تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تُعد الصالونات الأدبية نبضًا حيًا للثقافة المصرية، ومنصات تجمع فيها الفكر والإبداع على مر العصور. 

فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، شكّل صالون الأميرة نازلي انطلاقة مشهد ثقافي زاهر، حيث اجتمع رواد الفكر والسياسة أمثال سعد زغلول وقاسم أمين ومحمد عبده، ليؤسسوا لحركة ثقافية كانت ولا تزال منارة للإبداع والتنوير.

نازلي ومي.. الثنائي النسائي مفجر جماعات جيل الرواد

لكن الصالون الذي يعتبر باكورة الحراك الشعبي الثقافي هو صالون الثلاثاء الذي كانت تعقده مي زيادة في بيتها بوسط القاهرة مطلع القرن العشرين حيث وصفه طه حسين بالصالون الديمقراطي في مقارنة مع صالون الملكة نازلي الذي كان يعتبر صالون النخب الأرستقراطية.

وضم صالون زيادة كلا من طه حسين والعقاد والمازني وشوقي ورشيد رضا وأحمد لطفي السيد وتميز أيضا هذا الصالون بأنه كان يضم الكتاب والمثقفين من الجنسين وكان يضم أيضا كتابا من كل جنسيات الوطن العربي فصاحبته مي زيادة كانت لبنانية وتتقن ٣ لغات أخرى غير العربية.

ومن هذين الصالونين (نازلي وزيادة) تفجرت عددا من الجماعات الأدبية التي تشكل تاريخ الأدب العربي الحديث في مصر كجماعة الإحياء والبعث وأبولو وجماعة الديوان وغيرها.

صالون العقاد ومقالات طه حسين شاهدة على قوة الجماعات الأدبية

من صالون مي، استمد العقاد فكرة صالونه الشهير الذي يعقد صباح كل يوم جمعة وهو صالون العقاد بينما استلهم طه حسين فكرة مقالاته الشهيرة "حديث الأربعاء" من ثقافة الصالونات الثقافية سواء تلك التي تعرض لها في أوروبا أو في مصر.

وكتب أنيس منصور كتابا كاملا عن صالون العقاد، وتيم بفكرة الصالونات الأدبية إذ كان معدا لأولى البرامج التليفزيونية التي أخرجت على الشاشة فكرة الصالون الأدبي حيث قدم حلقة يعتبرها البعض أيقونة للمنتجات الإعلامية الثقافية وهي حلقة قدمتها الإعلامية ليلى رستم مع عميد الأدب العربي طه حسين ونخبة من الجيل الجديد من الأدباء وكان هؤلاء الضيوف الذين يمثلون الجيل الجديد من بينهم عبد الرحمن بدوي ويوسف السباعي وثروت أباظة وعبد الرحمن الشرقاوي ومحمود أمين العالم.

وتكمن أهمية هذه الحلقة في الرمزيات التي تحيل إليها فبدلا من الصالون الأرستقراطي التي مثلته الأميرة نازلي والصالون الديمقراطي الذي مثلته مي زيادة وكان عبارة عن جماعات من جيل واحد، رمزت هذه الحلقة إلى فكرة رعاية الأستاذ الكبير من الجيل القديم إلى الشباب من الجيل الجديد، تلك الحالة التي حافظ عليها نجيب محفوظ في جلساته بمقاهي وسط البلد ففكرة المقهى بالأساس ترمز إلى ذلك المكان الذي يمكن لأي شخص أن يدخله ويجلس به ويستمع لا يشترط السن أو الطبقة الاجتماعية، فليس غريبا إذن أن تجد شخصا من المعاصرين من الجيل الأحدث بكثير من جيل محفوظ لديه صورة مع محفوظ أو ذكريات مع جلسة معه في مقهى.

عصر الثمانينيات والتسعينيات

ازدهر هذا الشكل الجديد من صالونات أو جلسات رعاية الكبار للصغار أو الأجيال الأقدم للأجيال الأحدث على يد الأحزاب اليسارية في مصر وبالتحديد في الفترة من أواخر السبعينيات وحتى أواخر التسعينيات وقت قرار الرئيس السادات بإعادة النشاط للأحزاب السياسية في مصر.

