د. عبد الله الأشعل **
حين نتحدث عن القضاء الدولي يكون نموذج القضاء الداخلي حاضرًا في أذهاننا؛ فالقضاء الوطني للمدعي والمجتمع والمواطن، وتلتزم الحكومة في أي بلد ديمقراطي بتقريب القضاء للمواطن، كما إن أحكام القضاء واجبة الاحترام والتنفيذ وتتكفل السلطة التنفيذية بإنفاذ أحكام القضاء.
غير أننا لاحظنا ظاهرة جديدة في الدول المتخلفة وهي أن الفساد في أجهزة إنفاذ القانون يُعطِّل تنفيذ أحكام القضاء، خاصة في الشق الجنائي.

لكن الدولة في كل الأحوال تستطيع أن تُرضي كل الأطراف بتنفيذ الأحكام؛ لأن عدم التنفيذ يعني ضياع مرفق القضاء بالكامل، فلا يجوز الإنفاق على الدعاوى وإشغال المحامين والقضاء، ومع ذلك تتم بالتضحية بكل الأطراف.
ويجب التمييز بين محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومثول إسرائيل أمام كليهما، فأي المحكمتين أجدى لإشعار إسرائيل بأنها تُساءَل؟
يمكن شرح الموضوع في الملاحظات الآتية:
أولًا: محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي للرئيس ففي الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية تسعى لإنشاء رابطة مع الأمم المتحدة، ولكن لم يتبلور شيء.
ثانيًا: المحكمة الأولى تختص بالفصل فى المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول وحدها، بينما الجنائية الدولية تختص بالفصل في 4 مجموعات من الجرائم وتحاكم مرتكبيها بصفة شخصية، فهي تختص بالأفراد أي المتهم بشخصه، وإنما المحكمة الأولى المتهم فيها بصفته وليس بشخصه.
ثالثًا: محكمة العدل الدولية بعد أن تصدر الحكم، لا يمكن استئنافه، وتنتهي صلة المحكمة بالحكم فور صدوره، عدا طلبات إيضاح الحكم إذا كان مُلتبِسًا أو طُلب تفسير الحكم.
رابعًا: تحريك الدعوى في المحكمة الأولى يتم من خلال الدولة المدعية ويتخذ المسجل فى المحكمة إجراءات رفع الدعوى. أمام الجنائية الدولية فيتم تحريك الدعوى فيها بوسائل 3؛ أولها: مجلس الأمن عن طريق قرار الإحالة إلى المحكمة ويصدر القرار وفقا لأحكام الفصل السابع. وقد أصر الوفد الأمريكي في مؤتمر روما فى يوليو 1998 على إدراج مجلس الأمن فى المادة 13 كأول وسيلة والأمم المتحدة كما ذكرنا. والغريب أن الإحالة إلى المحكمة من جانب مجلس الأمن تعلو على حرية المحكمة في تحديد اختصاصها؛ وهي قاعدة راسخة في القضاء الدولي وهي سلطة للقضاء في تحديد اختصاصه وفق الوثيقة المُنشِئة له.
أما الوسيلة الثانية لتحريك الدعوى هي الدولة العضو، والوسيلة الثالثة هي المدعي العام للمحكمة، وفي هذه الوسيلة يمكن تقديم تقارير إلى المدعي العام، فإذا اقتنع بها بدأ التحقيق الأوّلي بناءً على عرضه للدائرة التمهيدية الأُولى التى يُمكن أن تصدر قرار القبض على المتهم، مثلما حدث مع نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت في إسرائيل. ومن الواضح أن المحكمة الجنائية الدولية فيها مستوى استئناف، وقد قدَّم المُدَّعي العام الإسرائيلي استئنافيْن على قرار القبض على رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
خامسًا: في المحكمة الأولى يتمتع الموظفون الرسميون الأساسيون (بمعنى رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير الخارجية) بالحصانة المطلقة؛ لأن القضية ضد الدولة ورئيس الدولة مسؤول ومتهم بصفته وليس بشخصه، ولذلك يستحيل أن تُوَجِّه محكمة العدل الدولية إلى رئيس وزراء إسرائيل ووزير الدفاع أمرًا بالقبض عليهما؛ لأنهما يتمتعان بالحصانة المطلقة (الحصانة الدبلوماسية وحصانة الدولة).
أما في المحكمة الجنائية الدولية، فإن المادة 27 من "ميثاق روما" تنص على أن الجريمة شخصية والعقوبة شخصية أيضًا، ولذلك وجهت المحكمة أمرًا بالقبض على نتنياهو ووزير الدفاع السابق بعد أن اتهمتهما المحكمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد أكدت المحكمة الأولى مبدأ الحصانة فى عدة أحكام وهذا أمر منطقي.
وهناك فارق بين القضاء الدولي والقضاء الأجنبي، وقد رأينا في القضاء الدولي المدني مبدأ الحصانة المُطلقة؛ حيث يتمتع المسؤولون أنفسهم بالحصانة المطلقة أمام القضاء الأجنبي، فلا تجوز مُحاكمة الدولة أمام القضاء الأجنبي؛ لأن ذلك من نتائج تمتع الدولة بالسيادة والمساواة في السيادة بين الدول صغيرها وكبيرها. أما في القضاء الجنائي؛ فالعقوبة شخصية، وهي تتشابه مع الشريعة الإسلامية في كون العقوبة شخصية، مصداقًا لقوله تعالى "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (فاطر: 18)، وقوله تعالى "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" (الإسراء: 13)، وهذا المبدأ يتَّسمُ بالعدل في المسائل الجنائية في العالم كله؛ سواءً في القضاء الدولي الجنائي أو القضاء الجنائي الداخلي داخل الدول، وهناك مجموعة من المبادئ التى تضمن عدالة المحاكمة في المسائل الحمائية، أهمها مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلّا بنصٍ، وأيضًا في أحكام الإعدام باعتبارها بترًا للمتهم الجاني من المجتمع ومن الحياة، ويلزم إجماع أعضاء المحكمة الجنائية في الجنايات، أما في الجنح، فإن الوضع مختلف .
أما جدوى مثول إسرائيل أما القضاء الدولي بنوعيه، بصرف النظر عن أن القضاء الدولي في بيئة دولية لا يتضمن آليات إلزامية سوى النصوص، فإن قيمة الأحكام القضائية الدولية معنوية في الاساس، لكن يبدو أن الدول أعضاء المحكمة الجنائية الدولية مُلزمون في "ميثاق روما " بتسليم المتهم الصادر بحقه أمر القبض، قد تطور، والدليل على ذلك أنه عندما صدر أمر القبض من الجنائية الدولية على نتنياهو ووزير دفاعه السابق، أعلنت عدة دول أعضاء ومنها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، عزمها القبض عليهما فور وصول أيٍِ منهما إلى أراضي الدولة لأي سبب. 
وتطبيقًا لذلك، فإن نتنياهو اعتذر عن تلبية دعوى لزيارة هولندا، مخافة القبض عليه خلال الزيارة. ونلاحظ أن القبض يتم؛ سواءً كانت زيارة شخصية أو كانت زيارة دولة رسمية، وقد أصدر القاضي البريطاني قرارًا بالقبض على تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل سابقًا، خلال زيارتها لبريطانيا، لكن الحكومة البريطانية ساعدت الضيفة على الهرب من الأبواب الخلفية، وهذا يمثل مخالفةً من الحكومة لأحكام القضاء البريطاني. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية، قال وينستون تشرشل رئيس الوزراء آنذاك، إن "لندن سُوِّيَت بالأرض، ولكنَّ الأمل كبير في سلامة بريطانيا ما دام القضاء البريطاني مُستقلًا".
ونلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية تُسهِّل لإسرائيل الإفلات من العقاب، ومع ذلك تحرص إسرائيل على الرد بحجج تافهة على المحكمة الجنائية الدولية. وفي الأسبوع الثاني من ديسمبر 2024، قدم المدعي الاسرائيلي طعنًا على قرار الجنائية الدولية بالقبض على رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق، وهذا الطعن عبارة عن استئنافين، وقد سبق أشرنا إلى أن من الفوارق بين الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، أن الأولى بها استئناف للأحكام التمهيدية، ومعنى ذلك أن إسرائيل شديدة الاهتمام بما صدر عن المحكمة، رغم أنها ليست طرفًا في "ميثاق روما". وفى شهر نوفمبر 2024، أصدر مجلس النواب الأمريكي قانونًا بمعاقبة المدعي العام وأعضاء المحكمة الجنائية الدولية، إن هم أقدموا على إصدار أمر الاعتقال، لكن المحكمة تحدَّت الولايات المتحدة. 
بقي أن نرى ماذا سيفعل الرئيس المنتخب دونالد ترامب عندما يتولى السلطة رسميًا في 20 يناير المقبل، وهو الذي تعهَّد بحماية إسرائيل وإقامة "إسرائيل الكبرى"!
** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا
 

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

كلمات دلالية: المحکمة الجنائیة الدولیة محکمة العدل الدولیة المحکمة الأولى القضاء الدولی أحکام القضاء رئیس الوزراء ووزیر الدفاع القبض على فی القضاء قرار ا

إقرأ أيضاً:

العدالة .. ركيزة الاستقرار والتنمية

لا يمكن تصور أي استقرار في أي مكان بمعزل عن العدل، والعدل هو أساس الحكم، وأحد أهم أسس بقاء الدول ورخائها يتمثل في العدل إن لم يكن هو السبب الأساسي وما يأتي بعده هو نتيجة عنه.

وقد جاء تأكيد حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - على أهمية تحقيق العدالة الناجزة وترسيخ سيادة القانون خلال ترؤسه اجتماع المجلس الأعلى للقضاء ليجدد التزام عُمان بمبدأ العدالة بوصفه أساسا لكل تقدم وازدهار.

إن التوجيهات السامية بتحديث منظومة العدالة بما يتواكب مع متطلبات العصر، وتسريع إجراءات التقاضي، وتطوير البنية الرقمية للقطاع القضائي، تعكس «رؤية عُمان 2040» التي تسعى إلى بناء دولة مؤسسات حديثة، يكون فيها القضاء المستقل والعادل ضمانة لحماية الحقوق وتحقيق التنمية. فالعدالة ضرورة تمس حياة الأفراد والمؤسسات، وتؤثر بشكل مباشر في تعزيز الثقة بالدولة، وجذب الاستثمارات، وترسيخ الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي.

وأثبتت تجارب الدول المختلفة أن لا تقدم في أي مجتمع دون قضاء قوي ومستقل يضمن حماية الحقوق، ويسهم في تحقيق التوازن بين مختلف المكونات داخل إطار الدولة.. لذا، فإن إشادة جلالة السلطان بالتطور الذي شهده مرفق القضاء في عُمان، وملامسته لتطلعات المواطنين والمقيمين والمستثمرين، تؤكد أن العدالة من شأنها أن تؤثر على كل حراك في الدولة بما في ذلك الاستثمار وبناء الصورة الذهنية الدولية عن أي دولة فكلما كانت الدولة عادلة مع شعبها ومع المقيمين فيها وملتزمة بما تلزم نفسها به كانت صورتها أكثر نصاعة وتستطيع جلب استثمارات دولية كبرى.

لقد أكد جلالة السلطان - أبقاه الله - على ضرورة تسريع إجراءات التقاضي وتقليل المدد الزمنية للفصل في القضايا، وهي خطوة ضرورية لضمان عدم تعطيل حقوق الأفراد والمؤسسات، لذلك فإن تطوير البنية الرقمية في القطاع القضائي يعزز من كفاءة الأداء، ويسهم في تقديم خدمات عدلية أكثر فاعلية وشفافية.

وفي خطوة أخرى تعكس الرؤية المستقبلية لجلالة السلطان المعظم، جاءت التوجيهات السامية باستكمال إجراءات إنشاء محكمة الاستثمار والتجارة، التي ستكون إضافة نوعية للنظام القضائي العُماني. فوجود قضاء متخصص في النزاعات التجارية والاستثمارية يعزز من ثقة المستثمرين، ويسهم في إيجاد بيئة استثمارية جاذبة تضمن حقوق الأطراف كافة، مما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني.

إن اهتمام جلالة السلطان بتكثيف برامج التدريب والتأهيل للقضاة وأعضاء الادعاء العام يعكس إدراكه لأهمية بناء كفاءات قضائية قادرة على مواكبة التطورات القانونية والتكنولوجية. فالعدالة لا تُحقق فقط عبر القوانين، بل أيضًا من خلال قضاة مؤهلين يتمتعون بالكفاءة والنزاهة.

إن تأكيد جلالة السلطان المعظم على استقلالية القضاء، ودعمه الكامل لترسيخ سيادة القانون رسالة واضحة تعيد تأكيد أن العدالة في عُمان منهج حكم وأساس للتنمية والاستقرار.

مقالات مشابهة

  • "الجنائية الدولية" تطالب السلطات السودانية بتسليم البشير
  • العدالة .. ركيزة الاستقرار والتنمية
  • قرار عاجل من المحكمة بشأن العلاوات الخمسة لأصحاب المعاشات
  • بحكم القضاء| أسباب إلغاء قرار وزير التربية والتعليم الخاص بالمدارس الدولية
  • وكالة: “الجنائية الدولية” تمتلك أدلة على مقتل نحو 34 سجينًا بسجن معيتيقة بتوجيه من أسامة نجيم
  • لماذا قضت القضاء الإدارى بإلغاء قرار إضافة مواد اللغة العربية والتاريخ بالمدارس الدولية؟
  • تفاصيل إلغاء قرار إضافة اللغة العربية والتاريخ للمجموع في المدارس الدولية.. فيديو
  • القانونية النيابية:حسم الجدل بشأن إقرار القوانين الجدلية من اختصاص المحكمة الاتحادية
  • ميلوني تدافع عن ترحيل مسؤول ليبي مطلوب من الجنائية الدولية
  • الجنائية الدولية تتخذ تدابير لحماية موظفيها من العقوبات الأمريكية