كما أغلب المواطنين والمواطنات، أتابع النقاشات الفكرية والمواقف السياسية، وبعضا من المقالات والتدوينات التي مدارها حول مآل تعديل مدونة الأسرة ومضامين المشروع الذي انتهت إليه اللجنة المكلفة، بعد مشوار من المشاورات العمومية، قُدمت بمناسبته المئات من المذكرات والأوراق، ونُظّم بإزائها العشرات من الندوات والمحاضرات.


في خضم هذه المتابعة، هالني هذا التضخّم الهائل في النقاش القانوني حول الأسرة، بسبب المركب الذي امتطته أغلب التوجهات الفكرية والتيارات السياسية، يستوي في ذلك الحداثيون والعلمانيون بالمحافظين والإسلاميين. وهو ما يثير في نفس المرء وذهنه العديد من التحفظات والاستدراكات.
والحاصل، أن واحدا من بين البواعث على استثارة هذه التحفظات والاستدراكات هو حجم الانزياح الفكري والثقافي الذي جُرفنا إليه في غمرة النقاش حول المدونة، التي هي هنا مدونة للأسرة. فتعلّق الكثيرون بنقاشات القانون بمساطره الشكلية والإجرائية، ومساجلات الحقوق بتجريداتها وتلبيساتها الكلامية، وغاب عنا المفهوم السليم والآمن والمستقر لمفردة « الأسرة » كما خبرناه لقرون من الزمن، وورثناه عن آبائنا وأجدادنا. حيث كانت الأسرة فضاء جامعا، يوفر الحنوّ والعطف والدفئ العائلي، بحكم أنها كيان ووجود وجداني واجتماعي وثقافي مفعم بالمعنى والحياة والروح. كيان ووجود عصيّ عن سياسات التقنين ولغات التنميط التي يسعى رجال السلطة وفقهاء القانون وتكنوقراطيو الدولة وبيروقراطيو الإدارة لفرضها على المجتمع بإنتاج لغة عامة ومجردة مناقضة لحيوية المجتمع وخصوصياته وتفرداته.
ومع كل الأسف، فأغلب من يتصدّى اليوم لسؤال الأسرة، بمن في ذلك المعنيون بالدفاع عنها، يدفع في اتجاه إقحام الأسرة في مجال التداول التشريعي العام، سواء من خلال القول بدسترتها اعتقادا منهم بأنها تحميها وتحصنها، أو من خلال السعي إلى تسييجها بالتشريعات القانونية والسياسات العمومية ظنا منهم بأنها تخدمها وتنميها. والحال، أن الأسرة، من حيث هويتها وطبيعتها وتاريخها، مفارقة لهذا المجال ومناقضة له. فهي كيان ينتمي، أصالة وابتداء، إلى مجال تداولي آخر مؤسس على حساسيات وقابليات ولغات تأبى الاندراج لفضاء الدولة المركزية الشاملة والمحيطة، ولمجال قانونها السلطوي أو لعالم سوقها الجشع. ولأنها كذلك، وبحكم انتمائها لهذا العالم والمجال التداولي، المتميز بخصائصه ومثله ورموزه وأيقوناته الإنسانية الرحبة، استطاعت هذه المؤسسة الاجتماعية أن تنهض بدورها الأبرز في إعادة إنتاج المعنى للحياة، بعيدا عن دوائر الدولة الساعية إلى إنتاج الحياة وصياغة المجتمعات بمعنى سلطوي ولغة الإلزام القهري.
أعتقد أننا اليوم في أمس الحاجة إلى التنبّه إلى أننا نخوض في نقاشات وتعديلات مناقضة لروح الأسرة.. ولمنطق الأسرة.. وللمأمول من الأسرة. ونحن بذلك، نُعرّض هذه المؤسسة الحميمية والتراحمية والإنسانية لجملة من الاختراقات المفاهيمية والقيمية التي لن تفضي إلا إلى تقويضها عن أداء أدوراها ووظائفها، بما هي فضاء قائم على التراحم والتعاضد، بعيدا عن نزعة الصراع والتنافس والتعاقد. لذلك، يبدو أنه حريّ بنا ونحن بصدد نقاش هذا المشروع الذي تقدمت به اللجنة المكلفة، أن نعي، دائما وأبدا، بأن:
1- الأسرة أكبر من أن تكون مؤسسة قانونية:
