حريق يلتهم الأمل الأخير للمحاصرين و جغرافيا جديدة لشمال قطاع غزة
تاريخ النشر: 27th, December 2024 GMT
غزة- في جريمة منظمة، تتخلص إسرائيل من حبل النجاة الأخير لنحو 20 ألف فلسطيني محاصر في المحافظة الشمالية لقطاع غزة ، باقتحامها مستشفى كمال عدوان وإضرام النيران فيه، حيث التهمت أقسامه الحيوية من العمليات والجراحة إلى الصيانة والمختبرات، وبقيت مشتعلة وسط غياب تام لكل وسائل إخماد الحريق لإنقاذ المباني المتبقية.
ومع أن هذا الاقتحام الثالث للمستشفى خلال العدوان على غزة، فإن هذا الإحراق يعد الأول له، في مشهد يعيد لذاكرة الغزيين الصورة السوداء لمجمع الشفاء الطبي، الذي أحرقه جيش الاحتلال قبل 9 شهور في 18 مارس/آذار 2024.
تفاصيل الجريمةقال مصدر خاص للجزيرة نت إن أحزمة نارية وقصفا مدفعيا وجويا بدأ في حدود الساعة الثانية فجرا على محيط المستشفى، قبل أن تتقدم الآليات الإسرائيلية وتحاصره بشكل كامل، ووضّح قائلا "حين وصلت الآليات قام الضابط بالنداء على مدير المستشفى الدكتور حسام أبو صفية، وطالبوه بإخلاء المستشفى إلا من الجرحى الذين لا يستطيعون السير"، وتبع هذه الأوامر تهديد مباشر لأبو صفية بالاعتقال "لتحريضه على إسرائيل" حسب وصفهم.
وكان المستشفى يحتضن أكثر من 80 مريضًا و350 من الكوادر الطبية والمرافقين، وأكدت مصادر خاصة للجزيرة نت أن جنود الاحتلال أخلوا عددا من الجرحى إلى المستشفى الإندونيسي، الذي هو خارج الخدمة بالأساس، كما قاموا بقطع الأكسجين عن عدد كبير منهم، مما عرّض حياتهم لخطر شديد.
إعلانتقول أمل للجزيرة نت، وهي إحدى شهود العيان الذين وصلوا إلى المستشفى المعمداني بغزة، "أمرنا جنود الاحتلال بالتوجه إلى منطقة مقابلة لمدرسة الفاخورة، ثم فصلوا الرجال بعد تعريتهم من ملابسهم، وأجبروهم على الجلوس في حفرتين كبيرتين استعدادا للتحقيق معهم".
وأضافت "أما نحن فأمرونا بخلع الحجاب فرفضنا، ثم أمرونا برفع ملابسنا، وانهالوا علينا بالشتائم والضرب قبل إجبارنا على النزوح إلى غرب مدينة غزة"، تركت أمل كل حقائبها بعد سيرها مسافة طويلة في الطرق الوعرة المدمرة من بين الدبابات، وتقول "لا يمكن أن أتخطى مشاهد بكاء الأطفال والمرضى وتوسلهم للجنود بطلب الماء دون جدوى".
وحتى لحظة إعداد التقرير، لم يتجاوز عدد الواصلين من "كمال عدوان" ومحيطه أصابع اليدين، في جريمة ترتكب في الخفاء، بعيدا عن أعين العالم، وفي ظل شح المعلومات وانقطاع الاتصال مع الذين كانوا في المستشفى والمناطق المحيطة به، واقتياد الكثيرين منهم لمصير مجهول، وهو ما يمثل حربا على آخر مرافق الحياة في شمال القطاع، لإجبار من فيه على النزوح وجعله منطقة لا تصلح للعيش الآدمي، وقتل كل ما يعين الصامدين هناك على البقاء.
جغرافيا جديدةومنذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، شرعت القوات الإسرائيلية بعملية برية واسعة النطاق للمرة الثالثة في جباليا، ثم امتدت تدريجيًا لتشمل مدينتي بيت لاهيا وبيت حانون، وأطبقت حصارًا كاملا على كل محافظة شمال قطاع غزة.
و رصدت الجزيرة نت شهادات من ناجين نزحوا مؤخرا إلى مدينة غزة وهم يصفون أحوال الشمال المحاصر وأهوال ما عاشوه.
يحاول الصحفي معاذ الكحلوت استيعاب تفاصيل الجغرافيا الجديدة خلال رحلة نزوحه من شمال القطاع، بعد صمود دام 80 يوما في وجه الموت والدمار، فالتبست على ابن المخيم معالم الطريق، يشيح ببصره يمنة ويسرة، عبثا يحاول استرجاع ملامح الأحياء والشوارع التي عاش فيها سنين طويلة.