عبد الفتاح الجمل.. الأب الروحي للكتاب الشباب

قبل الخوض في صالونات هذه الفترة ينبغي الإشارة إلى الصالون المؤسس والرائد الذي أسسه الكاتب والصحفي عبد الفتاح الجمل في جريدة المساء عام ١٩٦٢ وكان الجمل يرأس الملحق الثقافي بجريدة المساء التى أسسها وكان يرأس تحريرها خالد محيى الدين، وحول الجمل هذا الملحق ليكون منافسا لملحق جريدة الأهرام الثقافي الذي كان يرأسه لويس عوض ويضم كبار أدباء مصر أمثال محفوظ وإدريس والحكيم بينما كان الكتاب الشباب غير المعروفين هم عماد صالون الجمل ما جعل صالونه يأخذ طابعا شعبيا ويحدث ضجيجا شعبيا فقد خرج من هذا الصالون الكتابات الأولى لمحمد البساطي ويحيى الطاهر عبد الله ومحمد حافظ رجب وإبراهيم أصلان وغيرهم.

من الإسكندرية لأسوان.. محمد جبريل محطة مصر الأدبية

يقول الروائي المصري أشرف الصباغ لـ"البوابة"، إن الروائي محمد جبريل تسلم في منتصف الثمانينيات الراية من عبد الفتاح الجمل وغير سياسة ورشة المساء الأدبية لتشمل عددا ضخما من الكتاب الشباب من كل المحافظات وركز جبريل على المحافظات بالتحديد، وخرجت الورشة من مقر جريدة المساء إلى مقر نقابة الصحفيين الجديدة بالأزبكية حينذاك ثم انتقلت للمقر الحالي.

الزيتون.. ورشة الشعب

يضيف "الصباغ" أنه كان شاهدا في أواسط الثمانينيات على أنشطة ورشة الزيتون وهي إحدى الورش الأدبية التى ما زالت مستمرة فى مقر حزب التجمع بالزيتون، ويصفها الصباغ بالورشة الشعبية، إذ كانت تنفذ برامج مكثفة لمحو أمية فئات ضخمة من المجتمع، وكان من ينجح في تلك البرامج يسهل له الحصول على وظيفة في أي من مصانع الغزل والنسيج، موضحا أن الاحتكاك بالطبقات الشعبية مكن تلك الورشة من اكتشاف عدد ضخم من المبدعين، اختفت تلك الأنشطة حاليا رغم بقاء الورشة حتى الوقت الراهن تحت إدارة الكاتب والشاعر شعبان يوسف وما زالت تعقد أسبوعيًا الأمسيات الأدبية والثقافية للكتاب والمثقفين.

إبراهيم فتحي وعبدالمنعم تليمة راهبان في محراب الأدب

ويقول "الصباغ": في منتصف الثمانينيات بدأت أحضر ندوة من الندوات التي كان ينظمها الناقد إبراهيم فتحي في قهوة فينيكس بشارع عماد الدين كان يجلس بها في الصفوف الأولى كل من إبراهيم عبد المجيد وإبراهيم أصلان وكتاب من مجموعة إضاءة وكانت بالتزامن مع ندوة جبريل.

ويضيف أنه في منتصف التسعينيات حضر ندوات الدكتورعبد المنعم تليمة الذي كان يعقد صالونا كل أربعاء في منزله بحي الدقي وكان يحضره قامات كبيرة بالإضافة إلى الشباب.

ويقدم "الصباغ" ملحوظة حول سمات هذا الجيل من رعاة الكتاب الشباب، فيقول: "كان كل هؤلاء الناس يناقشون النصوص دون أن يشعروا الشباب بشيء من الأستاذية أو التعالي بل يناقشون النص بأسلوب يولد مزيدا من الرؤى ويحافظ على تدفق الإبداع وتطوره وكان لديهم هم عام بالكتابة فلا يوجد مصلحة فردية من أجل تنجيم الذات، ورغم أنهم كان لديهم شعارات كبرى لكنها كانت شعارات حقيقية تتماشى مع الواقع وطموحات الأجيال".

ويشير أيضا إلى أنه كان هناك ظاهرة في تلك الفترة لجماعات الشباب التي كانت ترفض الكبار ويتقابلون بمفردهم على المقاهي وفي بيوت بعضهم البعض من أجل تبادل الآراء حول نصوصهم، مضيفا أن هذه الظاهر تتجلى بقوة عند الأجيال الجديدة في الفضاء الإلكتروني في الوقت الراهن.

