سوق شاطئ الحافة التراثي.. تجسيدٌ حيٌ للأصالة والمعاصرة (2- 2)
تاريخ النشر: 25th, December 2024 GMT
خالد بن سعد الشنفري
كان السوق يتألف من 3 سُبَل رئيسية: واحدة خصصت للأسماك ومشتقاتها، الثانية للخضار والفواكه، والثالثة للحوم، وفي ستينيات القرن الماضي- كما أتذكر- كان يتم ذبح بقرة واحدة يوميًا لتلبية احتياجات النَّاس، وكانت اللحوم تُقسَّم إلى أكوام صغيرة لتسهيل الشراء، خاصةً في ظل عدم وجود ثلاجات. وفي أيام الجمعة، كان يُذبح بقرتان أو أكثر.
تعود تسمية "ماركيت الحافة" إلى الجنود البريطانيين العاملين في القاعدة الجوية بصلالة، الذين كانوا ينطقون كلمة "Market" بالإنجليزية؛ ما أدى إلى انتشار هذا الاسم في خمسينيات وستينيات وبدايات السبعينيات من القرن الماضي، مع العديد من التسميات والجمل المترجمة حرفيًا من الإنجليزية إلى العربية... (أشرت إلى ذلك بتوسع في قصة الرعاة الصغار من كتابي البطران الذي صدر عام 2022).
كانت سبل السوق الثلاث مسقوفة بجزوم وسعف نخيل النارجيل، ترتكز على قوائم خشبية من بساتين النارجيل المحيطة بالسوق من الجنوب والشرق، والتي تمتلكها عوائل كريمة من أبناء الحافة، مثل عوائل التميمي، بن عبيد، ومقيبل. وكان يُطلق على الأطعمة التي تُباع بهذا السوق مصطلح قديم يُعرف بـ"الخصار"، وهي كلمة دارجة ظفارية تُشير إلى المواد الغذائية الثلاثة الرئيسية التي كانت تُباع فيه: الأسماك، اللحوم، والخضار. كان السوق بسيطًا ويفتح أبوابه من الصباح حتى صلاة الظهر؛ حيث كان الناس يشترون احتياجاتهم اليومية من الغذاء الطازج.
وفي عام 1986، وكجزء من مشاريع الخطة الخمسية الثالثة، قامت بلدية ظفار بإنشاء سوق صغير في جزء صغير من أرض سوق ماركيت الحافة القديم، لإقامة سوق حكومي جديد وسمي عند افتتاحه بسوق البلدية خصص لبيع اللبان والبخور الظفاري الشهير وذلك تزامنًا مع بدايات مواسم الخريف السياحية.
هذه الشهادات والمعلومات، هي نماذج ندرك من خلالها أن الحافة كانت ولا تزال مركزًا حيويًا للتجارة والثقافة على مر العصور؛ إذ تمثل الحافة رمزًا لتراث ظفار العريق وتاريخها الغني، كونها مركزًا تجاريًا مُهمًا وميناءً رئيسًا ومنطقة ذات أهمية استراتيجية تمتد عبر العصور.
هنا، أودُ أن أوجه كلمة لبعض زملائي الكتّاب من أبناء المحافظة، خاصةً لمن يرون في الكتابة فرصة للشهرة أو لإشباع غرض شخصي دون التحقق من المصداقية. أقول لهم: اتقوا الله في أنفسكم وفي قرّائكم من جميع الأطياف والمستويات. فالكتابة في مثل هذه الموضوعات تتطلب منّا الدقة والبحث العميق، فهي ليست مجرد خواطر عابرة؛ بل مسؤولية عظيمة. لذا، نُشدد على ضرورة الالتزام بالمصداقية التاريخية والمسميات التاريخية، لضمان توثيق موروثنا الثقافي بأمانة ودقة واحترام.
الكتابة بدون تمحيص وبحث قد تؤدِّي إلى نشر معلومات مغلوطة، وتكون عواقبها وخيمة على المجتمع المتآلف الذي نسعى جميعًا لبنائه وتعزيزه، وعلى الجميع ألّا يدع الأهداف الشخصية والتطلعات الخاصة، تسيطر على ما يكتبونه؛ فالحقيقة والمصداقية هما الأساس.. اللهم إنّي قد بلّغت.. اللهم فاشهد!
عمومًا.. لن أتوسَّع أكثر من ذلك في حديثي عن السوق قديمًا ونكتفي بهذا القدر.
والآن، قد يتساءل البعض عن التكهنات والتساؤلات التي أشرنا إليها في بداية مقالنا في الجزء الأول منه، خاصةً مع متابعة معظم أبناء محافظة ظفار لموضوع أكشاك اللبان والبخور في السوق الحكومي.
ويأتي هذا التساؤل تزامنًا مع الانتهاء من إنجاز مشروع سوق شاطئ الحافة التراثي الجديد، الذي أسس كبديل لسوق الحافة وبعد قرب أوان إزالتها بالفعل، فقد تم الإنذار بالإزالة قبل موسم خريف 2025، ومن ثم أعطيت مهلة أخرى إلى ما بعد انتهاء الموسم.
الإشكال هنا يتعلق بمبلغ الإيجار للأكشاك في السوق الجديد. الأكشاك الحالية التي أقامتها بلدية ظفار عام 1986 كانت بتكلفة متواضعة جدًا وتؤجر بمبلغ رمزي قدره 20 ريالًا شهريًا. في المقابل، وبما يدل على الكفاية التقديرية في الدراسة المالية المعدة مسبقا للسوق الجديد؛ إذ جُهِّزَ سوق شاطئ الحافة التراثي الجديد بـ60 دكانًا صغيرًا كبديل لمحلات اللبان والبخور، تتساوى تقريبًا في العدد والحجم والنمط، ولكن بفخامة وجودة أعلى ما يجعل تكلفة الإيجار أعلى بالتأكيد.
ونأمل أن يتوصل الجميع إلى توافق سريع ومرضٍ للطرفين. من ناحية، السوق الجديد وما استثمر فيه من مبالغ طائلة وعلى أعلى المواصفات والجودة يستحق رفع قيمته التأجيرية. ومن ناحية أخرى، فإنَّ مستأجري الأكشاك القديمة من العُمانيين قد استفادوا منها على مدى أكثر من 30 سنة سابقة وبعضهم لا يدير الأكشاك بنفسه؛ بل يؤجرها من الباطن بمبالغ أعلى بأضعاف مضاعفة من مبلغ الـ 20 ريالا شهريا.
لدينا كامل الثقة في أن المسؤولين ببلدية ظفار ومكتب سمو السيد المحافظ وشركة أساس الحكومية المستثمرة لسوق شاطئ الحافة سيجدون مخرجًا وحلًا يحقق التوفيق بين الطرفين دون ضرر أو ضرار، لما فيه الصالح العام. كما نؤمن أن الحلول المستقبلية ستساهم في تطوير وتحديث البنية التحتية للأسواق، مع الحفاظ على التراث العريق لظفار.
أخيرًا، ونحن بصدد أسواقنا التراثية، يجب الإشارة إلى فئة أخرى من إخوتنا بائعي التراث المادي من أسلحة عتيقة وتقليدية وسكاكين وجنابي وسيوف وعصي زينة الرجال ومواد تراثية أخرى لم يلتفت لهم. هؤلاء الباعة يستحقون التقدير والاحترام؛ لأنهم منذ ساعات الصباح الباكر يفترشون ظل بعض البيوت بالحافة حتى تتوسط عليهم شمس الظهيرة لينفروا مُغادرين لموقع آخر.
ويجب على السوق الجديد احتضان هؤلاء الباعة من خلال توفير أماكن مناسبة لهم لعرض بضائعهم الثمينة. موقعهم المثالي يجب أن يكون في أحد محاور السوق الجديد، ليتمكنوا من جذب الزوار والمشترين بمنتجاتهم الفريدة التي تمثل أصالة التراث والثقافة العُمانية.
ونناشد هنا الجهات المسؤولة- سواءً شركة أساس المُستثمرة في السوق أو بلدية ظفار- أن تتعامل برأفة، وتوفر أماكن بالتساوي لكل من يُتاجر بالموروث ويُباشره بنفسه ومع عائلته، وأن تكون لهم الأولوية بأسعار معقولة في السوق الجديد، ولو في السنوات الأولى، وقطع دابر التجارة المستترة في هذه الأنشطة اللصيقة بموروثنا وخصوصيتنا، لأن مثل هذه الإجراءات ستُثري السوق عمومًا وتُسهم في ترويج السياحة بشكل أفضل.
وختامًا.. نتطلعُ لمستقبل مُشرق يُحقق التوازن بين تطوير البنية الأساسية والحفاظ على التراث العريق؛ بما يخدم الجميع ويُعزِّز من جمال وروعة محافظة ظفار بما يتماشى مع مُستهدفات رؤية "عُمان 2040".
رابط مختصر
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
كلمات دلالية: السوق الجدید فی السوق
إقرأ أيضاً:
الكشف عن تفاصيل مهمة حول قطعة أثرية ذهبية نادرة وتحولها لملكية شخصية لدبلوماسي ألماني
كشفت الهيئة العامة للآثار والمتاحف عن تفاصيل مهمة حول قطعة أثرية ذهبية يمنية نادرة، وتحولها لملكية شخصية لدبلوماسي ألماني.
وذكرت الهيئة في بيان لها أن قصة القطعة تعود الى أواخر التسعينيات وأوائل الألفية، عندما ترأس الدكتور بول آلان يول، المتخصص في آثار الشرق الأدنى والدراسات السامية، بعثة أثرية ألمانية إلى ظفار عاصمة مملكة حمير في اليمن بإشراف جامعة هايدلبرغ وقام بتنفيذ أعمال تنقيب في الأعوام 1998 و2000 و2002.
وأوضح البيان أنه خلال أعمال البعثة تم اكتشاف آثار ذات أهمية تاريخية كبيرة، منها مقبرة تعود إلى القرن الثاني الميلادي، ومنصة حجرية تعود إلى القرنين الثالث والخامس الميلاديين، مبيناً أن هذه الاكتشافات أسدلت الستار على جانب مهم من تاريخ مملكة حمير التي كانت إحدى أبرز الممالك في الجزيرة العربية قبل الإسلام.
وأشار إلى أنه تم نشر نتائج أعمال البعثة على موقع الجامعة إلى جانب صور للقطع الأثرية التي عُثر عليها في ظفار، ومن بين تلك القطع، قلادة ذهبية "الملاك المجنح "، تعود إلى حقبة مملكة حمير.
وقال البيان "اللافت أن الموقع يبين أنها جزء من مجموعة فيرنر داوم الدبلوماسي الألماني المعروف باهتمامه بالثقافة اليمنية، ومؤلف كتاب اليمن: 3000 عام من الفن والحضارة في العربية السعيدة".
ولفت إلى أنه على الرغم من تداول معلومات غير دقيقة في مواقع إخبارية عن القطعة من قبل ناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي (مثل زعم أن القطعة تعود إلى مأرب)، فإن معلوماتها المعروضة في موقع جامعة هيدلبرج تظهر أن القلادة الذهبية كانت جزءاً من آثار ظفار الأمر الذي يجعل من وجودها في مجموعة داوم يثير تساؤلات حول كيفية انتقالها من موقعها الأصلي.
وتساءلت الهيئة في بيانها بالقول: هل هناك رابط بين البعثة الأثرية الألمانية التي عملت في ظفار، وفيرنر داوم؟!!
وأضافت: "هذه القضية تفتح الباب لتساؤلات أعمق: هل كانت البعثات الأثرية التي عملت في اليمن ذات أهداف علمية فقط ؟!!".
وأفاد البيان بأن اليمن بتراثه الغني وتاريخه العريق، كان هدفاً للعديد من البعثات الأثرية الدولية في ظل ضعف الرقابة وعدم وجود تشريعات صارمة في بعض الفترات.
في السياق، أوضح رئيس الهيئة العامة للآثار والمتاحف عباد الهيال، لوكالة الانباء اليمنية (سبأ) أن حال الآثار في اليمن كان كحال الدولة اليمنية، فساد وتضييع للاستقلال وخضوع للأجنبي.
وذكر أن فيرنر داوم كان دبلوماسيا شغل منصب نائب رئيس بعثة السفارة الألمانية في صنعاء في السبعينيات.
وأشار الهيال إلى أن هذه قصة من القصص المثيرة للجدل والاهتمام والتي تحيط بانتقال القطع الأثرية اليمنية من مواقعها الأصلية إلى مجموعات خاصة أو متاحف عالمية والتي تعمل الهيئة على سبر غورها .
وكانت الهيئة دعت كل من لديه أي معلومات عن الآثار والمواقع المنهوبة المبادرة بالتواصل معها من خلال صفحات التواصل الاجتماعي أو عبر البريد الإلكتروني: عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.