لبنان ٢٤:
2025-04-29@00:11:26 GMT
قصّة مروّعة من صيدنايا.. تعذيبٌ طال سائقاً على خط عمّان - بيروت
تاريخ النشر: 27th, December 2024 GMT
"معروف عن السجون والأفرع الأمنية في سورية بأن الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود، لم أكن أحلم يوما بأنني سأخرج من السجن، على الأقل لن أخرج منه حيا أو هكذا ظننت".
بهذه الكلمات يروي الأردني إبراهيم سليم فريحات سائق السفريات بين عمان ودمشق وبيروت مرحلة اليأس الإحباط التي وصل إليها حين كان يقبع في الزنزانة عاريا، تنهشه أنياب الرطوبة والبرد، وتخز أنفه رائحة العفن، بينما يقضي حكما جائرا وقع عليه بعد اعتراف انتُزع منه بأشد الطرق الوحشية واللاإنسانية على الإطلاق.
بداية القصة تعود إلى الثالث والعشرين من آذار عام 2008 عندما كان إبراهيم على وشك الانطلاق من عمان باتجاه دمشق مع حمولته من الركاب.
يومها، طلب منه أحدهم أن يوصل أمانة إلى شخص آخر في دمشق، إذ من المألوف أن يرسل الناس الهدايا والطرود بين العواصم مع سائقي السفريات.
كانت الأمانة عبارة عن حقيبة أراد الشخص المرسِل أن تكون هدية لأحد أصدقائه، ولأن الحقيبة فاخرة وفارغة لم يتردد إبراهيم في حمل الأمانة كما طلب منه.
وصل إبراهيم إلى دمشق وأوصل ركابه بسلام، واتصل بصاحب الحقيبة وحدد معه مكاناً للتسليم. لم يكن يعلم أن هذه اللحظة ستغير حياته إلى الأبد. فور تسليمه الحقيبة، أحاط به مسلحان ووضعا مسدسيهما على ظهره قبل أن يقيدانه ويعصبان عينيه ويلقيانه في سيارتهما... وكانت تلك بداية رحلته نحو المجهول.
انتهى المطاف بإبراهيم في أحد الأفرع الأمنية السورية، والمعروف باسم فرع فلسطين، وهناك تبين له أن الحقيبة كانت تحتوي على رسالة حول معلومات عن الجيش السوري مخفية داخل بطانة الحقيبة.
واجه إبراهيم أساليب تعذيب قاسية، شملت الصعق الكهربائي، التعليق من اليدين لمدة يومين، والتجويع. لم تكن هذه الأساليب تهدف فقط إلى انتزاع اعترافات، بل أيضاً إلى كسر الروح الإنسانية. إبراهيم، الذي أقسم عدم معرفته بمحتوى الرسالة أو أي نشاط مخالف، وجد نفسه، وحيداً ومحاطاً بالشكوك والتهم.
لم يكن الألم الجسدي هو الجانب الوحيد من معاناة إبراهيم. في زنزانة انفرادية، كان يقضي أيامه محاطاً بالصمت والخوف، والشوق للأهل والأحباب.
وهكذا تحول إبراهيم من مواطن يتمتع بكل حقوقه إلى مجرد رقم فصار اسمه السجين رقم "31".
بعد تعذيب شديد، وقف إبراهيم أمام محكمة أمن الدولة العليا في سوريا، ووُجهت إليه تهم التخابر مع جهات معادية ونقل معلومات عسكرية، وحُكم عليه بالسجن لمدة تجاوزت العقدين.
لم تكن المحاكمة سوى إجراء شكلياً لتثبيت الحكم؛ حيث لم يتمكن إبراهيم من الدفاع عن نفسه، ونقل إلى مسلخ سوريا البشري "سجن صيدنايا".
وبينما هو غارق في اليأس في زنزانته التي قضى فيها نحو 17 عاما ضج السجن وعلت التكبيرات في جنباته، وكأنه يوم القيامة. رجال مسلحون يفتحون أبواب السجن وسط ذهول المساجين الذين راحوا يتدافعون لاستنشاق عبق الحرية بعد سنوات عجاف التهمت أجسادهم وأرواحهم.
"سقط نظام الأسد" تلك الكلمة التي ترددت في أجواء السجن وقوبلت بفرح عارم لا يقل نشوة عن نشوة الحرية.
بخطوات مترنحة، سار إبراهيم لمسافة تصل إلى 35 كيلو متراً حتى وصل إلى العاصمة دمشق وهناك التقى بمجموعة من الشباب الذين ساعدوه على العودة إلى الأردن، حيث التقى أخيراً بعائلته.
