هذا ما تتعلمه الولايات المتحدة من إخفاقاتها السياسية في الربيع العربي
تاريخ النشر: 25th, December 2024 GMT
خلع الجنود زيهم الموحد واختفوا وسط الجموع. ومضت العائلات، فـي نشوة ودموع، تمشط زنازين النظام القديم بحثا عن أحبائها، وتتعقب آثارهم. ومضى الشباب المنهكون بأحذيتهم الرياضية وعيونهم المنبهرة يجوبون الصالونات الفخمة فـي قصر الرئيس السابق، مذهولين من حصاد عقود من النهب. تلك هي مشاهد الأسبوع الماضي فـي دمشق التي أحيت آمال الحرية فـي العالم العربي كله، وجدَّدت فـي الوقت نفسه ذكريات أليمة أيضا.
وليست الفرص الهزيلة للهرب من الاستبدادية أو الحرب الأهلية مقصورة بحال على العالم العربي. فقد انتهت حقبة «نهاية التاريخ» السعيدة، أي سنوات ما بعد الحرب الباردة التي بدا فـيها لوهلة أن مسيرة الديمقراطية الليبرالية إلى الأمام مستعصية على التوقف، وجاءت النهاية حادة فـي قرابة الوقت الذي قامت فـيه الولايات المتحدة بغزو العراق سنة 2003. ومنذ ذلك الحين، تراجع فـي العالم كله عدد البلدان الديمقراطية ذات المؤسسات الحاكمة الدائمة والتداول السلمي للسلطة والبعض من مظاهر القانون. ويندر كذلك إلى حد التلاشي نجاح التحولات الديمقراطية، وبخاصة بعد فترات الصراع المسلح.
وبعد قرابة عقد من الزمن، وفـيما انهارت انتفاضة الربيع العربي السورية إلى حرب أهلية طائفـية، طرح توماس كاروثرز -الباحث الأمريكي الشاب فـي التحولات السياسية بمعهد كارنيجي للسلام الدولي- تفسيرا لسبب توقف اضطرابات العالم السياسية عن الميل إلى الديمقراطية. فصناع السياسة الأمريكيون لا يزالون يصوّرون أنفسهم وحلفاءهم الغربيين بوصفهم الفاعلين المبدئيين القادرين -لحسن الحظ أو لسوئه- على التقدم من الخارج من أجل صياغة مستقبل البلاد المضطربة. لكن الكثير من الفاعلين دخلوا اللعبة، وهم دول أصغر وأقل قدرة فـيما يبدو وترغب فـي تحقيق مصالحها من خلال رعاية فصائل سياسية وجماعات مسلحة داخل هذه البلاد، وكان من هؤلاء الوسطاء خصوم من قبيل إيران فـي عراق ما بعد الغزو أو روسيا فـي مناطق الاتحاد السوفـييتي السابق. لكن كثيرا من أولئك الفاعلين كانوا فـي ظاهر الأمر شركاء لأمريكا أو حلفاء، من قبيل ممالك الخليج العربي التي فرضت نفوذها فـي بعض المواقع العربية، وتم ذلك فـي بعض الأحيان من خلال القوة العسكرية المباشرة. وكان غيرهم دولا دأب الغرب على النظر إليها باعتبارها حالات أو مشاريع لتعزيز الديمقراطية، فـي مقابل دول أخرى مفسدة تشترك فـي مكائد خفـية لتقويض التحولات الديمقراطية خارج حدودها، مثلما فعلت باكستان فـي أفغانستان، أو مصر فـي ليبيا والسودان. ولم يكن أي من أولئك الدخلاء ليضاهي الولايات المتحدة فـي القدرات أو الموارد. لكنهم كانوا أكثر اهتماما من أي أحد فـي واشنطن بالأهداف التي يسعون بتدخلهم إليها. وفـي هذه الحقبة الجديدة -مثلما كتب كاروثرز وشريكه فـي الكتابة أورين ساميت مرام- «لا يجب للنقاشات حول طبيعة الدور الذي ينبغي أن يضطلع به الغرب فـي بلد معين أن تجري فـي إطار تساؤل عما إذا كان«ينبغي أن ندعم الديمقراطية» وكأنما الخيار هو ما بين تدخل الدول الغربية أو مضي البلد المعنيّ بمفرده فـي الطريق السياسي». فالسؤال الأنسب فـي هذا المقام هو «هل يجب أن يتدخل الغرب أم يفسح المجال ليتدخل فاعلون خارجيون آخرون؟».