ذلك أن الموغلين في الدعوة إلى تأسيس الأسرة على لغة القانون لا ينتبهون إلى أن هذه « المؤسسة/الفضاء/البنية » أكبر من مجرد علاقة قانونية ناشئة بين أطراف متعاقدة بمراكز حقوقية متقابلة تربطهم مقتضيات تشريعية وإلزامات متبادلة ومتفاوض بشأنها. كما أنهم لا ينتبهون إلى أن عقد الزواج، بما هو ميثاق غليظ، لا يُناظر غيره من الالتزامات والعقود كما استقرت في نظرية العقد وأسفار القانون المدني. فالأسرة، بخلاف ما يعتقده رجال السلطة والقانون والإدارة والكثير من النخب، وحدة اجتماعية متماسكة قائمة على الرحمة والتوادد، أكثر منها وحدة قائمة على منطق الحقوق والتعاقد.
ولأنها كذلك، استطاعت أن تكفل ذاتيتها وتحفظ استقلاليتها عن تدخلية الدولة وهيمنة المجال العام وتجريدية لغة القانون. ولعل واحدا من الأسباب التي أتاح لها هذه الاستقلالية، هو كونها مؤسسة مشيدة على مقوّم « الحرمة »؛ فالأسرة حرمة، لأنها في المبتدأ مجال خاص مطبوع بالسرية ومحرّم على الآخرين، أفرادا كانوا أو مؤسسات. هي حرمة لأنها حيز وجداني وثقافي ومكاني له أبواب مقفلة وعتبات مغلقة على وشائج حميمية وعلائق معنوية مطبوعة بالخصوصية، ومنفصلة عن كل ما هو « برانيّ » وغريب. هذا الانفصال عن الخارج هو ما يتيح لها، وبالتبع لأفرادها، القدرة على إنشاء الخصوصيات والتفرّدات والأسرار، والمساهمة في تبلور الأذواق والتجارب والخبرات وتعدّدها، ما يمنح الحياة الاجتماعية تنوّعها وزخمها الإنساني.
2- الأسرة أكبر من مجرد مشروع اقتصادي:
وكما أنها وجود متفلت من هيمنة القانون، فإن الأسرة أكبر من أن تكون وحدة اقتصادية، بحكم أنها فضاء قائم على التضحية والبرّ وقيم العطاء بدون مقابل ورفض منطق المحاسبة، خلافا لمنطق السوق وتنافسيته، وللغة الاقتصاد بمصلحيته الضيقة والمباشرة. لذلك كانت الأسرة، وستبقى دائما، مقاومة لكل سعي إلى تحويلها إلى شركة اقتصادية أو مقاولة تجارية، قائمة على حسابات الربح والخسارة، وقوانين العرض والطلب. وتراثنا الثقافي والفكري يقيم الأسرة على مبدأ المكارمة، فالزوج يتعبد الله بالإحسان إلى زوجته، والزوجة تتعبد الله بالإحسان إلى زوجها، والآباء يتعبدون الله بحسن رعاية أبنائهم، كما أن الأبناء يتعبدون الله بحسن البر والطاعة لآبائهم.
3- الأسرة أكبر من مجرد وحدة إحصائية:
ولأنها كذلك، فإن الأسرة تأبى أن تبرز باعتبارها وحدة إحصائية أو معطى حسابيا، متشابهة مع غيرها من الوحدات والمعطيات. فهي مؤسسة اجتماعية متجاوزة لأفرادها، مختلفة عن أعضائها، لها شخصيتها ووجودها المتعاليين عن الشخوص المنضوون تحتها. كما أن البيت الأسري ليس فقط مجرد حيز مكاني أو مأوى جدراني، وإنما هو مكان ثابت ومستقر في الوجدان قبل العمران، وفضاء دائم ومستمر تغمره قيم المحبة، وتعمره ثقافة التضامن والتضحية وقيمهما.
ختم
بمثل هذه المعاني، تبرز الأسرة، كما العائلة والأخوة والبنوة والعصبة والجوار والزواج والمصاهرة والجماعة وغيرها، مفهوما متفلتا من قبضة الحداثة ونزوعاتها التفكيكية، ووجودا مقاوما لصيرورة العلمنة وسياساتها التشييئية، لتظل روح الأسرة وفية لدورها الاجتماعي والحضاري في توليد قيم التضحية والتضامن والتعاضد، وأمينة على وظيفة الحفاظ على النظام الاجتماعي وإعادة إنتاجه إنتاجا تراحميا قائما على مبدإ الالتزام الطوعي (التقوى بلغة القرآن)، خارج نطاقات « سلطوية العام » و »شكلانية القانون » و »مادية الاقتصاد » و »حسابية الإحصاء ».

 

 

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: کما أن

إقرأ أيضاً:

رسالة وحدة .. السكرتير العام للبحر الأحمر يشارك الأقباط احتفالات عيد القيامة المجيد

في إطار تعزيز قيم الوحدة الوطنية، قام السكرتير العام لمحافظة البحر الأحمر، كمال سليمان، بزيارة رسمية إلى الكنائس الثلاث بالمحافظة، نائبًا عن اللواء عمرو حنفي، محافظ البحر الأحمر، لتقديم التهنئة بمناسبة عيد القيامة المجيد.

ارتفاع أسعار الأسماك بأسواق الغردقة بسبب وقف الصيد في البحر الأحمررئاسة حي شمال الغردقة تشن حملة موسعة لرفع مخلفات البناء من الطرقملكات جمال العالم يوجهن رسالة بيئية من الغردقة.. حملة لتنظيف الشواطئ من البلاستيكمصرع فتاة وإصابة 19 آخرين في حادث انقلاب ميكروباص بطريق سفاجا الغردقة

وشملت الزيارة: كنيسة الأنبا شنودة الأرثوذكسية بمنطقة الدهار، والكنيسة الإنجيلية أمام قرية عرابية، والكنيسة الكاثوليكية بمنطقة النجدة بالغردقة. وأكد السكرتير العام، خلال الزيارة، على عمق العلاقات الأخوية بين المسلمين والأقباط، والتي تزداد قوة في مثل هذه المناسبات.

وأشار إلى أن هذه الزيارة تأتي تنفيذًا لتوجيهات محافظ البحر الأحمر، بالتواصل الدائم وتعزيز روح الانتماء والمواطنة. كما نقل تحيات اللواء عمرو حنفي للجميع، متمنيًا لهم عيدًا سعيدًا مليئًا بالفرح والبركات.

وأعرب السكرتير العام عن سعادته بالمشاركة في احتفالات الأقباط بهذه المناسبة الكبيرة، مؤكدًا أن مصر تُبنى بتكاتف جميع أبنائها. كما أشاد بالدور الكبير الذي تلعبه الكنيسة في ترسيخ قيم المحبة والسلام بين أبناء الوطن.

من جانبهم، رحّب رجال الدين والمواطنون بالزيارة، معبّرين عن تقديرهم لهذه المبادرة التي تعكس اهتمام الدولة بجميع أبنائها. وأكدوا أن مثل هذه الزيارات تُعزّز مشاعر الأخوّة وتُجسّد الوحدة الوطنية على أرض الواقع.

واختتم السكرتير العام زيارته بتقديم التهنئة مرة أخرى للجميع، متمنيًا أن يعود العيد بالخير والسلام على مصر وأهلها. كما أكد استمرار التعاون بين جميع مؤسسات الدولة والكنيسة لخدمة المواطنين وتحقيق التقدم والازدهار.

مقالات مشابهة

  • السوداني: نعمل وفق رؤية تقدم مصلحة العراق العليا أولاً بعيداً عن الانفعالات
  • وكيل صحة البحيرة يفاجئ وحدة صحة الأسرة بالتوفيقية بإيتاي البارود| صور
  • عارٌ وخَطَرٌ يُهِّددُ المجتمع!!
  • وزير الكهرباء يعلن عن أكبر حملة لتأهيل وحدات الإنتاج وموعد إنجاز الربط الخارجي
  • رسالة وحدة .. السكرتير العام للبحر الأحمر يشارك الأقباط احتفالات عيد القيامة المجيد
  • نائب وزير الاقتصاد والصناعة المهندس باسل عبد الحنان يبحث مع تجار وصناعيي حلب تذليل الصعوبات التي تواجه قطاع الصناعة المحلية
  • نائب وزير الاقتصاد والصناعة المهندس باسل عبد الحنان يبحث مع تجار وصناعيي حلب تذليل العقبات والصعوبات التي تواجه قطاع الصناعة المحلية
  • قلق أممي من الضربات الأمريكية التي دمرت ميناء رأس عيسى النفطي باليمن
  • أردوغان يكشف عن أكبر خطر يواجه تركيا
  • كذبة جدلية الهامش والمركز ودولة ٥٦ هي من أكبر الاكاذيب التي دمر بها السودان الحديث