واعتادت مجلة “أدب ونقد” التي كان يرأس تحريرها الشاعر الراحل حلمي سالم في السنوات قبيل اندلاع ثورة يناير إعداد ملفات عن شباب الأقاليم المبدعين، وكانت المجلة تعقد ندوات أدبية في المحافظات يستمع فيها مدير تحريرها آنذاك الشاعر عيد عبد الحليم رئيس التحرير الحالى لأصوات الشباب ويختار منها مجموعة قصائد للنشر في المجلة.

سيد الوكيل ونادي أدب بهتيم

ينقل الكاتب والناقد وائل سعيد دفة الحديث ليتجه صوب شخصية أخرى أثرت كثيرا في جيل شباب الأدباء مطلع الألفية وهو الروائي والناقد سيد الوكيل، فيقول سعيد لـ «البوابة»: "تعرفت عليه من أحد الأصدقاء قال إذا أردت ان تجد من يقيم قصصك عليك بالذهاب إلى نادي أدب بهتيم وبالفعل ذهبت هناك ووجدت الوكيل كان يستمع إلى النص باهتمام شديد وكأنه نصه ويغوص في تحليله كأنه يشاركك وأنت تكتب، وتعرفت في جلسته على كل من أدباء جيلي أمثال محمد عبد النبي وياسر شعبان وجرجس سعد ولطفي السيد منصور وسيد عبد الخالق الذي ترجم حينها حصار لشبونة لسراماجو" ويتابع: "ساعدنا الوكيل في نشر أعمالنا الأولى فهو من عرفنا على سلاسل النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة كان أيضا يقف جوارنا في أدق أزماتنا مع الكتابة والإبداع وكنا نشعر أن اكتشاف المواهب ودعم الشباب هي أساس إبداعه والهدف الذي يعيش من أجله" مؤكدا أن دور الوكيل في دعم الشباب يمتد ليشمل كل جيل الشباب في كافة محافظات مصر فيزياراته وتواصله مع كل المحافظات لا ينقطع وجلساته مع شباب الكتاب خارج المؤسسات في المقاهي أيضا تمتد ولا تنقطع".

من جانبه يشير الروائي الطبيب إبراهيم بجلاتي إلى أهمية هذا الموضوع رغم أنه لم يجد خلال مسيرته من يحتضنه موضحا أنه أجاب عن ذلك بالتفصيل في كتابه سيندروم الذي كان يدور عن فترة الجامعة وكيف أنهم ككتاب بدأوا من الصفر في فترته في الجامعة بسبب هجرة المزيد من المثقفين والكتاب في التسعينيات إلى أوروبا والخليج.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الصالونات الثقافية الذی کان من الجیل طه حسین فی مصر

إقرأ أيضاً:

معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان.. ومن الذي يوسوس لنا ؟

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما معنى تصفيد الشياطين في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»، وكيف نفسر حصول المعاصي من بعض الناس في شهر رمضان مع كون الشياطين مُصفَّدة؟".

لترد دار الإفتاء المصرية، موضحة: أن معنى عبارة "تصفيد الشياطين" الواردة في الحديث الشريف المسؤول عنه قد تفاوت العلماء في تفسيره على مداركَ متعددةٍ، وإن كانت في جملتها متكاملة متعاضدة، فقد يُرَاد به أنَّ الشياطين مغلولون ومقيدون حقيقةً في هذا الشهر، وقد يكون المراد أنهم ممنوعون من إيذاء المؤمنين وإغوائهم والتزيين لهم، ويحتمل أن المراد أن الله تعالى يحفظ فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، أو يقصد به نوعٌ مخصوصٌ من الشياطين، وهم: مُسْتَرِقُو السَّمْع منهم، أو مَنْ صُفِّدوا هم غالب الشياطين والمَرَدةُ منهم، وأما غيرهم فغير مُصَفَّد.

وأما حصول المعاصي من بعض الناس في شهر رمضان مع كون الشياطين مُصَفَّدة: فإما أن يكون تصفيدُهم إنما هو في حقِّ الصائم المراعي لشروط الصوم وما ينبغي أن يتحلَّى به من آدابه، أو أنَّ سبب اقتراف الذنوب آتٍ من النفس وخَطراتها.

