كثيراً ما يمر بخيالى طيفٌ من الذكريات، فيحتل وجهها عقلى وتسيطر عليه قَسماته الحنون، فتجتاحنى مشاعر متباينة هى مزيج من الحنين والاشتياق لرؤيتها مجدداً، رغم يقينى أن ذلك محض أوهام وحينما لا أتمكن من ذلك تسيطر على غُصة مقبضة للقلب، فتتناوبنى صور أشبه بمشاهد «الفلاش باك» السينمائية من حياتى؛ طفولتى، صباى، أتصبر بها، فأتذكر من خلالها وجهها الغائب عنى منذ أن وافتها المنية؛ ذلك الوجه البشوش الذى دائماً ما يبعث فى قلبى الطمأنينة والحنان والأمان، أتذكر المزيد والمزيد من المواقف؛ فها هى فى أحدها تصيح بى عندما وجدتنى عائداً ذات مرة من إحدى مشاجرات المدرسة مع أحد زملائى وقد تمزقت ملابسى وهى تنهرنى: «لو ما خدتش حقك من اللى ضربك لا أنت ابنى ولا أعرفك»!! ثم لا تلبث أن تعانقنى وهى تبكى ولا تهدأ إلا بعد أن ترافقنى بعدها إلى المدرسة كى تطمئن علىّ، وهكذا كان دأبها فى أى مشكلة أتعرض لها فكانت بمثابة الملاذ والدرع الواقية التى أحتمى بها ولا أبالى شيئاً فى الحياة مهما تعاظم ما دامت بجانبى.
وها هو صوتها فى موقف آخر يتسلل إلى عقلى عندما كنت مريضاً وهى تضع يدها على وجههى وصوتها ينضح بالحنان قائلة لى «مالك شكلك تعبان يا حبيبى، أعملك حاجة سخنة، أو أقولك تعال معايا للدكتور أحسن»، وها أنا أتذكر رجائى لها فى مشهد آخر قبل كل امتحان «والنبى يا أمى ادعيلى علشان الامتحان يعدّى».
وتتعدد المشاهد والصور والذكريات فأرى نفسى وقد تزوجت وتأخذنى مشاغل الحياة فلا أراها ردحاً من الزمان، فأجد صوتها الحنون عبر التليفون دائم الاتصال بى للاطمئنان علىَّ قائلة: «عامل إيه يا حبيبى إنت كويس، ربنا يسلملك طريقك»، فتمنحنى طاقة قدر ما فى الكون تعيننى على إرهاق العمل ومسئولية الأسرة ناهيك عن حبها الجارف لأولادى والذين كانوا يهيمون عشقاً بها لفرط حنانها وحبها لهم.
فقدتها فأحسست بأن جداراً داخل قلبى قد تهاوى فأصبحت مزعزعاً لا أكاد أقوى على صلب عودى، شريداً دون نور هادٍ، فمجرد صوتها كان يقوينى ويشد من أزرى فأواجه ما يقابلنى من مشكلات الحياة التى لا تنتهى دون وجل، كانت السند والعضد، وبرحيلها أصبحت أشبه بالعارى فى ليالى الشتاء القارسة، مفتقداً حنانها الذى كان يبث فى جسدى الدفء والطمأنينة والأمان.
حقاً لا يعرف المرء قيمة الشىء إلا عندما يفقده، فأمك تظل بجوارك كالنهر الرقراق تنهل منه قدر كفايتك وتعطيك من حنانها ما تعطيك دون انتظار لأى مقابل سوى أن تراك فى أحسن حال، قد تقسو عليك أحياناً كى تقوِّم من سلوكك، فهى الوحيدة التى تحبك من شغاف قلبها حباً نقياً لا تشوبه شائبة، لذا فالجنة تحت أقدامهن والبر بالأم هو طريق رضا الله تعالى فهى أحق الناس بصحابتك وبرك وحنانك.
