الطفل الجليدي ذو العيون الزرقاء.. مفاجأة جينية من العصر الحجري
تاريخ النشر: 28th, December 2024 GMT
كشفت دراسة حديثة أقدم عليها باحثون من جامعة سيينا الإيطالية، عن أقدم حالة معروفة لظهور إنسان بعينين زرقاوين، عُثر عليها لدى طفل وُلد قبل 17 ألف عام، وعاش حياة قصيرة في ظل ظروف قاسية.
وقد عُثر على رفات الطفل داخل كهف في منطقة مونوبولي جنوب غربي إيطاليا عام 1988، ووفقا للتحليل الجيني، فإن الطفل كان لديه عيون زرقاء وبشرة داكنة وشعر بني أسود مجعد.
وبحسب الدراسة، التي نشرت في دورية "نيتشر كوميونيكيشنز"، فقد عانى الطفل من تحديات صحية خطيرة مثل تضخم عضلة القلب، وهي حالة قلبية خلقية تؤدي غالبا إلى زيادة سمك عضلات القلب وقد تسبب الموت المفاجئ في سن مبكرة، وتشير التقديرات إلى أن عمر الطفل لحظة وفاته لا يتجاوز 18 شهرا.
ورغم هيكله الصغير البالغ طوله 82 سنتيمترا فقط، تمكن العلماء من استنتاج المزيد من التفاصيل التي تتعلق بحالته الصحية في أثناء وما قبل ولادته عن طريق فحص الأسنان والعظام، مشيرين إلى أن الطفل كان يعاني من الإجهاد الفسيولوجي، بالإضافة إلى أن والدته كانت تعاني كذلك من سوء التغذية أثناء الحمل، ليعكس بذلك الظروف الصعبة التي كانت تحيط بهما خلال حقبة العصر الجليدي الأخير.
لا تعد العيون الزرقاء صفة شائعة في البشر، ولم تظهر إلا حديثا قبل عدة آلاف من السنوات، ويعتقد العلماء أن الطفرة المسؤولة عن ظهور العيون الزرقاء تتعلق في المهق الجلدي الثاني، وهي حالة وراثية تتميز بانخفاض كبير أو غياب تام لإنتاج الميلانين في الجلد والشعر والعينين، وكانت هذه الصفة حاضرة في حمض الطفل النووي بشكل بارز.
إعلانوقبل هذا الاكتشاف، كان أقدم إنسان معروف بعيون زرقاء هو "رجل فيلابرونا"، الذي عاش قبل 14 ألف عام، وتشير التشابهات الجينية بين الطفل ورجل فيلابرونا إلى أن عشيرة الطفل قد يكونوا من أسلاف سلالة فيلابرونا.
ومن المثير للاهتمام أن تحليل الحمض النووي للطفل كشف أن والديه كانا على الأرجح أبناء عمومة من الدرجة الأولى، وهي ظاهرة نادرة خلال العصر الحجري القديم ولكنها موثقة بشكل أكثر شيوعا في العصر الحجري الحديث، وربما ساهمت هذه العلاقة العائلية الوثيقة في مشكلاته الصحية.
تطور العلاقة بين البشر والنظام الغذائيبالإضافة إلى ذلك، يبرز ضعف قدرة الطفل على هضم الحليب في مرحلة البلوغ العلاقة المتغيرة بين البشر ونظامهم الغذائي عبر العصور. فقد افتقر الطفل، شأنه شأن أبناء عصره، إلى الطفرات الجينية التي تسمح بتحمل اللاكتوز، وهي خاصية لم تظهر بشكل واسع بين البشر إلا في مراحل لاحقة.
أما بقايا الطفل، التي عُثر عليها من دون أي مقتنيات أو زخارف جنائزية، فتعكس نمط الحياة العملي والبسيط خلال العصر الحجري القديم. غير أن قصته، التي تمكنت العلوم الحديثة من فك خيوطها، تُعد شهادة على صمود البشر الأوائل وقدرتهم الفريدة على التكيف، فالطفرة الجينية المسؤولة عن لون عينيه الزرقاوين، والتي يشترك فيها اليوم ملايين البشر حول العالم، تُبرز الروابط الجينية العميقة التي تجمع البشر بأسلافهم القدامى.
وتُظهر هذه الاكتشافات نظرة فريدة إلى السمات الجسدية والجينية لشعوب ما قبل التاريخ، إلى جانب تسليط الضوء على التحديات الاجتماعية والبيئية التي واجهتها تلك المجتمعات. ورغم قصر حياته، يترك هذا الطفل من العصر الجليدي إرثا حافلا بقصص الكفاح، وسعي البشر المستمر للنجاة والبقاء على قيد الحياة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات العصر الحجری إلى أن
إقرأ أيضاً:
المُجدِّد.. علي عزت بيجوفيتش
فوزي عمار
علي عزت بيجوفيتش ليس مجرد سياسي قاد البوسنة نحو الاستقلال؛ بل هو فيلسوف ومفكر إسلامي حاول أن يجد جسرًا بين التراث الإسلامي والحداثة الغربية.
