علماء يثبتون وجود زمن بالسالب في تجربة واعدة
تاريخ النشر: 27th, December 2024 GMT
لقد عرف العلماء منذ مدة طويلة أن الضوء قد يبدو أحيانًا كأنه يخرج من مادة قبل دخولها، وهو التأثير الذي قوبل بالرفض باعتباره وهمًا بصريا ناتجًا عن تشويه موجات الضوء بواسطة المادة.
حينما يدخل الضوء إلى بلورة أو سحابة من مادة ما فإنه يعبر خلالها متفاعلا معها، ومن ثم يخرج منها، ولكن ماذا لو شاهدت الضوء يخرج من هذه البلورة أو تلك السحابة قبل أن يدخلها أصلا؟!
الآن، يقول الباحثون في جامعة تورنتو بكندا إنهم من خلال تجارب كمية مبتكرة معتمدة على تداخلات الليزر أثبتوا وجود "الزمن السالب"، وإنه ليس مجرد فكرة نظرية، بل هو موجود بمعنى ملموس ومادي ويستحق التدقيق من كثب.
عندما تمر فوتونات الضوء عبر الذرات، تمتص بعضها تلك الذرات ثم يعاد إطلاقها لاحقًا، ويغير هذا التفاعل الذرات ويضعها مؤقتًا في حالة طاقة أعلى أو ما يسمى "حالة إثارة" قبل أن تعود إلى حالتها الطبيعية. ولغرض التقريب، يشبه ذلك أن تشعر بقدر من الطاقة بعد شرب فنجان قهوة، ثم تعود للخمول.
في الدراسة الجديدة التي تنتظر النشر في دورية محكّمة في وقت قريب، شرع الفريق في قياس المدة التي بقيت فيها هذه الذرات في حالتها المثارة، وتبين أنها أقل من الصفر، أي "زمن بالسالب".
إعلانولكي نتصور هذا المفهوم، فلنتخيل سيارات تدخل نفقا؛ فقبل التجربة أدرك الفيزيائيون أنه في حين قد يكون متوسط وقت دخول ألف سيارة -على سبيل المثال- 12:00 ظهرا، فإن السيارات الأولى قد تخرج قبل ذلك بقليل، لنقل الساعة 11:59 صباحا.
ويكمن تفسير هذه الظاهرة في أن الجسيمات مثل الفوتونات تتصرف في عالم الكوانتم بطرق غامضة واحتمالية بلا وجود قواعد ثابتة، فبدلا من الالتزام بخط زمني ثابت للامتصاص وإعادة الانبعاث، تحدث هذه التفاعلات عبر طيف من الفترات الزمنية المحتملة، بعضها عادي يتمثل في مرور ثانية مثلا أو اثنتين، وبعضها الآخر يتحدى الحدس اليومي المعتاد.
ويقول الباحثون في دراستهم إن هذا لا يعدّ سفرا في الزمن بالمعنى المفهوم أبدا ولكنه يعكس الطبيعة الغريبة وغير البديهية لميكانيكا الكم، كما أنه ينتهك نظرية أينشتاين للنسبية الخاصة التي تنص على أنه لا يمكن لأي شيء أن يسافر أسرع من الضوء، لأن الفوتونات لم تحمل أي معلومات.
ويعتقد أن إثبات وجود مثل هذه التأثيرات يمكن أن يحمل فائدة مستقبلية لنطاقات الحوسبة الكمومية، حيث يمثل التلاعب بالحالات الكمومية للمادة أهمية كبيرة لتحسين دقة الحواسيب.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات
إقرأ أيضاً:
لذا لزم التنويه: الزمن في السجن (4)
"أضعُ علامة جديدة على الحائط، لأنهي شهرا بانتظارٍ آخرفي الحائطِ متسعٌ لمنتهى العمر.. عاما بعد عام
الحوائط -أصلا- لا تعبأ بالحياة، تماما كما لا يعبأ السجان
أما النفسُ فقد ضاقت بالعلاماتِ.. بالحوائط.. وبالانتظار"
ليس أحمق من بدء رحلتك السجنيّة بحساب الوقت، تلك العلامات على الحائط ستبقى ندوبا في روحك، حتى بعد خروجك، وإلى أن تموت، لن تنصلح علاقتك بالوقتِ وقد ظللت تحسبه يوما فساعة فدقيقة، بانتظارِ أن تخطّ خطا جديدا على حائط زنزانتك، لن تسامحه و-ربّما لن تسامح نفسك.