تفضيل شهر رمضان على غيره من الشهور

مما امتاز به شهر رمضان المعظم عن غيره من الشهور الأخرى ما أكدته السُّنَّة النبوية المطهرة من أنه إذا دخل هذا الشهر المُعظم صُفِّدَتِ الشياطين، وقد تواردت نصوص السُّنَّة المشرفة على ذلك، وأهمها:

ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه مسلم.

وما ثبت أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه الشيخان، واللفظ للبخاري.

وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» رواه الترمذي، وابن ماجه في "السنن"، والحاكم في "المستدرك".

معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان

لفظ «صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» الوارد في كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إما أن يكون معناه التصفيد حقيقة، فتكون الشياطين في هذا الشهر مغلولةً مُصَفَّدَةً ممنوعة من التصرف وبعض الأفعال التي لا تُطِيقُهَا إلا مع الانطلاق، والأغلال تكون بالحديد، وإن الشياطين مع ذلك ليست ممتنعةً مِن التصرف جملة؛ لأن الْمُصَفَّدَ المغلول اليد إلى العنق يتصرف بالكلام والرأي وغيرهما، كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (1/ 144، ط. دار المعرفة)، والإمام الباجي في "المنتقى" (2/ 75، ط. مطبعة السعادة).

وإما أن يكون تصفيد الشياطين معناه: أنه مِن شدةِ بركات هذا الشهر فكأنها كالْـمُصفَّدة، وإما أن يكون المراد: أنهم ممنوعون من إيذاء المؤمنين وإغوائهم وتزيين الشهوات لهم في هذا الشهر.

قال القاضي عياض في "شرح صحيح مسلم" (4/ 5-6، ط. دار الوفاء): [«وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»: قيل: يحتمل الحقيقة... وكذلك تصفيد الشياطين ليمتنعوا من أذى المؤمنين وإغوائهم فيه، وقيل: يحتمل المجاز لكثرة الثواب والعفو، والاستعارة لذلك بفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، وقد جاء في الحديث الآخر: «وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» وبأن الشياطين كالمصفدة لما لم يتم إغواؤهم بعصمة الله عباده فيه... ويكون معنى "تصفيد الشياطين" هنا خصوصًا عن أشياء دون أشياء، ولبعض دون بعضٍ، أو على الغالب، وجاء في حديث آخر: «صُفِّدَتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ»... ومعنى "صُفِّدَتْ": أي: غُلِّلَتْ، والصَّفَد، بفتح الفاء، الغُلُّ، وقد روى في الحديث الآخر: "سُلسِلت"] اهـ.

وقال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 153، ط. أوقاف المغرب): [وأما قوله: «وَصُفِّدَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» أو «سُلْسِلَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» فمعناه عندي -والله أعلم-: أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، فلا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليه منهم في سائر السَّنَة] اهـ.

ومن المعاني المحتملَة في "تصفيد الشياطين": أن يكون المراد نوعًا من الشياطين، وهم: مُسْتَرِقُو السمع منهم، والذين يقع تسلسلهم في ليالي رمضان دون أيامه؛ لأن القرآن كان ينزل فيها، وهم قد مُنِعُوا في زمن نزول القرآن مَن استراق السمع، فزيدوا في التصفيد والتسلسل مبالغة في الحفظ. يُنظر: "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (4/ 114).

ويحتمل أيضًا أن يكون المراد: أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام والطاعات ومما فيه قَمْعٌ للشهوات، فكأنَّ الله تعالى يَعْصم في هذ الشهر المُعَظَّم المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي.

قال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (1/ 340، ط. المكتبة التجارية): [لفظ رواية مسلم: "صُفِّدت" (الشياطين)، شُدَّت بالأغلال؛ لئلا يوسوسوا للصائم، وآية ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن الذنوب فيه وإنابتهم إليه تعالى] اهـ.

وقال العلامة الطيبي في "شرح الطيبي على مشكاة المصابيح" (5/ 1576، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [والتصفيد في شهر رمضان مبالغة للحفظ، ويحتمل أن يكون المراد به أَيَّامَهُ وبعده، والمعنى: أن الشياطين لا يخلصون فيه من إفساد الناس ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغال أكثر المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات، والله أعلم] اهـ.