عُرف الراحل بكتاباته العميقة، مثل "الإسلام بين الشرق والغرب" و"البيان الإسلامي"، وهي مؤلفات تناقش إمكانية بناء حضارة إسلامية معاصرة دون انغلاق أو قطيعة مع العصر. زأحد أبرز أقواله المثيرة للجدل هو: "المسلمون لا يؤمنون بقداسة القرآن كمنهج بل بقداسته كشيء".
وُلد بيجوفيتش في البوسنة، وعايش تحولات القرن العشرين من الحرب العالمية الثانية إلى سقوط يوغوسلافيا. وسُجِن مرتين بسبب دفاعه عن الهوية الإسلامية في ظل النظام الشيوعي؛ مما عمَّق إيمانه بضرورة الجمع بين الفكر والممارسة. لم يكن بيجوفيتش مُفكرًا منعزلًا؛ بل رأى أن الفكر الإسلامي يجب أن يتحول إلى مشروع حضاري قادر على مواجهة تحديات العصر، وهو ما حاول تطبيقه كرئيس بعد الاستقلال.
المنهج القرآني في فكر بيجوفيتش: نحو حضارة إسلامية معاصرة
يرى بيجوفيتش أن القرآن يقدم مبادئ كلية (كالتوحيد، العدل، الشورى، المساواة) قابلة للتطبيق في كل زمان، لكن تطبيقها يحتاج إلى اجتهاد عقلي يتناسب مع ظروف العصر. وهنا يلتقي مع مفكرين إصلاحيين مثل محمد إقبال، والذين دعوا إلى إحياء "الحركة الاجتهادية" لتحويل النص إلى مشروع نهضوي.
وفي كتابه "الإسلام بين الشرق والغرب"، يُقارن بيجوفيتش بين الرؤية الإسلامية والرؤيتين المادية "الغربية" والروحية "المسيحية"، مؤكدًا أن الإسلام يجمع بين "الروح والمادة"، وبالتالي يجب أن يُنتج حضارةً متوازنة. لكن هذا لا يحدث لأن المسلمين توقفوا عن قراءة القرآن كـمنهج تفكير،
نقد بيجوفيتش الجمود الفكري بين التقديس والتجديد.
لم يكن انتقاد بيجوفيتش للمسلمين سلبيًا؛ بل كان دعوة للصحوة؛ إذ يرى أن الجمود في فهم القرآن أدى إلى تهميش دور الإسلام في تشكيل الحضارة الإنسانية، بينما التاريخ الإسلامي المبكر شهد ازدهارًا عندما تعامل المسلمون مع القرآن كمرشدٍ للعقل والعمل.
وفي "البيان الإسلامي"، يطرح بيجوفيتش رؤيةً لإقامة نظام سياسي إسلامي حديث، يقوم على مبادئ الشورى وحقوق الإنسان، مستلهمًا القرآن كمصدر للإلهام وليس كنصوص جامدة.
وهنا، يظهر الفرق بين التمسك بالشكل دون المضمون والتقديس الفعال (استخراج القيم وتطويرها).
كانت رؤية بيجوفيتش إلى الإسلام أنه رسالة إلى المستقبل؛ إذ إن علي عزت بيجوفيتش لم يكن مجرد فيلسوف؛ بل كان صاحب مشروع أراد إثبات أن الإسلام يمكن أن يكون أساسًا لدولة عادلة وحديثة. وقولته عن القرآن تُلخص أزمة العالم الإسلامي، وأهمها الانشغال بالمظهر على حساب الجوهر. ولا شك أن دعوته إلى تحويل القرآن من "شيء مُقدس" إلى "منهج مقدس" هي إعادة تعريف للتدين نفسه، ليس طقوسًا فحسب؛ بل فعلًا أخلاقيًا وحضاريًا.
وعندما حوصرت العاصمة سراييفو، كانت الحرب الخيار الأصعب لفلسفته، ولم يتحول بيجوفيتش إلى خطاب الكراهية؛ بل ظل يؤكد أن الحرب "ليست صراعًا بين الإسلام والمسيحية، بل بين الحضارة والهمجية".
هنا، تجلّت قدرته على تحويل المأساة إلى فرصةٍ لتعريف العالم بقضية الإسلام الوسطي، مستخدمًا المنصات الدولية لتوضيح أن المسلمين البوسنيين "يدافعون عن حق أوروبا في التنوع، لا عن تعصب ديني". لقد حوَّل المعاناة إلى رسالةٍ عالمية: الإسلام ليس عدوًا لأوروبا؛ بل جزءًا من نسيجها الإنساني.
اليوم، وفي ظل تحديات العولمة والهويات المتنازعة، تظل أفكار بيجوفيتش منارةً لكل من يبحث عن إسلام يجمع بين الأصالة والابتكار، بين الإيمان وإنجازات العصر.
رابط مختصر