وفـي هذا الصدد تمثل سوريا حالة نموذجية. فمنذ بداية ثورات الربيع العربي، فـي مطلع عام 2011، كانت الحركة الديمقراطية فـي سوريا ضمن أبعد الحالات احتمالا للنجاح. كان الوضع عصيبا بعد قرون من الاستعمار وعقود من الطغيان الغاشم خلَّفت عداء عميقا بين الجماعات العرقية والطوائف الدينية الكثيرة. لكن الأسوأ من ذلك أن سوريا كانت محاطة بقوى خارجية ضارية، منها إيران، ودول خليجية، وروسيا وتركيا وإسرائيل، وكل أولئك كانوا مستعدين لاستغلال تلك الانقسامات من خلال مساندة وكلاء فـي الداخل السوري فـي معركة ضد بعضهم بعضا، بل وبالتدخل بالقوة العسكرية. وبقيت الولايات المتحدة إلى حد كبير نائية عن ذلك كله، برغم بعض الخطابات الرنانة من الرئيس باراك أوباما بشأن حقوق الإنسان والخطوط الحمر، فبقيت سوريا تحت رحمة الآخرين فـي المنطقة، وتحت رحمة أكثر من عقد من تفشي الفوضى. ولقد قال لي كاروثرز: أخيرا إنه رأى سوريا «حالة مستفحلة على نحو لا يصدق» لتدويل الصراع الأهلي الذي وصفه قبل قرابة عشر سنوات. ولكن من شأنها أيضا أن تكون «حالة دالة لما سيكون عليه شكل العالم» حينما تصبح أي بقعة ساخنة ومهمة مركزا لصراع دولي متعدد الأطراف.
كان روبرت فورد -السفـير الأمريكي فـي سوريا عند بداية الربيع العربي- ممن توقعوا الاضطرابات. فبدءا من عام 2014، أي بعد سنتين من بداية الانتفاضة السورية -بداية سلمية فـي بادئ الأمر ساعية إلى الديمقراطية- ألقت إيران بدعمها وراء بشار الأسد بينما كانت دول خليجية تصدر الشيكات للجهاديين فـي المعارضة غير ملقية بالا لطائفـيتهم أو تطرفهم. وفـي الوقت نفسه، قصرت الولايات المتحدة نفسها على توفـير أسلحة وتدريب محدودين لقوة صغيرة فقط من الألوية المتمردة الليبرالية إلى حد ما بعد درسها بعناية. فـي فبراير من ذلك العام استقال فورد إحباطا من فتور سياسة الولايات المتحدة وعدم فعاليتها.
وفـي العاشر من يونيو، حذر فـي مقالة رأي فـي نيويورك تايمز من «المزيد من التردد والعزوف عن الالتزام بتمكين مقاتلي المعارضة المعتدلين من المحاربة الفعالة للجهاديين والنظام الحاكم على السواء، لأن ذلك التردد يعجِّل ببساطة من اليوم الذي ستضطر فـيه قوات أمريكية إلى التدخل ضد القاعدة فـي سوريا».
وبعد تسعة عشر يوما، استولت داعش، فرع القاعدة، على غالبية سوريا معلنة «خلافة» جديدة تمتد عبر الحدود مع العراق. وفـي أغسطس، بدأت قوات أمريكية فـي قصف مقاتلي داعش بسوريا مصداقا لما تنبأ به فورد. (ولا يزال قرابة تسعمائة من القوات الأمريكية فـي سوريا لمنع رجوع داعش).