تفسير وقوع المعاصي في رمضان مع كون الشياطين مصفدة


أما وقوع المعاصي والذنوب مِن بعض الناس في شهر رمضان مع أن الشياطين مُصَفَّدة، فهذا له تأويلات: فإما أن تصفيدهم إنما هو في حقِّ مَن صام محافظًا على شروط الصوم وما ينبغي أن يتحلَّى به الصائم من آداب، وإما أن هناك أسبابًا أخرى لاقتراف الذنوب والمعاصي، كالنفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين الإنسية، وإما أن يكون المراد بمن صُفِّدوا هم غالب الشياطين والمردة منهم، وأما غيرهم فقد لا يُصَفَّد، ويكون المعنى المراد حينئذٍ هو: تقليل الشرور، وذلك موجود في رمضان؛ فإن وقوع الشرور والفواحش فيه قليلٌ بالنسبة إلى غيره من الشهور الأخرى.

قال الإمام أبو العباس القرطبي في "المفهم" (3/ 136، ط. دار ابن كثير): [فإن قيل: فنرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرًا؛ فلو كانت الشياطين مُصَفَّدة لما وقع شرٌ؟ فالجواب من أوجه:

أحدها: إنما تُغَلُّ عن الصائمين الصوم الذي حُوفظ على شروطه، ورُوعيت آدابه، أما ما لم يحافظ عليه فلا يُغَل عن فاعله الشيطان.

والثاني: أنا لو سلمنا أنها صُفِّدت عن كل صائم، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين، ألا يقع شرٌ؛ لأن لوقوع الشر أسبابًا أُخَر غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الرَّكيكة، والشياطين الإنسية.

والثالث: أن يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين، والمردة منهم، وأما من ليس من المردة فقد لا يُصَفَّد. والمقصود: تقليل الشرور. وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور] اهـ.

وقال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (1/ 340): [وأما ما يوجد فيه من خلاف ذلك في بعض الأفراد فتأثيرات من تسويلات المردة أغرقت في عُمْق تلك النفوس الشريرة وباضت في رؤوسها، وقيل: خُصَّ من عُمومٍ.. تنبيه: عُلم مما تقرر أن تصفيد الشياطين مجازٌ عن امتناع التسويل عليهم واستعصاء النفوس عن قبول وساوسهم وحسم أطماعهم عن الإغواء؛ وذلك لأنه إذا دخل رمضان واشتغل الناس بالصوم وانكسرت فيهم القوة الحيوانية التي هي مبدأ الشهوة والغضب الداعيَيْن إلى أنواع الفسوق وفنون المعاصي وصَفَتْ أذهانهم واشتغلت قرائحهم وصارت نفوسهم كالمرائي المتقابلة المتحاكية وتنبعث من قُواهم العقلية داعية إلى الطاعات ناهية عن المعاصي فتجعلهم مُجمِعين على وظائف العبادات عاكفين عليها مُعرِضين عن صنوف المعاصي عائقين عنها، فتفتح لهم أبواب الجنان وتغلق دونهم أبواب النيران ولا يبقى للشيطان عليهم سلطان فإذا دنوا منهم للوسوسة يكاد يحرقهم نور الطاعة والإيمان] اهـ.

مقالات مشابهة

  • محمد الأشمر.. من هو الثائر السوري الذي تحدى الفرنسيين؟
  • الدور المصري الذي لا غنى عنه
  • ماجد المصري: اتمرنت في النادي الأهلي.. وكان لدي رغبة أن أكون واحدا من أبطال الرياضة المصرية
  • الطبق الذي كان يفضله الرسول عليه الصلاة والسلام
  • عبد الله: ودعنا اليوم رفيقنا علي عويدات الذي تشهد له الساحات والمواقف
  • إياد نصار لـ «حبر سري»: فيلم «موسى» قوي جدا وكان ينقصه شئ للنجاح
  • التقاطع المزراحي الفلسطيني الذي لا يتحدث عنه أحد
  • أحمد موسى: ترامب زق زيلينسكي إمبارح 3 مرات وكان ناقص يوقعه من على الكرسي
  • معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان.. ومن الذي يوسوس لنا ؟
  • “مكتبات الشارقة” تنظم ندوة “الجذور الأدبية” أولى فعاليات مئويتها