أنغيل تالافيرا، رئيس قسم البحوث الأوروبية بـ"أكسفورد إيكونوميكس"، إلى قدرة إسبانيا على جذب المهاجرين المهرة ودمجهم في اقتصادها، بعكس إيطاليا التي جذبت عددا أقل من المهاجرين مع مهارات أدنى، وهم يعملون بشكل أساسي في الاقتصاد غير الرسمي، في وقت يهاجر فيه شبابها من بلادهم بمعدلات مرتفعة، هذا فضلا عن قدرة إسبانيا في العشرين عاما الماضية على تحديث بنيتها التحتية وخدماتها بصورة أفضل من إيطاليا.
إعلانفي دراسة اقتصادية حول الأمر، يتفق الخبير الاقتصادي وأستاذ برنامج الماجستير التنفيذي في إدارة الأعمال بكلية إدارة الأعمال بجامعة تورينو، جوسيبي روسو، على أن نجاح إسبانيا بعد الجائحة في مقابل التعثر الهيكلي الإيطالي يعود بالأساس إلى حصيلة الخطوات الاقتصادية السليمة التي اتخذتها إسبانيا في العشرين عاما الماضية مقابل إيطاليا، ويقدم "روسو" رؤية خالية من الأحلام الوردية التي تقدمها حكومة بلاده، مؤكدا أنه لا مجال للحديث عن معجزة اقتصادية في إيطاليا بعد الوباء، بل ينبغي على الدولة أن تجري تخفيضات دائمة وليست مؤقتة في الإنفاق، ويؤكد أيضا على أن السبيل الوحيد لتحقيق نمو مستدام في المستقبل يمكن في الاستثمار والابتكار، وهما بحسبه الكلمتان اللتان فشلت إيطاليا دائما في ترجمتهما على أرض الواقع بالصيغة المثلى.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
ماذا تعرف عن عصابة تران دي أراغوا التي يهاجمها ترامب بشراسة؟
في المناظرة الرئاسية الوحيدة بينهما في 10 سبتمبر/أيلول 2024، أثارت المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس جدلا حول ما أسمته بقانون تنظيم الحدود وتحجيم الهجرة غير النظامية. حينها، ادعت هاريس أن خصمها دونالد ترامب طلب من الجمهوريين معارضة تمريره في الكونغرس، وعندما سأل المحاور ترامب عن السبب لم يجب عن سؤاله، وركز كالمعتاد على تصعيد الهجوم نحو خصمه.
تحدث ترامب بنبرة غاضبة قائلا: "لقد ضاع بلدنا، نحن أمة فاشلة، وقد أصبحنا هكذا منذ 3 أعوام ونصف (مدة ولاية جو بايدن حتى ذلك الحين)، لقد سمحوا للملايين من الناس بالقدوم لهذا البلد".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هل تفعلها إيران وتفكك النووي والصواريخ وشبكة الحلفاء لتفادي الحرب؟list 2 of 2الصليبي الأخير.. وزير الدفاع الأميركي الذي يكره جيشهend of listلكن ترامب في تلك الليلة قد شعر بأن سردية المهاجرين الذين يسكنون في المناطق العشوائية ويتاجرون بالمخدرات ويمتلكون الأسلحة دون امتلاك أوراق ثبوتية باتت قديمة ومنخفضة السقف، فقدم طرحا جديدا لجمهوره قائلا: "في بلدات مثل أورورا وسبرينغفيلد، يأكل المهاجرون الحيوانات الأليفة المملوكة للسكان"، لينهي إجابته على السؤال بالقول: "إن أصبحت هاريس رئيسة للولايات المتحدة فسينتهي بنا المطاف مثل فنزويلا".