إعلانيقول معاذ بحسرة "وقفت على مدخل الحي الذي احتضنني لعقود، لكنني لم أتعرف على أي شيء من آثار 400 منزل، ولم أميز حجرا واحدا منها"، ويضيف "كان كل شيء مغطى بالرماد، لا ألوان، لا حياة، وتختلط رائحة البارود مع عبق الموت الذي يشيع في الأجواء، بينما تملأ الأرض جثث متناثرة في مشهد يعجز عنه الوصف".
وبينما ينكّس معاذ رأسه لحفظ ما تبقى من ذاكرته التي شوهها الاحتلال، باغته علم إسرائيل مرفرفا على سارية عند مدخل الحاجز، يصف تلك اللحظة قائلا "اجتاحتني مشاعر الانكسار والقهر والغضب حتى وصلت إلى نخاع روحي".
كان دافع معاذ للبقاء في جباليا هو "نقل الحقيقة إلى العالم" كما يقول، حيث تحدى الخوف والتهديدات، لكنه اضطر في النهاية إلى المغادرة، ويقول "ثمن بقائي كان أعصابي وصحتي، وكان سيكلفني حياتي وحياة عائلتي إن بقيت قليلا".
كانت الأيام الأصعب في حياته هي تلك التي قضاها محاولاً تأمين الماء والطعام لعائلته، وسط خوف لا ينتهي، ودمار لم يبتلع البيوت فقط، بل طال الشوارع والبنى التحتية وأنابيب الصرف الصحي وأعمدة الكهرباء، وغير ملامح المحال التجارية، والمرافق، والمستشفيات، وحتى المدارس، "لم يعد هناك مكان يمكن للإنسان أن يستظل به" حسب وصفه.
من خيمتها الصغيرة في حي التفاح، حيث نزحت من بيت لاهيا شمالي القطاع، تتحدث منار الكيلاني للجزيرة نت وهي تستحضر ذكرياتها عن منزلها الذي تركته، وتقول "لا أستطيع أن أصدق أنني لن أجلس مجددًا في حديقة بيتي، التي كنت أراها جنة أستريح بها بعد يوم طويل من العمل في غزة، الآن أصبح كل شيء ذكرى"، وعند سؤالها عن سبب رفضها للنزوح، تكون إجابة منار الدائمة "هل يطيق أحدكم الخروج من الجنة؟".
لكن منار تصف تجربة قاسية عاشتها لمدة 66 يومًا في بيت لاهيا، وتستذكر صباح النزوح بتفاصيله المؤلمة، تقول "كنا نريد الموت في بيوتنا، لكن طائرات كوادكابتر باغتتنا بنداء عاجل عبر مكبرات الصوت. طلبوا منا إخلاء مدارس بيت لاهيا خلال خمس دقائق فقط".
إعلانتصف تلك اللحظات العصيبة قائلة "تسمّرنا في أماكننا، ينظر بعضنا إلى بعض في صمت رهيب، كنت ألتفت إلى إخوتي وأتساءل: هل نتركهم هنا وحدهم أم نخاطر بالمرور عبر الحاجز الإسرائيلي؟ لكن الحيرة لم تدم طويلًا؛ فالقذائف بدأت تتساقط حولنا، لتدفعنا للفرار في مشهد لا يمكن نسيانه".
"وعند الحاجز الإسرائيلي، كان الألم أكبر من الوصف"، تقول منار "أقسى ما رأيته كان، نظرات الأمهات لأولادهن الشباب وهم يجردونهم من ملابسهم عند التفتيش، ونظرات الشباب لأطفالهم وهم يحاولون طمأنتهم رغم الخوف"، وتضيف أن أحد الجنود كان يصرخ بجنون: "أنا مجنون!"، ويطلق النار عشوائيًا، "بينما كنا نحاول حماية رؤوس أطفالنا وأجسادنا المرتجفة".
لم تكن تلك المحنة آخر ما واجهته منار، فبعد أيام قليلة من النزوح، وصلها خبر استشهاد خطيبها، وتقول بصوت يفيض بالحزن "كان يحاول إنقاذ العالقين تحت الأنقاض في عزبة بيت حانون عندما استشهد، لم أستطع تصديق أنني فقدته، لكنه رحل وهو يحاول إنقاذ الآخرين".
ليست عملية بريةوكانت قوات الجيش الإسرائيلي حيدت عمل الدفاع المدني وخدمة الإسعاف والطوارئ بصورة كاملة عن العمل، حين استهدفت نقطة عملهم الوحيدة في منطقة الفاخورة، واعتقلت 5 من العاملين فيه، وأجبرت البقية على النزوح.