إبراهيم اليوم بات بين أهله، لكنه يعيش مع ذكريات محفورة على جدران ذاكرته كتلك النقوش التي وجدت على جدران زنازين سجن صيدنايا. (الحرة)
المصدر: لبنان ٢٤
إقرأ أيضاً:
لذا لزم التنويه: الزمن في السجن (4-8)
"أضعُ علامة جديدة على الحائط، لأنهي شهرا بانتظارٍ آخرفي الحائطِ متسعٌ لمنتهى العمر.. عاما بعد عام
الحوائط -أصلا- لا تعبأ بالحياة، تماما كما لا يعبأ السجان
أما النفسُ فقد ضاقت بالعلاماتِ.. بالحوائط.. وبالانتظار"
ليس أحمق من بدء رحلتك السجنيّة بحساب الوقت، تلك العلامات على الحائط ستبقى ندوبا في روحك، حتى بعد خروجك، وإلى أن تموت، لن تنصلح علاقتك بالوقتِ وقد ظللت تحسبه يوما فساعة فدقيقة، بانتظارِ أن تخطّ خطا جديدا على حائط زنزانتك، لن تسامحه و-ربّما لن تسامح نفسك.
وليس أحمق كذلك من التخلّي عن الانتباه للوقتِ والوعي به، حفرةٌ هائلةٌ تترقّب ابتلاعك حينها، في لحظتك المناقضة لكلّ ما هو حيّ/حيوي أو إنساني، عليكَ أن تنتبه دون أن تسقط، عليكَ أن تعي -ربّما- حتى تستطيع التحايل. فالزمن السجنيّ ليس مجرّد معيار، إنّما معركة قائمة/مستمرّة بين حفرة اللحظة، وبين الماضي ذاكرة والقادمُ أحلاما، وكلّ احتيالٍ تقوم به سيكون جسرا يعبر بك إلى العالم والحياة والحريّة ولو لـ لحظات.
الزمنُ في السجن أزمانٌ، أو على الأقلّ هو زمنٌ مركّب: زمنٌ مسلوبٌ وآخر داخليّ مقاوم أو منكسر، وثالثٌ كنصٍّ يُعاد تأويله بعد قراءته مع كلّ رسالةٍ أو زيارةٍ أو خبر
الوقت في السجن ليس محايدا، بل هو سلطة، أداةُ قمع، ومعركةٌ دائمة. ويكفي -بحسب فوكو- أن يُنتزع منك الحق في إدارة وقتك حتى تُنتزع إنسانيّتك بالتدريج، لا يحتاج الأمر إلى أسوار وأبواب ليحدث، فما بالك وكلاهما واقعٌ في حياتك السجنيّة؟ بين عشرات الجدران الأسمنتيّة الخرساء، وعشرات الأبواب الحديديّة الصدئة، تحدّد السلطةُ -حسب قوانينها أو حسب مزاج المختلّ صاحب القرار- متى تستيقظ ومتى تأكل ومتى تنام ومتى تتحرّك و-ربّما- متى تموت.
هي لا تسجن جسدكَ وحده حين تفعل، إنّما زمنك كذلك، وسجن الزمن ليس فقط أشدّ قسوة، إنّما أكثر قدرة على الإرباك، وإحداث الزلزلة فيما رسخ بنفسك وذهنك.
في السجن ليس ثمّة زمنٌ واحد، هناك زمنٌ آخر تحت الجلد وفي الدماغ أو الروح، زمنٌ داخليٌّ أشدّ بطئا وثِقلا من ذلك الآخر الدائر في تعاقب الليل والنّهار. إنّه ذلك الزمن الحيويّ الذي لا يدور مع عقارب الساعة أو يُنزع مع أوراق التقويم، بل تقيسه دقّات قلبٍ وتخلّجات جلد وتقلّباتُ نفس، دقيقةُ الانتظار تمتدُ فيه عمرا، ولمسةٌ في الزيارة تطولُ لتملأ أسابيع ما بين زيارتين.
والزيارةُ ليست ذلك اللقاء الذي يجرب تحت أعين الضباط والمخبرين وأجهزة التسجيل فحسب، بل هو نصٌّ مليءٌ بالعلامات وكل نصّ يفتح أبوابا للمعنى تمتد بعيدا عن الحوائط والقضبان: كلّ كلمة عابرة، نَفَس روتينيّ، رعشة شفاة، أو تشتّت فكرٍ ونظر.. يُعاد رسم الزمن حولها -كما الأفكار والهواجس- فتطول وتقصر حسب ما تحمله من أملٍ أو خيبة.وسطر في الرسالة قادرٌ على "شقلبة" عالمك لأيّام: تؤوِّلُ الكلمات، تستنبط النبرة والصوت، تفتّش عمّا لم يُقل وتفسّر ما لم يُبيّن، تقرأ الفراغات بين السطور قبل أن تقرأ الكلام المكتوب ذاته.