لاحقا، بعد تولي ترامب الرئاسة، تبين أن ذكره لأورورا والمهاجرين هناك والخوف من أن تتحول أميركا إلى فنزويلا كان تهيئة كلامية لحرب سوف يشنها فور وصوله إلى البيت الأبيض على عصابة فنزويلية تدعى "تران دي أراغوا (Tren de Aragua)"، وتعني بالإسبانية "قطار أراغوا". فما قصة تلك العصابة؟ وهل كان ترامب محقا في ادعاءاته خلال مناظرته مع هاريس؟
تأسست عصابة "تران دي أراغوا" في مطلع الألفية الحالية في سجن غير معروف في مدينة أراغوا شمال وسط فنزويلا على يد شخص يدعى "نينيو غيريرو (Niño Guerrero)"، تصفه وسائل الإعلام بمدير "السجن الفاخر" بسبب نجاحه في تنمية أعمال العصابة داخل السجن حتى أصبح يدير "حديقة حيوانات وناديا ليليا وبنكا".
إعلانوُلد نينيو عام 1983 في مدينة أراغوا، وكل ما يعرف عنه هو شروعه في مهاجمة رجال الشرطة وتجارة المخدرات على نطاق ضيق منذ عام 2000، حتى اعتقل عام 2010 بتهمة قتل رجال شرطة وتهريب المخدرات، بالتزامن مع توسع أعمال العصابة، وفق موقع "إنسايت كرايم".
ورغم نفاذ قرار سجنه، ظهر نينيو عام 2015 في أحد الأحياء الخاضعة لسيطرة العصابة وهو يخاطب الحاضرين في إحدى حفلات الحي بصفته زعيم العصابة ويعدهم بتحسين ظروفهم.
أُعيد اعتقال نينيو مرة أخرى عام 2018، واعترف بجرائمه أمام المحكمة ليتلقى حكما بالسجن لمدة 17 عاما، ليبدأ هناك في ترقية أعمال العصابة وتحويل السجن إلى مقر عمليات، فقد سكن هنالك في منزل فاخر من طابقين، وكانت له رفاهية استقبال من يشاء من الخارج.
وبحلول عام 2020، أصبح لدى نينيو نحو 1000 عضو يأتمرون بأمره، وامتد نفوذ العصابة في جميع أنحاء فنزويلا تقريبا، بما في ذلك مناجم الذهب في ولاية بوليفار ومعابر المخدرات على ساحل الكاريبي، إلى جانب المعابر الحدودية السرية لتهريب المهاجرين.
وفي عام 2023، حرّكت الحكومة الفنزويلية قوة ضمت نحو 11 ألف عنصر من الجيش والشرطة للقبض على نينيو داخل السجن، لكنهم فشلوا في العثور عليه، مع وجود تسريبات حول عقد صفقة بين قادة العصابة والحكومة سهلت هروبه قبل أيام من تنفيذ العملية.
ولا يزال نينيو حتى اليوم يدير أعماله من مكان مجهول، فيما تسيطر العصابة على السجن وتفرض غرامات أسبوعية وشهرية على النزلاء، كما تتحكم في أحياء من مدينة أراغوا وتفرض فيها حظر التجوال.
ترامب يدخل على الخطفي السنوات الأخيرة، تدفقت أعداد كبيرة من المهاجرين الفنزويليين إلى مدينة أورورا وما جاورها في ولاية كولورادو، وهي المدينة التي ذكرها ترامب في مناظرته مع هاريس، رغم أنها لم تُعرف من قبل بوصفها مقصدا للمهاجرين أو مكانا لتجمعهم في الولايات المتحدة.
إعلانونقلت وسائل إعلام أميركية عن سكان المدينة قولهم إن توسع أعمال عصابة "تران دي أراغوا" تزامن مع ارتفاع أعداد المهاجرين الفنزويليين فيها منذ عام 2023 حين بلغ عددهم نحو 50 ألفا (بضع مئات منهم فقط ينتمون للعصابة، ولا يوجد انتشار لهم خارج المدينة).