وفي مقابلة مع الناطق باسم الدفاع المدني محمود بصل، وصف ما يجري في شمال المنطقة بأنه "تطهير عرقي وتجفيف للوجود الفلسطيني"، رافضًا تسميته بـ"عملية برية"، وأشار بصل إلى الوضع المأساوي الذي يعاني منه السكان، موضحًا أن التعامل مع جثامين الشهداء بات شبه مستحيل في ظل الظروف الراهنة.
وقال "لا أحد يستطيع دفن الشهداء، فتظل جثامينهم ملقاة في الشوارع، عرضة لنهش الكلاب الضالة"، مضيفًا بمرارة "حتى الكلاب أصيبت بالتخمة من كثرة الجثامين التي تغذت عليها".
وأضاف بصل أن من تبقى من السكان يُواجه خطرًا مميتًا، مؤكدًا "كل من يتحرك يُقتل ويتم استئصاله"، ولفت إلى أن هناك نحو 20 ألف مواطن فقط ما يزالون في شمال المنطقة، محذرًا من أنه "إذا لم يتحرك العالم لإنقاذهم، فستزهق أرواحهم وسيواجهون المصير ذاته".
إعلانأما المكتب الإعلامي الحكومي، فكشف في تصريح خاص للجزيرة نت عن حصيلة 80 يومًا من العدوان الممنهج على محافظة شمال قطاع غزة، مشيرًا إلى أن عدد الضحايا تجاوز 4800 شهيد ومفقود، إضافة إلى أكثر من 12 ألفا و500 مصاب، وما يزيد على 1900 معتقل.
وفي هذا السياق، صرّح إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي، بأن الاحتلال الإسرائيلي يواصل ارتكاب "أبشع جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي" بحق المدنيين العزّل، مُستهدفًا كل مقومات الحياة، وأوضح أن الهجمات طالت البشر والحجر على حد سواء، مع تدمير شامل للبنية التحتية، بما في ذلك المستشفيات والمدارس والمنازل والمرافق الحيوية.
وأضاف الثوابتة "ما يحدث هو وصمة عار على جبين المجتمع الدولي، الذي يقف عاجزًا عن اتخاذ خطوات حقيقية وملموسة لوقف هذه المجازر المستمرة" مؤكدا أن الاحتلال لن ينجح في تحقيق أهدافه من هذه الحرب، وعلى رأسها مخطط التهجير القسري ضد الشعب الفلسطيني، وأن "الاحتلال لن يفلت من العقاب على جرائمه المستمرة ضد الإنسانية".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات شمال قطاع غزة للجزیرة نت بیت لاهیا فی شمال
إقرأ أيضاً:
لوموند: كيف أثر السيسي على الدور الذي كانت تلعبه مصر في القضية الفلسطينية؟
نشرت صحيفة "لوموند" الفرنسية تقريرًا سلطت خلاله الضوء عن مدى استفادة النظام المصري من إطالة أمد الصراع في غزة، العامل الذي يجعله يتراخى في البحث عن سبل حله.
وقالت الصحيفة، في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إن الطبيعة العسكرية العميقة للنظام المصري ظلت قائمة منذ سنة 1952، عند إطاحة جمال عبد الناصر والضباط الأحرار بالملكية البرلمانية.
وأضافت الصحيفة أن هذه الهيمنة العسكرية استمرت في عهد خلفاء ناصر، أنور السادات ثم حسني مبارك، قبل أن تهتز خلال الاضطرابات الثورية بين سنتي 2011 و2013.
وأنهى الانقلاب العسكري الذي نفذه عبد الفتاح السيسي الفترة الانتقالية وأعاد ترسيخ أسس النظام العسكري الذي تقوم خلاله الدائرة الرئاسية بتوزيع الامتيازات بين الجنرالات، سواء كانوا في الخدمة الفعلية أو "متقاعدين" يشغلون مناصب في القطاع الخاص. في المقابل، تتولى أجهزة المخابرات فرض رقابة شديدة على البلاد والشعب، مع هيمنة جهاز المخابرات العامة، الكيان العسكري المكلف بتنفيذ عمليات داخل مصر وخارجها.
"إيجار" غزة
وأوضحت الصحيفة أنه بمجرد عودته إلى البيت الأبيض؛ قرر دونالد ترامب تعليق جميع أشكال المساعدات الخارجية، باستثناء الدعم المقدم لإسرائيل وكذلك لمصر. ويعود الفضل في استثناء نظام السيسي من القرار إلى بند في معاهدة السلام الموقعة سنة 1979 بين إسرائيل ومصر تحت إشراف الولايات المتحدة يقضي بمنح دعم عسكري سنوي لإسرائيل يناهز حجمه ملياري دولار وثلثي هذا المبلغ لمصر.