وليس أحمق كذلك من التخلّي عن الانتباه للوقتِ والوعي به، حفرةٌ هائلةٌ تترقّب ابتلاعك حينها، في لحظتك المناقضة لكلّ ما هو حيّ/حيوي أو إنساني، عليكَ أن تنتبه دون أن تسقط، عليكَ أن تعي -ربّما- حتى تستطيع التحايل. فالزمن السجنيّ ليس مجرّد معيار، إنّما معركة قائمة/مستمرّة بين حفرة اللحظة، وبين الماضي ذاكرة والقادمُ أحلاما، وكلّ احتيالٍ تقوم به سيكون جسرا يعبر بك إلى العالم والحياة والحريّة ولو لـ لحظات.
الوقت في السجن ليس محايدا، بل هو سلطة، أداةُ قمع، ومعركةٌ دائمة. ويكفي -بحسب فوكو- أن يُنتزع منك الحق في إدارة وقتك حتى تُنتزع إنسانيّتك بالتدريج، لا يحتاج الأمر إلى أسوار وأبواب ليحدث، فما بالك وكلاهما واقعٌ في حياتك السجنيّة؟ بين عشرات الجدران الأسمنتيّة الخرساء، وعشرات الأبواب الحديديّة الصدئة، تحدّد السلطةُ -حسب قوانينها أو حسب مزاج المختلّ صاحب القرار- متى تستيقظ ومتى تأكل ومتى تنام ومتى تتحرّك و-ربّما- متى تموت.
هي لا تسجن جسدكَ وحده حين تفعل، إنّما زمنك كذلك، وسجن الزمن ليس فقط أشدّ قسوة، إنّما أكثر قدرة على الإرباك، وإحداث الزلزلة فيما رسخ بنفسك وذهنك.
في السجن ليس ثمّة زمنٌ واحد، هناك زمنٌ آخر تحت الجلد وفي الدماغ أو الروح، زمنٌ داخليٌّ أشدّ بطئا وثِقلا من ذلك الآخر الدائر في تعاقب الليل والنّهار. إنّه ذلك الزمن الحيويّ الذي لا يدور مع عقارب الساعة أو يُنزع مع أوراق التقويم، بل تقيسه دقّات قلبٍ وتخلّجات جلد وتقلّباتُ نفس، دقيقةُ الانتظار تمتدُ فيه عمرا، ولمسةٌ في الزيارة تطولُ لتملأ أسابيع ما بين زيارتين.
والزيارةُ ليست ذلك اللقاء الذي يجرب تحت أعين الضباط والمخبرين وأجهزة التسجيل فحسب، بل هو نصٌّ مليءٌ بالعلامات وكل نصّ يفتح أبوابا للمعنى تمتد بعيدا عن الحوائط والقضبان: كلّ كلمة عابرة، نَفَس روتينيّ، رعشة شفاة، أو تشتّت فكرٍ ونظر.. يُعاد رسم الزمن حولها -كما الأفكار والهواجس- فتطول وتقصر حسب ما تحمله من أملٍ أو خيبة.وسطر في الرسالة قادرٌ على "شقلبة" عالمك لأيّام: تؤوِّلُ الكلمات، تستنبط النبرة والصوت، تفتّش عمّا لم يُقل وتفسّر ما لم يُبيّن، تقرأ الفراغات بين السطور قبل أن تقرأ الكلام المكتوب ذاته.
والزمنُ في السجن أزمانٌ، أو على الأقلّ هو زمنٌ مركّب: زمنٌ مسلوبٌ وآخر داخليّ مقاوم أو منكسر، وثالثٌ كنصٍّ يُعاد تأويله بعد قراءته مع كلّ رسالةٍ أو زيارةٍ أو خبر.