وبحسب صحف أميركية، اتخذ أفراد العصابة بعض المنازل المهجورة في أحياء المدينة لإدارة عمليات سرقة السيارات وتجارة المخدرات وإقامة حفلات الغناء والجنس مقابل أسعار زهيدة، وهو ما وصفها أحد السكان بأنها "أفعال من لا يخشى شيئا".
ومع توسع نفوذ العصابة، التي بدأ أعضاؤها في جمع الضرائب من سكان الحي مقابل خدمات مثل ركن السيارة، ومع تزايد جرائم الاختطاف والقتل والتعذيب، بدأ الضوء يتسلط شيئا فشيئا على أورورا، وعلى نشاط "تران دي أراغوا" في الولايات المتحدة.
أما المفارقة التي نقلتها عدد من الصحف الأميركية، فهي أنه وكما ركز ترامب في حملته الانتخابية عام 2016 على عصابة "إم إس-13″، قرر في حملة 2024 التركيز على "تران دي أراغوا"، لتكون العصابة إحدى أهم الأولويات في أجندته لأول 100 يوم من ولايته الرئاسية.
كما استدعى ترامب لشن حربه على "تران دي أراغوا" قانونا يعود تاريخه إلى عام 1798 ولم يُفعّل من قبلُ سوى 3 مرات في تاريخ الولايات المتحدة، يعرف باسم "قانون الأعداء الأجانب"، وهو القانون الذي يسمح للرئيس بتوقيف مواطنين لدولة في حالة حرب مع الولايات المتحدة أو ترحيلهم.
وبالفعل، رحّلت إدارة ترامب ما يقرب من 200 مهاجر بتهمة الانتماء إلى "تران دي أراغوا"، فيما تعهد بترحيل الآلاف منهم خلال الأيام القادمة، بوصفهم ينتمون لـ"واحدة من أشرس وأعنف العصابات الإرهابية على كوكب الأرض"، على حد بيان صادر عن البيت الأبيض.
بيد أن خبراء يعتقدون أن تصنيف "تران دي أراغوا" ضمن قوائم الإرهاب يُعد أمرا غير دقيق للغاية، فهي لا تشبه في عملها عصابة "إم إس-13" ولا الحركات "الإرهابية" التقليدية. وتقول الصحفية الاستقصائية وخبيرة الجريمة المنظمة في أميركا اللاتينية "رونا ريسكيز" إن "أنشطة العصابة قد تكون مرهبة للناس من الناحية التقنية، لكن هناك فجوة كبيرة بينها وبين باقي الجماعات المصنفة إرهابية في الولايات المتحدة، فليس لديهم خلفية أيديولوجية، إذ كل ما يعنيهم هو المال".
إعلانلكن، وبغض النظر عن دقة تصنيف العصابة في حد ذاتها، فإن الأثر الواقعي يتمثل في أن هذه الحملة خلقت غطاءً قانونيا يبرر ترحيل عدد أكبر من المهاجرين من الولايات المتحدة وفق قانونيين وحقوقيين. ناهيك أيضا أن بيانات الحكومة الأميركية تظهر أن عدد الجرائم التي سُجلت للمواطنين الأميركيين يفوق عدد الجرائم التي ارتكبها مهاجرون غير نظاميين.
من جانبها، أرسلت إدارة ترامب المهاجرين غير النظاميين الموقوفين الذين وصفتهم بأنهم "أسوأ السيئين" إلى سجون خارج البلاد، لكن التحريات أظهرت لاحقا أن عددا كبيرا منهم لا تربطه أي علاقة مع "تران دي أراغوا"، وأن كل ما استندت إليه إدارة الهجرة هو "تشابه الوشوم"، أو أن أصول الموقوفين تعود إلى مدينة أراغوا، في حين لا يعتمد أعضاء العصابة وشما موحدا، كما هو الحال مع العصابات الأخرى، وليس كل سكان المدينة أعضاء في العصابة.