وطيلة أكثر من أربعة عقود من الزمن، ظل الجنرالات المصريون يعتبرون أن هذا المبلغ حق مكتسب لهم رافضين تخصيص حتى جزء منه إلى تنمية البلاد. وغالبًا ما يُعاد استثمار هذا المبلغ في شراء المعدات الأمريكية، مما يتيح للقاهرة الحصول على دعم الصناعيين المعنيين في واشنطن الذي يشكلون "مجموعة ضغط".
وتشيد مجموعة الضغط هذه بمساهمة نظام السيسي في الحصار الذي فرضته إسرائيل على قطاع غزة منذ سيطرة حماس عليه في حزيران/ يونيو بعد فوزها في الانتخابات2007. مع استمرار تراجع نفوذ بلاده في الأزمات الإقليمية، من ليبيا والسودان إلى اليمن تزداد العائدات التي يجنيها السيسي من استمرار الحرب في غزة.
ولهذا السبب يبالغ نظام السيسي بشأن أهمية المفاوضات المفترض تنظيمها في القاهرة، سواء بين إسرائيل وحماس أو بين الفصائل الفلسطينية. إن الحوار الفلسطيني الداخلي بشأن تسليم السلطة التي تتقلدها حماس إلى غزة متوقف منذ ستة عشر شهراً، دون الوصول إلى أي صيغة قابلة للتطبيق. في المقابل، المحادثات الجادة الوحيدة بشأن الهدنة في غزة، والتي ترتب عنها إعلان الهدنة الحالية، كانت تحت إشراف قطر.
أرباح كبيرة
وذكرت الصحيفة أن عدم فاعلية أجهزة الدولة المصرية على الرغم من الكفاءات والخبرات التي تمتلكها هو نتيجة تطبيق قرارات سياسية على أعلى مستوى. في الواقع، تسمح الأزمة الفلسطينية بإحياء المشهد الدبلوماسي والإعلامي في القاهرة، التي تراجع دورها بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
بالإضافة إلى ذلك، يوفر الحصار المفروض على غزة فرصًا متعددة للمخابرات العسكرية وعميلها إبراهيم العرجاني، الزعيم البدوي الذي لم يكتفِ فقط بتجنيد ميليشيا كبيرة لدعم الجيش المصري في سيناء، بل يسيطر فعليًا على عمليات الدخول والخروج من قطاع غزة عبر معبر رفح.
وبينت الصحيفة أنه حتى حدوث الهجوم الإسرائيلي على رفح في آيار/مايو 2024، والذي نتج عنه غلق المعبر المصري؛ تمت مطالبة كل فلسطيني يرغب في الفرار من الحرب بدفع مبالغ تصل إلى آلاف الدولارات. بالإضافة إلى ذلك، فرض العرجاني ومجموعته على الشاحنات المتجهة نحو غزة، دفع ضرائب تناهز عشرات الملايين من الدولارات شهريًا. إلى جانب ذلك، تم إنشاء شركة أمنية باسم "الأقصى"، مكلفة بحماية الشاحنات داخل قطاع غزة، بتكلفة باهظة.
وأوردت الصحيفة أن الهدنة السارية في غزة منذ 19 كانون الثاني/ يناير أدت إلى إعادة الفتح الجزئي لمعبر رفح، مما أعاد تنشيط شبكات التهريب التابعة لإبراهيم العرجاني، حيث تم فرض رسوم تصل إلى عشرين ألف دولار على كل شاحنة تجارية.
وبفضل العلاقة التي تجمعه مع محمود السيسي، نجل الرئيس ونائب رئيس جهاز المخابرات العسكرية أصبح العرجاني شخصية فوق القانون. بالإضافة إلى ذلك، تتكفل شركته "الأقصى" بتوفير المرتزقة المكلّفين بمراقبة عمليات العبور بين شمال وجنوب قطاع غزة.
وتحرص المخابرات المصرية على عدم التواجد فعليًا داخل قطاع غزة خدمة لمصالحها، بحيث يستفيد نظام السيسي من استمرار تدهور الوضع في غزة، عن طريق مواصلة ابتزاز المدنيين الذين يحاولون المغادرة وفرض الرسوم على الشاحنات التي تدخل القطاع.
وفي ختام التقرير نوهت الصحيفة بأن فهم الدوافع العميقة لسياسة النظام المصري في غزة أمر ضروري لتقييم مدى قدرته على التصدي لـ"رؤية" دونالد ترامب، التي تقوم على تهجير سكان قطاع غزة وتحويله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط".