رسائل.. لمن لا يسمع!
تاريخ النشر: 25th, December 2024 GMT
سلطان بن محمد القاسمي
كيف تبدو الحياة عندما نتوقف للحظة ونسأل أنفسنا: ما الذي تركناه في قلوب من نحب؟ هل كانت كلماتنا رسائل تصل إليهم بصدق؟ أم أن زحمة الأيام جعلتنا نؤجل ما يجب أن يُقال؟ في كل علاقة تجمعنا مع من حولنا، هناك أشياء تُقال وأخرى تُترك طي الكتمان، لكنها تظل معلقة في فضاء الروح، تنتظر منا الشجاعة لننطق بها.
وبينما تمضي الأيام، تتراكم الرسائل التي أردنا أن نعبر بها عن أنفسنا، رسائل مليئة بالحب والعتب، بالامتنان والحكمة، لكنها تجد نفسها بين أيدينا دون أن تجد وجهتها الصحيحة. وهكذا، الرسالة الأولى هي رسالة للروح التي حملتنا في دروب الحياة. لكل من أهمل نفسه وأرهقها بالركض خلف الآخرين، حان الوقت لتسمع روحك. توقَّف للحظة، وأصغِ لصوتها العميق. خذ منها درسًا عن قيمة السكون، عن جمال التوازن، وعن أهمية أن تعطي لنفسك بقدر ما تعطي للآخرين. وأيضا الروح ليست مجرد وعاء يحملنا، بل هي محور حياتنا، وإذا أهملناها، فإن كل شيء سيتداعى من حولنا.
أما الرسالة الثانية، فهي لكل من يجهل قيمته الحقيقية. كم من مرة أسرفت في التقليل من نفسك؟ كم مرة شعرت أنك لست كافيًا؟ الحقيقة أن الله خلقك فريدًا، وأن قيمتك ليست فيما تراه في عيون الآخرين، بل في عينيك أنت. تذكّر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" (رواه مسلم). اعرف قلبك، وأحب نفسك، لأنك تستحق ذلك الحب. لا تقارن نفسك بغيرك، فلكل شخص رحلته الخاصة، ولكل طريقه قيمته.
ومن القلب، أرسل رسالة لمن يصارع الحزن بصمت. أنت لست وحدك؛ فالحزن جزء من إنسانيتنا، لكنه لا يجب أن يكون السجن الذي نحكم به على أنفسنا. اسمح للنور أن يدخل عبر الشقوق، اسمح للحب أن يداوي جراحك، واستعن بالله الذي وعدنا بأن "مع العسر يسرًا". لا تخجل من ضعفك؛ فالضعف ليس عيبًا؛ بل هو أولى خطوات القوة.
وإلى أمي، أعلم أن الكلمات لن تفيكِ حقك، لكن اسمحي لي أن أحاول. فأنا أكتب هذه الرسالة بامتنان لا ينضب لكل لحظة سهرتِ فيها على راحتي، لكل دعاء رفعتهِ في جوف الليل لأجلي، ولكل ابتسامة منحتني الأمان. أنتِ الحنان الذي يضيء عتمة الأيام، والحب الذي لا يتغير مهما فعلت. دعواتك هي الحصن الذي أحتمي به، وصبرك هو الدرس الذي أتعلمه كل يوم. أمي، أنتِ المرفأ الذي يعود إليه القلب دائمًا، والمصدر الذي لا ينضب من القوة. يقول الله تعالى: "وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا" (الإسراء: 23). أسأل الله أن يرحمكِ أنتِ وأبي رحمة واسعة، وأن يجعل قبركما روضةً من رياض الجنة، ويجعل دعواتكما وبركاتكما نورًا يُنير لي دروب الحياة، ويرزقني بركما في الحياة وبعد الممات.
وهناك رسالة لكل والدٍ حمل أثقال الحياة ليمنح أبناءه الأمان. قد لا تُقال الكلمات، لكن قلوبنا ممتلئة بامتنانٍ لا حدود له. فكل لحظة من وقتك، وكل قطرة من جهدك، تُنبت في حياتنا بذور النجاح والفرح. وستظل دائمًا السند الذي نستند عليه، والجذر الذي يربطنا بالأرض. إليك أيها الأب، هذا الامتنان الذي قد لا نبوح به كثيرًا، لكنه حاضر في كل خطوة نخطوها نحو أحلامنا.
ولأخي العزيز، أنت الشريك الأول في الذكريات، والرفيق الذي لا يعوض. قد لا نعبر بالكلام كثيرًا، لكن رابطة الدم التي تجمعنا أعمق من كل الكلمات. شكرًا لأنك كنت دائمًا حاضرًا، تشاركنا الضحكات وتخفف عنا الأوجاع. أنت الحصن الذي أعود إليه حين تشتد الأيام، والأمان الذي لا يتغير.
ولأختي الحبيبة، لكِ رسالة خاصة تحمل كل الامتنان. أنتِ الحضن الدافئ الذي أجد فيه الراحة، والروح التي تبعث في حياتي البهجة. كلماتك اللطيفة ودعمك المتواصل هما النور الذي ينير لي الطريق في أصعب الأوقات. شكرًا لأنكِ دائمًا كنتِ القلب الكبير الذي يحتوي كل شيء.
أما للزوجة، شريكة العمر والروح، أنتِ النعمة التي أغدقها الله عليّ. كل لحظة نقضيها معًا هي صفحة جديدة تُكتب بحب وصبر. شكرًا لأنكِ كنتِ السند في لحظات ضعفي، والشريكة في كل إنجاز. وجودك بجانبي يجعل كل الصعوبات هينة، وكل الأحلام ممكنة.
أما الرسالة للأبناء، فهي دعوة للتأمل في كل لحظة تمضيها مع والديك. لا تنتظر الزمن ليجعلك تدرك قيمتهم، فكل يوم هو فرصة لتعبّر عن حبك وامتنانك لهم. الحياة قصيرة، والعلاقة مع الوالدين هي أعظم استثمار عاطفي يمكن أن تقوم به. لا تدع انشغالك بالأمور الصغيرة يبعدك عن أكبر النعم في حياتك.
والرسالة التالية هي لكل صديق غاب دون وداع. لقد كنا ننتظرك، وقلوبنا ملأى بأسئلة لا تنتهي. كنت الحاضر في تفاصيلنا، واليوم، نحن نحمل عبء غيابك. لكننا أيضًا نتعلم، نتعلم أن الحاضرون حقًا لا يغيبون أبدًا، وأن الذين يتركون بصمة في حياتنا، يظلون جزءًا منها حتى لو تاهوا عن دروبنا. لا تعتقد أن الصمت يغفر دائمًا؛ في بعض الأحيان، كلمة واحدة قادرة على إعادة بناء جسر العلاقات.
وفي ختام رسائلي، أهمسُ لمن يقرأ هذه الكلمات: إننا نعيش في عالم مزدحم بالصخب، بالكلمات التي تُقال دون أن تُفهم، وبالمشاعر التي تضيع وسط الزحام. لكنك تستطيع أن تكون مختلفًا، أن تكون من يسمع ويرى، من يترك بصمة لا تُمحى في حياة الآخرين. فرسائل القلب تصل عندما تصدق، وعندما تعبر عن جوهرنا الحقيقي.
وسِّع عقلك لتدرك أنَّ الحياة ليست فقط ما نأخذه؛ بل ما نُعطيه. وكُنْ أنت البداية لرسائل جديدة تحمل الأمل، تُضيء القلوب، وتصل حتى لمن لا يسمع.
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: الذی لا کل لحظة دائم ا التی ت
إقرأ أيضاً:
ما سبب ترتيب آيات القرآن الكريم؟ ومن الذي رتبها؟
فقد وصف الله تعالى القرآن الكريم بقوله "وإنه في أم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم"، والحكمة كما يقول الأستاذ في جامعة الأزهر الدكتور محمد الخطيب هي وضع كل شيء في موضعه.
ويدل وصف "عليٌّ" على أن كل آية من آيات القرآن قد نزلت في موقعها المحدد الذي لا يصح لها موضع غيره وأن هذا الترتيب لا دخل لأحد فيه لأنه جاء من قبل الله عز وجل، كما يقول الخطيب في الحلقة التي يمكن مشاهدتها في هذا الرابط.
ووفقا للخطيب، فإن هناك ما يعرف بـ"علم المناسبات" الذي يبحث أسباب وضع آيات القرآن في مواضعها والحكمة من ترتيبها على نحو لا يمكن الإخلال به دون الإخلال بالمعنى.
صلاح العبادة من صلاح العمل
ففي سورة البقرة على سبيل المثال، جاءت آية "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين" بين آيات تتناول قضية الطلاق وموت الأزواج والوصية، وهو سياق يبدو منفصلا عن الصلاة.
وقال الخطيب إن علماء توقفوا عند هذه الآية ولم يفهموا سبب الإتيان بها في هذا الموضع، ومنهم الشيخ سيد قطب الذي أورد في "ظلال القرآن" أنه لم يعرف سببا لموضع هذه الآية تحديدا.
والسبب في هذا -كما يقول الخطيب- أن الناس يعتقدون أن الحياة عبارة عن معاملات وعبادة بينما هي عبادة فقط، فمن لم يقم بمعاملاته على النحو المطلوب فسدت عبادته.
إعلانلذلك، فقد خلص قطب في سبب موضع هذه الآية إلى أن كثيرا من الرجال يعتادون المساجد ويحافظون على الصلوات، لكنهم يسيئون معاملة زوجاتهم وأولادهم والمجتمع المحيط بهم على نحو يفقد هذه الصلاة معناها، حسب الخطيب.
ولأن الصلاة هي العبادة الأهم في حياة المسلم، فقد قرنها الله تعالى في هذه الآية بحسن المعاملة مع الزوجة والانصياع لما أمر به في هذه العلاقة تحديدا لأنها أهم العلاقات في حياة الإنسان، وفق تعبير الخطيب.
ربط الصلاة بحقوق الغير
وبناء على هذه النظرة، فإن المقصود من هذه الآية في هذا الموضع أن الحفاظ على حقوق الأسرة والزوج لا يقل أهمية عن علاقة المسلم بربه من خلال الصلاة، وأن من يفرط في الأولى لن يستقيم في الثانية.
والأمر نفسه في سورة الماعون التي يتحدث فيها الله عن معاملة اليتيم والمسكين ثم ينتقل فجأة إلى الساهين عن الصلاة، وهو انتقال مرده -وفق الخطيب- أن الصلاة هي التي تدفع الإنسان لحسن معاملة اليتيم والمسكين، ومن ثم فإن من لم يقم بهذين الأمرين يعتبر ساهيا عن صلاته وإن أدَّاها لأنه غفل عن معناها.
ومن هنا، يقول الخطيب إن قبول الصلاة مقرون بشروط صحتها المعنوية المتعلق بالالتزام بأوامرها ونواهيها وليس فقط بشروطها المادية من طهارة ونية واستقبال للقبلة، وهو ما جعل الصلاة في هاتين الآيتين مقرونة بحقوق الزوجات واليتامى والمساكين.
ومن المواضع اللافتة للآيات في القرآن، موضع قوله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم ترحمون، واتقوا النار التي أعدت للكافرين، وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين" في سورة آل عمران، والذي جاء بين حديث عن معركة بدر وآخر عن معركة أحد.
ويأتي موضع هذه الآيات على هذا النحو، وفق الخطيب، ليؤكد أن حياة المسلم كلها عبادة، وليست معاملة وعبادة، لأن المعاملات جزء من العبادة وليست مسألة مستقلة عنها.
إعلانلذلك، فإن المقصود من الآية السابقة -برأي الخطيب- أن من يهزم أخلاقيا سيهزم عسكريا لا محالة، وهو ما حدث للمسلمين في غزوة أحد عندما خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وهم الذين انتصروا نصرا مؤزرا قبلها في غزوة بدر عندما لم يخالفوه.
وبناء على هذا، فإن الحديث عن الربا في هذا الموضع مرده إلى أن الانتصار في معركة المال لا يقل أهمية عن الانتصار في الحرب لأن حب المال واحدا من أشد المعارك التي يخوضها المسلم بحثا عن الحلال وتجنبا للحرام على سهولته، كما يقول الخطيب.
26/3/2025-|آخر تحديث: 26/3/202505:20 م (توقيت مكة)