وأورد موقع إنسايت كرايم أن سمعة "تران دي أراغوا" باتت آخذة في الانتشار بشكل أكبر مما عليه وجودها الفعلي في الولايات المتحدة.
وبالعودة إلى قصة التهام الحيوانات الأليفة في أورورا التي رواها ترامب في مناظرته، خرج عمدة المدينة الجمهوري "مايك كوفمان" للرد على ترامب بعد يوم من تناوله موضوع الجرائم في مدينته قائلا: "إن نشاط العصابات يقتصر على عدد من المجمعات السكنية في مدينة لا يتجاوز عدد سكانها 400 ألف نسمة"، مضيفا أن "المخاوف بشأن العصابات الفنزويلية مبالغ فيها".
إذن، يبدو أن قصة "تران دي أراغوا" في جانب منها تبدو أنها وسيلة لمطاردة "أعداء أميركا" وتحقيقا لوعود ترامب الانتخابية بأن يجعل أميركا "آمنة"، ومن جانب آخر فإن هذه الخطوات التي تتخذها إدارة ترامب، تستهدف الشريحة الانتخابية التي صوتت لترامب بتحقيق انتصارات ونتائج سريعة تظهر الإدارة الجديدة بمظهر الإدارة القوية التي لا تتهاون مع أي شيء خارج عن القانون.
إعلانوعلى الرغم من عدم نفي وجود جرائم يرتكبها عدد من المهاجرين غير النظاميين، إلا أن الديمقراطيين والمعارضين لسياسات ترامب، يشككون في كون هذه الحملة الشرسة موجهة فقط لأصحاب الجرائم، إذ يرون فيها وسيلة لخلق عدو متخيل يزيد من شعبية الإدارة الأميركية الجديدة بحسب وصفهم.
أما لفهم ظروف نشأة تلك العصابات والكيفية التي أدارت علاقاتها مع الدولة من جهة، وبين أفرادها من جهة أخرى، فإننا بحاجة للعودة لجذور هذه التشكيلات.
من هناك يأتي الخطروقد يسهل تفسير ظهور منظمات الجريمة في القارة اللاتينية عادة بشيوع الفقر، لكن ثمة تفاوت يمكن رصده في أسباب انضمام أعضاء العصابات إليها، ما بين أسباب سياسية نابعة من الرغبة في مقاومة السلطة، أو للهروب من مشكلات عائلية، أو بسبب التعرض للابتزاز من قبل أعضاء العصابة الآخرين.
ولفهم العصابات اللاتينية الأميركية التي بدأ حضورها بالازدياد منذ نهاية الحرب الباردة في أميركا، فإنه يجب علينا أن نستوعب جذور بعض الأفكار المشكِّلة لها، فمن المهم في هذا السياق أن نفرق عند الحديث عن عصابات أميركا الجنوبية بين ما يسمى بـ "الماراس"، وما يعرف باسم "البانديلاس".
فـ"الماراس" هي منظمات عابرة للحدود، تأسست أُولاها باسم "دياث يوتشو (dieciocho)" في ستينات القرن الماضي في لوس أنجلوس على يد مهاجر مكسيكي، لتبدأ لاحقا في جذب المهاجرين من غواتيمالا والسلفادور وتتحول إلى مجتمع لاتيني مصغر يشعر فيه القادمون إلى الولايات المتحدة بالانتماء والحماية.
في حين ينحصر نشاط "البانديلاس" داخل الحدود، وهم الأكثر التصاقا بتاريخ عصابات أميركا الجنوبية القديمة، وكانوا منتشرين بطريقة غير منظمة على امتداد القارة، وبالأخص في وسطها، بعد انقضاء الحرب الباردة، لكنها سرعان ما اندمجت مع عصابات الماراس أو جرى القضاء عليها، وينحصر وجودها اليوم في نيكاراغوا وكوستاريكا.