فـي عام 2012، بادر فورد -وهو سفـير- بتصنيف فصيل مرتبط بالقاعدة يعرف بجبهة النصرة تنظيما إرهابيا. وفـي حوار الأسبوع الماضي، قال لي: إن الولايات المتحدة كانت قد حصلت على «معلومات جيدة» عن «علاقات الجماعة العضوية بالقاعدة فـي العراق فأردنا أن نقطع علاقة المعارضة السورية بجبهة النصرة فـي مهدها». غير أن اقتلاع جبهة النصرة، مثلما قال، أصبح «أحد إخفاقاتنا الكثيرة». فالجماعة نفسها، التي انشقت علنا عن القاعدة فـي عام 2017، اندمجت فـي نهاية المطاف مع جماعات أخرى لتشكيل هيئة تحرير الشام. وسيطرت إلى حد ما على محافظة إدلب السورية على مدى السنوات العديدة الماضية، وفـي الأيام الأخيرة قادت الاستيلاء الخاطف على حلب وحماة وحمص ودمشق وأطاحت بالأسد.
غير أن فورد، العارف شأن غيره بإخفاقات السياسة الأمريكية فـي سوريا والربيع العربي، قال لي: إنه متفائل بأن الولايات المتحدة -من خلال التعلم من أخطائها- لا تزال قادرة على مساعدة السوريين فـي الصمود فـي مواجهة التحديات وتحقيق حكم ذاتي مستقر. وذهب إلى أن انهيار الأسد المفاجئ- «وتلك من اللحظات التي يقع فـيها أمر غير متوقع واستثنائي، وتصبح الأمور فـي حالة سيولة، ويتخذ الناس القرارات كلما دعا الداعي فـي مواقف لم يكن مخططا لها»- قد أتاح فرصة نادرة لأن «يكون للمشورة الدبلوماسية، إن أعطيت مباشرة، أكبر الأثر». وقال لي فورد: إن الدبلوماسيين الغربيين لن يتمكنوا أبدا من «توجيه» السوريين على الأرض، لكن بوسعهم أن يلفتوا انتباه «المتمردين» الذين يديرون دمشق الآن إلى أمثلة لما نجح ولما لم ينجح فـي انتقالات سياسية أخرى، «فـيحاول الدبلوماسيون مساعدتهم على عمل شيء فـي اتجاه إيجابي». (وبما أن بقايا الحكومة السورية تفتقر إلى المال وتتلهف على المساعدة، فقد يكون للحكومات الغربية نفوذ تستميل به السلطات الانتقالية إلى التفاوض والتسوية).
وينبغي أن تبدأ أولى الخطوات، حسبما قال لي فورد، حيثما تنعم الولايات المتحدة بأكبر النفوذ: أي على القوات الكردية المسيطرة على شمال شرق سوريا. فقد عمل الأكراد -باسم القوات السورية الديمقراطية- عن كثب مع الجيش والمخابرات الأمريكيين طوال عقد من المعارك للمساعدة فـي إلحاق الهزيمة بداعش واحتوائها. أي أن وكلاءنا، وسط خليط قوات الوكلاء ذوي الدعم الأجنبي الذي يهدد حاليا بتقسيم سوريا أو تقويض التحول المستقر، هم الأكراد. غير أن قوات سوريا الديمقراطية مرتبطة أيضا بحركة قومية كردية غير ديمقراطية إلى حد ما. وهي فرع (ما لم تكن ذراعا) لحزب العمال الكردستاتي الذي صنفته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي جماعة إرهابية. تعتبر حكومة تركيا -وعشرون فـي المائة من شعبها أكراد- حزب العمال أقرب إلى خطر وجودي وتصر أن قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة ما هي غير واجهة للحزب. وتركيا الآن مؤهلة للقيام بدور حاسم فـي مستقبل سوريا. وكان الأتراك داعما كبيرا لهيئة تحرير الشام، وقام رئيس المخابرات التركية فـي إشارة انتصارية بادية، بزيارة دمشق بعد أيام من فرار الأسد. وتركيا أيضا هي الراعي الوحيد لميلشيا سورية أخرى تحمل اسما مضلِّلا هو (الجيش الوطني السوري)، وقد عملت لسنين على احتواء الأكراد. بدأت الطائرات التركية فـي ضرب القوات الكردية تقريبا فور أن توافد «المتمردون» على دمشق، وبدأت الميلشيات الكردية المدعومة أمريكيا والميلشيات المدعومة من تركيا فـي تبادل إطلاق النيران، وهي بداية مشؤومة لحقبة ما بعد الأسد.
قال لي فورد، الباحث المقيم حاليا فـي معهد الشرق الأوسط والمتصل إلى الآن بكثيرين داخل سوريا: إن رسالة أمريكا إلى الأكراد لا تزال حتى الآن هي «أننا فـي ظهركم». وهذا بدوره يشجع الأكراد على «الثبات» والاندفاع إلى توسيع أرضهم ومقاومة المطالب التركية. لكن فورد قال لي: إن مسؤولي الاتصالات فـي الجيش الأمريكي والمخابرات الأمريكية ينبغي أن يقولوا للأكراد: إن «الأمور تغيرت وإن عليكم فـي هذا الوقت أن تقدموا بعض التنازلات»، وأضاف: إنه «سيكون من المنطقي أن نطلب من الحكومة الجديدة فـي دمشق أن تقدم بعض التنازلات فـي المقابل، وأن نطلب المثل من الأتراك، لكن لا بد من الاشتراك فـي مساومة لتأسيس توافق». (فـي صفقة بوساطة أمريكية مع تركيا، انسحبت القوات الكردية أخيرا من بلدة سورية ذات أغلبية عربية هي منبج، ووصف فورد ذلك بالخطوة الباعثة على التفاؤل).
وثانيا، قال لي فورد: إن الدبلوماسيين الأمريكيين ينبغي أن يبدأوا الحديث إلى الفاعلين الآخرين الكثيرين الجالسين حاليا إلى الطاولة، من الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا وحتى الفصائل الصغيرة من قبيل الجيش السوري الحر فـي درعا وحتى زعماء هيئة تحرير الشام وهي أقوى القوات المسلحة الكثيرة العاملة حاليا فـي سوريا. قال: «إذا لم يتسن لنا أن نرفع سماعة الهاتف ونتواصل مع الناس فـي دمشق، لا أعرف كيف سنبلغ أي رسالة، لأن الاعتماد على طرف ثالث يخاطر بتشويه رسائلنا، أو بتشويه الرد» وقال: «إن علينا أن نكون على الأرض مشتركين مع الفاعلين».
لقد سيطرت معضلة كيفـية أو ما إذا كان على الولايات المتحدة أن تتعامل مع هيئة تحرير الشام على النقاش العام حول السياسة الأمريكية تجاه سوريا.
فقد انضم زعيم الجماعة الحالي، المشهور باسمه الحركي أبو محمد الجولاني، إلى القاعدة فـي العراق خلال التمرد على الاحتلال الأمريكي، وقضى خمس سنين فـي سجون عسكرية أمريكية هناك، ولا تزال الولايات المتحدة تعرض عشرة ملايين دولار لمن يلقي القبض عليه. لكن فورد الذي كان أول من عاقب الجولاني قال لي: إنه مقتنع بالروايات التي تقول: إن هيئة تحرير الشام وزعيمها أصبحا «بشكل مثير ذوي طبيعة براجماتية خلافا لما كانا عليه فـي 2012». لقد حكمت الجماعة منطقتها فـي إدلب ذات الطبيعة المحافظة نسبيا بقبضة قوية مفروضة على منافسيها السياسيين، ولكنها حكمت أيضا بكفاءة بيروقراطية، وبشيء من التسامح مع مرور الوقت، وقد بدأ الجولاني أخيرا مفاوضات مع ممثلين لطائفة العلويين المرتبطة بالأسد التي تضعها القاعدة وداعش فـي عداد المرتدين. «وكان ذلك بالنسبة لي مذهلا، على نحو إيجابي» مثلما قال لي فورد الذي أشار إلى أن الجولاني رحَّب أيضا بالمساعدة الغربية فـي تأمين الأسلحة الكيميائية الباقية بعد سقوط الأسد، وهي خطوة ما كان لأحد تقريبا أن ينتظرها من جهادي مثل أسامة بن لادن أو أبو بكر البغدادي. (وقد رجع الجولاني الآن إلى استعمال اسمه المدني أحمد الشرع).
قال وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن: إن الولايات المتحدة أجرت «اتصالا» مع هيئة تحرير الشام مشيرا إلى أن إدارة بايدن ربما اختبرت براجماتيتها. لكن دارين خليفة، المستشارة المصرية المخضرمة فـي مجموعة الأزمات الدولية المستقلة أخبرتني أن الولايات المتحدة بحاجة عاجلة إلى إعادة التفكير فـي كثير من إجراءاتها العقابية الكثيرة الأخرى تجاه الفاعلين السوريين أيضا. وقالت: إنه بعد قرابة عام من الحرب الأهلية الشاملة -التي وضعت المتطرفـين السنة فـي مقابل الطاغية المدعوم من إيران- «تفرض الولايات المتحدة شبكة كاملة من العقوبات والتوصيفات لكل فاعل مهم تقريبا ولكل قطاع فـي سوريا اليوم» ومنها مؤسسات الحكومة المتبقية. ولا تزال العقوبات الاقتصادية مفروضة على اقتصاد ما بعد الأسد. وتوصيف الجولاني بالإرهابي، وهيئة تحرير الشام، وغيرهما تمنعهم جميعا من التعاون أو التفاوض مع المغتربين السوريين الودودين تجاه الغرب الذين قد يخاطرون بالتعرض للطرد من ملاذاتهم الأجنبية.
وحثت خليفة الحكومات الغربية على إصدار «إعفاءات أو استثناءات بهدف التفاوض» قد تكون مشروطة ومؤقتة بستة أشهر، بحيث يمكن التراجع عنها على سبيل العقاب على أي انتهاكات.
نبَّه فورد إلى أن الولايات المتحدة، فـي فتحها الاتصالات مع العديد من الفاعلين السوريين غير المستساغين، يجب أن تتعلم من تجاربها فـي العراق بأن تتبنى توقعات ومطالب واقعية بالمحاسبة. «عندما ترتكب قوات الأمن أعمالا وحشية، وهو ما أعتقد أنه شبه مؤكد فـي حالة سوريا، فعلينا ألا نقول «يا إلهي، لقد طلبنا منهم ألا يفعلوا ذلك» بل علينا أن نقول للقادة: إن «هذا غير مقبول، فمتى يحين موعد المحاكمة ومتى سوف تعلنونها؟» وبالطبع سوف تكون علنية، ومن ثم ففـيها عنصر فضح وتشهير». ولو أن لنا مؤشرا من التاريخ، فكثير من زعماء الميلشيات المتمردة قد تكون عيونهم الآن معلقة بمناصب رسمية فـي حكومة جديدة، ربما وزراء أو أعضاء برلمان أو سفراء، وذلك يجعل لهم مصلحة فـي تعزيز مصداقيتهم.
ومع ذلك اعترف فورد بأن أضخم عقبة قد تتمثل فـي حدود سوريا الخارجية: أي تدخل قوى أجنبية، وبخاصة القوى التي ترعى بالفعل فصائل بالداخل أو تجري عمليات عسكرية، القوى التي أججت الحرب على مدى عقد. ومنع هذه القوى الخارجية من التدخل هو الخطوة اللازمة الثالثة. لاحظ فورد أن كلا من إيران وروسيا، أي الخصمين السافرين للولايات المتحدة اللذين تورطا فـي سوريا، قد انسحبتا فـيما يبدو، مزيلتين العواقب المحتملة أمام الإسهام الأمريكي. وحتى الآن، يبقى أن أهم الجيران النافذين هما تركيا التي دعمت هيئة تحرير الشام وإسرائيل التي ساعدت بشكل غير مباشر فـي إبعاد الأسد عن السلطة بشلها قدرات حلفائه المدعومين من إيران. لقد أجرت إسرائيل بالفعل عمليات عسكرية لتدمير كثير من بقايا الجيش السوري واحتلال ما كان منطقة عازلة فـي مرتفعات الجولان. وقد برّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو هذه الأفعال فـي البداية بأنها ضربة وقائية لإبعاد الأسلحة والأرض عن أيدي متطرفـين إسلاميين، ثم أصدر بيانا انتصاريا من أعلى قمة جبل الشيخ، فـي أراض سورية استولى عليها حديثا، مشيرا إلى أن إسرائيل تعتزم إقامة قاعدة هناك، وهي خطوة من المؤكد أنها سوف تثير رد فعل عنيفا فـي دمشق وأنقرة. وتاريخيا، تعاونت إسرائيل مع القوات الكردية فـي العراق، مثيرة شبهات فـي دمشق حول قدرة إسرائيل الآن على إبرام تحالف مصالح مع أكراد سوريا.
قال لي فورد: إن تركيا وإسرائيل، «القوتين الصاعدتين» فـي جانبي سوريا، «تعملان كلاهما انطلاقا من إحساس عميق بالتفوق المعنوي والشرعية التاريخية، وأيضا الخوف الشديد». ومن أجل تحقيق الاستقرار، على أي حكومة سورية جديدة أن تضمن تأمين إسرائيل من هجمات عبر الحدود يشنها مقاتلون إسلاميون وتضمن أمن تركيا وسلامة أراضيها من أي انفصاليين أكراد. لكن كلا من تركيا -عضو الناتو- وإسرائيل حليفتان لأمريكا، بما يضع الولايات المتحدة فـي موضع وسيط المفاوضات الذي يحث على ضبط النفس.
ومن بين كل المفسدين الإقليميين المحتملين، قال لي فورد: إن «أول من يجب الحديث إليهم هم الأتراك والإسرائيليون» وأضاف إن هناك حاجة أيضا «للحديث إلى الإماراتيين والحديث إلى السعوديين والأردنيين والعراقيين والروس». ومن شأن الحديث مع الإيرانيين أن يفـيد لكنه يقتضي وسيطا لعله يتمثل فـي العراق.
قضى فورد يوما الأسبوع الماضي يجيب أسئلة بشأن سوريا فـي وزارة الخارجية، وثمة دلائل، من قبيل تعليقات بلينكن حول الاتصال بهيئة تحرير الشام، على أن إدارة بايدن توافق على بعض من نصائحه على الأقل. أما موقف إدارة ترامب القادمة فمجهول. ففـي مرحلة من رئاسته الأولى، سعى الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى سحب كامل القوات الأمريكية المتبقية فـي سوريا على سبيل المجاملة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، برغم أن الأخير كان يهدد بسحق حلفاء الولايات المتحدة الأكراد إذا ما تنحت قوات الولايات المتحدة عن الطريق. تمكن مسؤولو البنتاجون والخارجية الأمريكية من منع الانسحاب الذي أعلنه ترامب، وتشير تصريحات ترامب منذ الاستيلاء على دمشق إلى أنه لا يزال يريد أن يغسل يديه من أمر سوريا ويتركها لتركيا.
ففـي منشور عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل الإطاحة بنظام الأسد، لم يبد ترامب اهتماما كبيرا بأي دور أمريكي فـي سوريا على الإطلاق مهما يكن ما قد يسعى إليه الفاعلون الآخرون لملء الفراغ. فقد كتب قائلا: «سوريا فوضى، لكنها ليست صديقتنا. لا ينبغي أن تكون للولايات المتحدة علاقة بها. هذه ليست معركتنا. فلتدر رحاها. ولا تتورطوا». وفـي مؤتمر صحفـي هذا الأسبوع، ظهر ترامب لتهنئة تركيا على ما أسماه بـ«الاستيلاء غير الودي» وغير الدموي نسبيا على البلد المجاور. لكن رابطته القوية بنتنياهو قد تمثل قوة مضادة غير متوقعة على رئاسته الثانية.
لا شك أن غريزة ترامب التي تدعوه إلى التراجع، تتطابق مع سياسة الولايات المتحدة فـي أعقاب ثورات الربيع العربي ومنها الثورة السورية. لقد قال لي أنس القماطي المحلل السياسي الليبي البالغ من العمر ثمانية وثلاثين عاما الذي التقيت به عقب سقوط معمر القذافـي: إن فـي المشاهد الأخيرة فـي دمشق «صدى فـي الذاكرة الليبية ـ تفتيش السجون وغارات القصور واكتشافات الأراشيف. هو بنيان الطغيان نفسه لكن بعنوان آخر، وبنفس البهجة».