كم تعبتِ من أجلى يا أمى، كم حزنتِ من أجلى، كم خفتِ علىّ من أقل الأشياء، كم سعدت ودمعت عيناك عند نجاحى، كم أتشوق إليك كى أسمع صوتك الدافئ من جديد، كم أتمنى أن تعودى ولو «لحيظات» كى أتبادل معكى أطراف الحديث أحدثك وتحدثيننى، أمازحك فتغضبى قليلاً ثم لا تلبث أن تعاود وجهك تلك الابتسامة التى أعشقها فتملأ قلبى السعادة.
حقاً مَن لديه أم فقد حاز الدنيا بما فيها؛ فنظرتها كنز لا يفنى ولمستها لآلئ وحنانها فيض ومِنَّة من الخالق، رحمك الله يا أمى وأكرم مأواك، فأنتِ نبع الحنان الفياض الذى لا ينضب مهما مرت سنوات العمر.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: نبع الحنان
إقرأ أيضاً:
مدرسة أثينا.. عندما جمع رفائيل الفلاسفة في لوحة واحدة
في قاعة ضخمة داخل الفاتيكان، تقف واحدة من أعظم اللوحات الجدارية في تاريخ الفن الغربي: “مدرسة أثينا” للفنان الإيطالي رافائيل (رفائيلو سانزيو).
هذه اللوحة، التي رسمها بين عامي 1509 و1511، ليست مجرد عمل فني… بل مشهد فلسفي شامل، جمع فيه رفائيل رموز الفكر الإنساني من مختلف العصور في “ندوة خيالية” لا تحدث إلا على الجدران.
لوحة من العقل والفنتقع اللوحة في “غرفة التوقيعات” داخل الفاتيكان، حيث كانت تعقد الاجتماعات الرسمية للبابا.
اختار رفائيل أن يُجسّد روح العقل في هذه القاعة من خلال لوحة تمثل “المدرسة الفلسفية العظمى” في أثينا، حيث تقف العقول اللامعة من الفلسفة اليونانية في مشهد درامي مذهل.
في قلب اللوحة، يظهر اثنان من أعظم فلاسفة التاريخ: أفلاطون وأرسطو، يسيران جنبًا إلى جنب وسط القاعة، يتناقشان بحيوية، في رمز يجمع بين “المثالية” و”الواقعية”.
المعنى في التفاصيل• أفلاطون يشير إلى السماء، في إشارة إلى نظريته عن “عالم المُثل”.
• أرسطو يمد يده أفقيًا، في إشارة إلى تركيزه على “الواقع المادي والعقلاني”.
• على الجانبين، تنتشر شخصيات أخرى مثل:
• سقراط يناقش الشباب بحماس.
• ديوجين مستلقٍ وحده على الدرج، في تحدٍّ للترف والمنطق السائد.
• فيثاغورس يدوّن معادلاته الهندسية.
• أبيقور يضع إكليل أوراق الغار، في رمز للذة والمعرفة.
ورغم أن بعض الشخصيات يصعب تحديد هويتها بدقة، إلا أن المؤرخين يجمعون على أن اللوحة تجمع أكثر من 20 مفكرًا وفيلسوفًا وفنانًا، بما فيهم سلفرفيوس، زينون، وحتى رفائيل نفسه، الذي رسم وجهه بين الحضور في تواضع غريب على فنان عصره.
رمزية اللوحة“مدرسة أثينا” ليست مجرد لوحة جدارية ضخمة؛ بل بيان فلسفي مصور .
هي دعوة للحوار بين العقول، وتأكيد على أن الحقيقة لا تُولد إلا من النقاش والاختلاف. رسمها رفائيل في وقتٍ كانت فيه أوروبا تخرج من ظلام العصور الوسطى نحو نور العلم، كأنما يقول: “النهضة تبدأ من هنا… من العقل”.
الجمال المعمارياختار رفائيل خلفية معمارية كلاسيكية ذات قبب ضخمة وأعمدة متناسقة، استوحاها من أعمال المهندس العظيم برونليسكي.
المكان نفسه يبدو كهيكل مقدس للعقل، كأن رفائيل أراد أن يقدس الفلسفة كما تقدس الكنيسة الدين.