إعلانوفي ثمانينات القرن الماضي ظهر جيل جديد من "الماراس" الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "مارا سلفاتروتشا"، ويُعرفون اختصارا بالرمز "MS-13″، وسرعان ما أصبحوا أعداء لعصابة "دياث يوتشو"، واندلعت بينهما أعمال عنف إلى جانب صراعهما مع قوات الشرطة في لوس أنجلوس.
في وسط تلك الفوضى، أقر الكونغرس الأميركي تعديلا على قانون الهجرة غير النظامية في عام 1996، يسمح بترحيل أي مواطن غير أميركي قضى في السجن أكثر من عام، وهو ما نتج عنه ترحيل نحو 50 ألفا إلى دول أميركا اللاتينية، إضافة إلى إلقاء القبض على 160 ألفا آخرين دون أوراق ثبوتية.
ومع عودة المهاجرين إلى دولهم، بدؤوا في إعادة تشكيل تفريعات عن الـ"دياث يوتشو" والـ"مارا سلفاتروتشا" بغية استقطاب أعضاء جدد من الشباب، أو استيعاب عصابات الـ"بانديلاس" مع التزامهم بالبقاء تحت لواء أي من العصابتين مهما كبر حجم الأفرع المحلية.
ماذا عن فنزويلا؟كتب مجموعة من الباحثين الفنزويليين كتابا حول مفارقة تزايد العنف بالتزامن مع تراجع درجات الفقر في البلاد بعنوان "مفارقة العنف في فنزويلا (The Paradox of Violence in Venezuela)"، رصدوا فيه الأنماط المتعددة للعنف المنتشر في البلاد وأسبابه ومسارات تعامل الحكومة معه.
وتُصنف فنزويلا وفق الكتاب ضمن "الدول العنيفة الناشئة"، مع معدل جرائم قتل وصل إلى أكثر من 50 ضحية لكل 100 ألف شخص من السكان في عام 2012، أغلبهم مرتبط بانتشار العصابات المذكورة.
لكن اللافت في الأمر هو أن عصابات فنزويلا في الغالب مجموعات غير منظمة ليس لديها جذور تاريخية أو خلفية سياسية متينة، ولا يشبهون في طريقة عملهم عصابات "الناتشيونس" في الإكوادور ولا "الكوماندوس" في البرازيل ولا "الماراس" في السلفادور.
إعلانوكان التعامل الحكومي مع عصابات فنزويلا في الواقع هو توسيع دائرة الوصم، فأصبح كل "شاب أسمر البشرة من سكان المناطق ذات الدخل المنخفض" مُشتبَها به في الانضمام إلى إحدى العصابات، وهو ما نتج عنه تزايد نسب العنف والسخط العام حتى بعد إقرار مشاريع القضاء على الفقر في عهد الرئيس هوغو تشافيز.
ويلفت أحد فصول الكتاب النظر إلى أثر السجون الفنزويلية في إنتاج العنف، وكيف تحولت إلى ما يشبه "المدارس" التي يتعلم فيها أفراد العصابات ما يجب أن يتقنوه، وناقش الفصل سجن "بيونيا" (اسم مستعار للسجن) بوصفه نموذجا للسجون التي أسهم نظامها في تطور أعمال العصابات في الداخل والخارج. ويوصف "بيونيا" بالسجن المفتوح الذي يمارس فيه السجناء نفوذهم عبر استخدام السلاح والتهديد به، ويقتصر وجود الشرطة فيه على محيط البوابات الخارجية وعندها، ولا يمكنهم الدخول إلى الباحة إلا بالتفاوض مع "الزعماء" المسجونين، وقد لا يتمكنون من ذلك بسبب تبادل إطلاق النار بين السجناء.
ويمكن فهم عصابة "تران دي أراغوا" بوصفها مثالا لتلك الظاهرة، حيث تأسست في أحد سجون مدينة أراغوا (وسط فنزويلا)، وأصبح السجن لاحقا "مقرها الرئيسي" و"مركز عملياتها".