قال: إن توافد الإعلام الغربي الكثيف لفترة على طرابلس أعطى الليبيين انطباعا بأن الغرب للمرة الأولى يرى «إنسانيتهم» ويكترث لمستقبلهم. ثم انصرف الانتباه، و«تعثرت» الولايات المتحدة وتراجعت، و«بدأ الوكلاء يتسوقون». فاتجهت الميلشيات المتنافسة، طلبا للمال والسلاح، إلى الإماراتيين أو المصريين أو القطريين أو الأتراك، وكلهم حلفاء لأمريكا بالاسم، حتى وهم يقتسمون البلد وقواته الأمنية وثروته النفطية. أقامت داعش لها فرعا، إلى أن أسهمت الضربات الجوية الأمريكية وقوات الكوماندوز البريطانية فـي طردها. وبمرور الوقت تحول أمير حرب طموح ولكنه محبط إلى الروس الذين بعثوا مرتزقة وأقاموا موطئ قدم دائما. قال لي القماطي: إن الأمر «عندما يتعلق بالولايات المتحدة، فهو لا يقتصر على القدرات، إنما يتعلق بالإرادة السياسية. أما فـي ليبيا، وربما فـي سوريا، فقد رأى الغرب أن الفوضى مقبولة، فهي شديدة البعد، ولن تلحق أذى بالحلفاء الأوروبيين. وأصبحت تلك نبوءة تعمل على تحقيق نفسها».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة هیئة تحریر الشام القوات الکردیة الربیع العربی القاعدة فـی فـی العراق فـی سوریا من ترکیا ینبغی أن فـی دمشق من قبیل من خلال لا تزال فـی هذا ما کان ما بعد إلى حد إلى أن
إقرأ أيضاً:
مقتل قائد عسكري وفرار 178 ألف شخص مع اقتراب متمردي حركة إم23 من مدينة غوما في شرق الكونغو الديمقراطية
يناير 24, 2025آخر تحديث: يناير 24, 2025
المستقلة/- توفي الحاكم العسكري لإقليم شمال كيفو في جمهورية الكونغو الديمقراطية متأثراً بإصابات تعرض لها خلال قتال الجيش ضد جماعة إم23 المتمردة أثناء تقدمها نحو مدينة غوما.
أفادت مصادر حكومية وأممية لوكالات أنباء مختلفة أن اللواء بيتر سيريموامي نكوبا، الذي قاد الإقليم منذ عام 2023، توفي بعد إطلاق النار عليه بالقرب من خط المواجهة يوم الخميس.
لا تزال الظروف المحيطة بوفاته غير واضحة، لكن سيريموامي، الذي قاد عمليات الجيش في الإقليم، كان يزور القوات في كاسانجيزي، على بعد حوالي ثمانية أميال من غوما، عاصمة الإقليم الشمالي لإقليم كيفو.
تشرد أكثر من 178 ألف شخص في الأسبوعين الماضيين وحدهما مع اكتساب إم23 مساحات شاسعة من الأراضي في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. واشتبكت يوم الجمعة مع الجيش خارج غوما. وحثت المملكة المتحدة والولايات المتحدة وفرنسا المواطنين على مغادرة المدينة، محذرة من أن الوضع قد يتدهور بسرعة.
وفي وقت متأخر من يوم الجمعة، قالت بعثة الأمم المتحدة في جمهورية الكونغو الديمقراطية (مونوسكو) إن قوات حفظ السلام التابعة لها تخوض قتالاً “مكثفاً” ضد قوات حركة 23 مارس/آذار.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، استولى المتمردون على بلدات مينوفا وكاتالي وماسيسي. وفي يوم الثلاثاء، سيطروا على مينوفا، وهي مركز تجاري حيوي لمدينة جوما على بعد حوالي 30 ميلاً من المدينة. وبعد يومين، استولوا على ساكي، وهي بلدة تبعد حوالي 15 ميلاً عن جوما.