والزمنُ في السجن أزمانٌ، أو على الأقلّ هو زمنٌ مركّب: زمنٌ مسلوبٌ وآخر داخليّ مقاوم أو منكسر، وثالثٌ كنصٍّ يُعاد تأويله بعد قراءته مع كلّ رسالةٍ أو زيارةٍ أو خبر.
هكذا تصبح الرسالةُ براحا متحايلا، وشعاع حريّةٍ أو جسر عبورٍ مؤقّت إلى رحابة العالم من ضيق الزنزانة، وإلى الوقت الحيّ من مواقيت السجّان القسريّة.
والزيارةُ كذلك لا تعودُ مجرّد لقاءٍ جسديّ مؤّقت، بل طقسُ مقاومة، و"وعاء ادّخار" للمشاعر كما للجسد وللذاكرة كما للروح، يتجسّد فيها زمنك الداخليّ: عناق لحظةٍ يروي عطش أسابيع الحرمان، ونظرة واحدة تختزنُ عونا على ألف يومٍ من الغياب؛ الزيارةُ تعيد تشكيل الزمن، وتكسر إيقاع السجن المفروض.
حتى التريّض (ساعةُ الشمس في السجن) التي رأى درويش استحقاقها لأن تُذكر ضمن ما تستحقّ الحياة لأجله على هذه الأرض، يتحول إلى فسحة دلالية: خطى قليلة بين جدارين قريبين، تصبح إبحارا كاملا إلى ذكريات العمر جميلها وثقيلها، أو إلى مستقبلٍ تخلقه متجاوزا لإمكانات الواقع والجسد في خيالك الذي لا يُسجن.
هكذا يصبح السجن ليس موتا للزمن بالضرورة، كما يريد منه أن يكون، بل مولدا لأزمنةٍ جديدة: زمن الذاكرة، زمن الحلم، زمن التأويل، زمن الحب.. والوقت الذي كان سلاحا بيد السجّان، نصنع منه نحن جسورا صغيرة، ضيقة، لكنها تقود إلى عالم كامل من الحياة والحريّة
في مواجهة زمننا السجنيّ، نبتكرُ جسورا أو ثغرات "ربّما ننفق العمر كي نثقب ثغرة ليمرّ النور للأجيال مرّة"، لكنّنا نفعل هذه المرّة ليمرّ النور والحريّة والحياة -ولو مؤقّتا وجزئيّا- لنا نحن.. جسور من أحلام مؤجّلة، من رسائل سوّد الكثير من سطورها حبرُ الرقيب، من زيارات تخرقُ الزمن ولو خرقتها أعين الضبّاط والمخبرين، من تريّضٍ يُستعاد فيه الجسد ولو لدقائق، ولو في الخيال المتفلّت من الرقابة والقمع.
ولأن فوكو علّمنا أن الزمن المراقب يخلق أجسادا طيّعة، فإن جسورنا ليست مجرد عزاء، بل مقاومة.. ولأن برغسون أهدانا فكرة الزمن الحي، فإن كل لحظة أملٍ -مهما خفت نورها- تمتد كالعروق تحت تراب الأسى.. ولأن بارت نبهنا إلى أن كل نصّ مفتوح على تأويلات لا نهائية، فإن كل رسالة وزيارة تصبح وثيقة حرية مكتوبة بالحبر الخفي للصبر.
هكذا يصبح السجن ليس موتا للزمن بالضرورة، كما يريد منه أن يكون، بل مولدا لأزمنةٍ جديدة: زمن الذاكرة، زمن الحلم، زمن التأويل، زمن الحب.. والوقت الذي كان سلاحا بيد السجّان، نصنع منه نحن جسورا صغيرة، ضيقة، لكنها تقود إلى عالم كامل من الحياة والحريّة.
سيأتي يومٌ -ولو بعُد-
تعالجُ ضمتُنا فيه كلَّ ما اعتَرَانا،
تسيلُ دمعاتُنا المؤجلات، وداعا لمن فُقد،
ننتشي بالشعر، بالأمنيات، بالحياة.
أنشغلُ عنها بصحبةِ موسيقاي وكتبي،
وتنشغلُ عني بتخيّل طفلٍ تأخرَ مجيئه.
ننحشرُ في مطبخٍ صغير، نعدُّ وجبة نحبها،
ولا يفيقنا من (قبلةٍ اعتراضية) إلا رائحة الشوّاط.
ننتفضُ في حضرةِ فلسطين، بتوقٍ وحنين.
نتأسّى على ثورتنا المغدورة،
نرفضُ الكراهيةَ والقبح،
نُكملُ الحلم، ونُكملُ الحياة.