هكذا تصبح الرسالةُ براحا متحايلا، وشعاع حريّةٍ أو جسر عبورٍ مؤقّت إلى رحابة العالم من ضيق الزنزانة، وإلى الوقت الحيّ من مواقيت السجّان القسريّة.
والزيارةُ كذلك لا تعودُ مجرّد لقاءٍ جسديّ مؤّقت، بل طقسُ مقاومة، و"وعاء ادّخار" للمشاعر كما للجسد وللذاكرة كما للروح، يتجسّد فيها زمنك الداخليّ: عناق لحظةٍ يروي عطش أسابيع الحرمان، ونظرة واحدة تختزنُ عونا على ألف يومٍ من الغياب؛ الزيارةُ تعيد تشكيل الزمن، وتكسر إيقاع السجن المفروض.
حتى التريّض "ساعةُ الشمس في السجن" التي رأى درويش استحقاقها لأن تُذكر ضمن ما تستحقّ الحياة لأجله على هذه الأرض، يتحول إلى فسحة دلالية: خطى قليلة بين جدارين قريبين، تصبح إبحارا كاملا إلى ذكريات العمر جميلها وثقيلها، أو إلى مستقبلٍ تخلقه متجاوزا لإمكانات الواقع والجسد في خيالك الذي لا يُسجن.
في مواجهة زمننا السجنيّ، نبتكرُ جسورا أو ثغرات "ربّما ننفق العمر كي نثقب ثغرة ليمرّ النور للأجيال مرّة"، لكنّنا نفعل هذه المرّة ليمرّ النور والحريّة والحياة -ولو مؤقّتا وجزئيّا- لنا نحن.. جسور من أحلام مؤجّلة، من رسائل سوّد الكثير من سطورها حبرُ الرقيب، من زيارات تخرقُ الزمن ولو خرقتها أعين الضبّاط والمخبرين، من تريّضٍ يُستعاد فيه الجسد ولو لدقائق، ولو في الخيال المتفلّت من الرقابة والقمع.
ولأن فوكو علّمنا أن الزمن المراقب يخلق أجسادا طيّعة، فإن جسورنا ليست مجرد عزاء، بل مقاومة.. ولأن برغسون أهدانا فكرة الزمن الحي، فإن كل لحظة أملٍ -مهما خفت نورها- تمتد كالعروق تحت تراب الأسى.. ولأن بارت نبهنا إلى أن كل نصّ مفتوح على تأويلات لا نهائية، فإن كل رسالة وزيارة تصبح وثيقة حرية مكتوبة بالحبر الخفي للصبر.
هكذا يصبح السجن ليس موتا للزمن بالضرورة، كما يريد منه أن يكون، بل مولدا لأزمنةٍ جديدة: زمن الذاكرة، زمن الحلم، زمن التأويل، زمن الحب.. والوقت الذي كان سلاحا بيد السجّان، نصنع منه نحن جسورا صغيرة، ضيقة، لكنها تقود إلى عالم كامل من الحياة والحريّة.
سيأتي يومٌ -ولو بعُد-
تعالجُ ضمتُنا فيه كلَّ ما اعتَرَانا،
تسيلُ دمعاتُنا المؤجلات، وداعا لمن فُقد،
ننتشي بالشعر، بالأمنيات، بالحياة.
أنشغلُ عنها بصحبةِ موسيقاي وكتبي،
وتنشغلُ عني بتخيّل طفلٍ تأخرَ مجيئه.
ننحشرُ في مطبخٍ صغير، نعدُّ وجبة نحبها،
ولا يفيقنا من (قبلةٍ اعتراضية) إلا رائحة الشوّاط.
ننتفضُ في حضرةِ فلسطين، بتوقٍ وحنين.
نتأسّى على ثورتنا المغدورة،
نرفضُ الكراهيةَ والقبح،
نُكملُ الحلم، ونُكملُ الحياة.