وقد تسبب التقدم في حالة من الذعر في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، حيث سُمع دوي انفجارات في ضواحي غوما، وتم نقل مئات المدنيين الجرحى إلى المستشفى الرئيسي من منطقة القتال يوم الخميس.
ووصل آلاف النازحين إلى ضواحي غوما أثناء فرارهم من تقدم المتمردين.
وتقوم طائرات الهليكوبتر الكونغولية بالطيران على ارتفاع منخفض فوق السهول لإطلاق وابل من الصواريخ، وتوجهت القوات نحو خط المواجهة لوقف المتمردين. ومرّت شاحنات محملة بالجنود والمدافع، وتبعتها دبابة سوفييتية.
فر العديد من سكان ساكي من تقدم حركة إم23. وفر الآلاف من الناس من القتال بالقوارب يوم الأربعاء، وشقوا طريقهم شمالاً عبر بحيرة كيفو وخرجوا من قوارب خشبية مكتظة في غوما، وكان بعضهم يحمل حزمًا من أمتعتهم على رؤوسهم.
وقالت نيما ماتوندو إنها فرت من ساكي أثناء الليل، عندما بدأت الانفجارات الأولى. وروت كيف رأت الناس من حولها ممزقين إلى أشلاء ومقتولين. وقالت ماتوندو: “لقد هربنا، ولكن للأسف لم يتمكن آخرون من ذلك”.
كانت مريم ناسيبو، التي فرت من ساكي مع أطفالها الثلاثة، تبكي – فقد أحد أطفالها ساقه، بسبب القصف. وقالت: “بينما واصلت الفرار، سقطت قنبلة أخرى أمامي، فأصابت طفلي”.
وخلق القتال المستمر منذ عقود بين الجيوش الإقليمية والمتمردين في جمهورية الكونغو الديمقراطية واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم، حيث قُتل حوالي 6 ملايين شخص منذ عام 1998 ونزح أكثر من 7 ملايين داخليًا.
حركة إم23، التي تتألف من التوتسي الذين تركوا الجيش الكونغولي منذ أكثر من 10 سنوات، هي واحدة من أكثر من 100 جماعة مسلحة تقاتل ضد القوات الكونغولية في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية الغني بالمعادن. ويبلغ عدد مقاتلي الجماعة أكثر من 8000 مقاتل، وفقًا للأمم المتحدة.
وتقول الأمم المتحدة إنها تسيطر على روبايا، وهي منطقة رئيسية لتعدين الكولتان والتي تجلب لها 800 ألف دولار شهريًا كضرائب لإنتاج وتجارة المعدن.
وتتهم جمهورية الكونغو الديمقراطية والولايات المتحدة والأمم المتحدة رواندا المجاورة بدعم حركة إم23. كانت حكومة رواندا قد أنكرت هذا لفترة طويلة، لكنها قالت العام الماضي إنها لديها قوات وأنظمة صواريخ في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية لحماية أمنها، مشيرة إلى حشد القوات الكونغولية بالقرب من الحدود.
في يوليو/تموز، قال خبراء الأمم المتحدة في تقرير إن 3000 إلى 4000 من قوات الحكومة الرواندية تعمل مع حركة إم23 في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية. وقال الخبراء إن “السيطرة الفعلية للقوات الرواندية وتوجيهها لعمليات إم23 تجعل رواندا مسؤولة عن تصرفات إم23”.
استولت حركة إم23 على غوما لمدة 10 أيام في عام 2012 لكنها انسحبت بعد أن أوقف المانحون الدوليون المساعدات لرواندا بسبب دعمها للجماعة المتمردة.
أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش يوم الخميس عن قلقه إزاء تقدم المتمردين. وقال في بيان إن تقدم حركة إم23 كان له ثمن مدمر على السكان المدنيين وزاد من خطر اندلاع حرب إقليمية أوسع نطاقا. وقال البيان: “يدعو الأمين العام حركة إم23 إلى وقف هجومها على الفور”.
ودعا غوتيريش جميع أطراف الصراع إلى احترام سيادة جمهورية الكونغو الديمقراطية وسلامة أراضيها و”وضع حد لجميع أشكال الدعم للجماعات المسلحة، سواء كانت كونغولية أو أجنبية”.