انعكاسات أزمة تقييد القضاء في إسرائيل على الفلسطينيين
تاريخ النشر: 25th, December 2024 GMT
في سياق ليس بعيدا عن التصدعات الداخلية بالتوازي مع الحرب على غزة التي طالت دون أن تحقق أهدافها، تأتي محاولات حكومة بنيامين نتنياهو لإعادة طرح خطة تقييد القضاء الإسرائيلي لتكشف عن أبعاد جديدة من أزماتها الداخلية المتراكمة.
ويرى معارضو هذه الخطة، التي تهدف إلى الحد من سلطة القضاء وتعزيز هيمنة السلطة التنفيذية، أنها تمثل حلقة جديدة في سلسلة محاولات فرض السيطرة الكاملة على مفاصل الحكم.
حتى الآن، يرى خبراء أن نتنياهو، لم يتمكن من تمرير خطة تقييد القضاء بشكل كامل، إذ لا تزال على طاولة النقاش السياسي في إسرائيل، والتأجيلات المتكررة جاءت نتيجة الاحتجاجات الشعبية والضغوط السياسية الكبيرة، بالإضافة إلى التوترات الداخلية، خاصة في أعقاب هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 المباغت وما تلاه من تبعات أمنية وسياسية.
ولا تنعكس أبعاد خطة التعديلات على الداخل الإسرائيلي وحسب، بل تمتد لتؤثر على السياسات القمعية تجاه الفلسطينيين. ووسط هذا المشهد المتأزم، تبرز تساؤلات حول مدى تأثير هذه الخطة على الاستقرار الداخلي ومستقبل نظام الحكم في كيان يواجه تشكيكا متزايدا في شرعيته الأخلاقية والسياسية داخليا وخارجيا.
يقول الائتلاف الحاكم في إسرائيل إن التعديلات القضائية تهدف إلى إعادة التوازن بين السلطات (الأوروبية) تحول النظام القضائيفي يناير/كانون الثاني 2023 أعلن وزير العدل ياريف ليفين عن خطة تقييد القضاء، وقدم ليفين -وهو عضو في حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو- الخطة كجزء من "إصلاحات قضائية" تهدف، حسب زعمه، إلى إعادة التوازن بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
إعلانوبرر الوزير إعلانه عن الخطة بأنها ستضع حدا لما وصفه بالتجاوزات التي تقوم بها المحكمة العليا وتدخلها في الشؤون التشريعية والتنفيذية، ولتعزيز سيادة الكنيست (البرلمان) باعتباره الممثل المنتخب من الشعب، ومعالجة ما يعتبره هيمنة قضائية على القرارات السياسية في إسرائيل.
في المقابل، يرى المعارضون أن هذه الخطة تأتي لتحقيق مصالح سياسية وشخصية، خاصة مع التحديات القانونية التي يواجهها نتنياهو في قضايا فساد، ما يجعل الخطة وسيلة لتعزيز نفوذ الحكومة وتقليص أي رقابة قانونية قد تعيقها.
وفي 12 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية قرارا يلزم وزير القضاء، ياريف ليفين، بعقد جلسة للجنة تعيين القضاة لاختيار رئيس جديد للمحكمة العليا قبل 16 يناير/كانون الثاني 2025، وذلك بعد امتناع ليفين عن دعوة اللجنة منذ تقاعد القاضية إستر حيوت في 16 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
ردًا على هذا القرار، أعلن ليفين في 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري عن نيته إعادة طرح قانون تغيير تركيبة لجنة تعيين القضاة في الكنيست، بهدف تعديل آلية تعيين القضاة وتوسيع تمثيل السياسيين في اللجنة. يهدف هذا التعديل إلى تقليص دور نقابة المحامين في التعيينات القضائية، مما يتيح للائتلاف الحكومي مزيدًا من السيطرة على تعيين القضاة.
الكاتب والمستشار القانوني، سائد كراجه، يرى أن النظام القضائي لم يعمل كجهة رقابة نزيهة، ولكن تقييده سيزيد من عدم الثقة في القضاء، وسيثير شكوكا حول الوجه "الديمقراطي" الإسرائيلي، على الصعيد الداخلي والدولي، بحسب وصفه.
وعن خطوات تطبيق التعديلات، يقول كراجه في حديثه للجزيرة نت، إنها ستبدأ بتعديل القوانين وتشريع نصوص جديدة، تحد من صلاحيات المحكمة العليا وتمنعها من إلغاء قرارات الحكومة أو الكنيست، وتسمح للحكومة بتعيين القضاة بشكل مباشر بدلًا من الاعتماد على لجنة مستقلة.
إعلانوهذا بدوره -بحسب كراجة- سيجعل التعيينات القضائية مسيّسة، وسيضع قيودا على قدرة القضاء على مراجعة قرارات الكنيست المتعلقة بالقوانين والسياسات الحكومية التي يصدرها نتنياهو، وهذا سيغير الهيكل الإداري للمستشارين في الحكومة.
واللافت أن الخطة لم يقتصر تأثيرها على المجال القضائي فحسب، بل ألقت بظلالها أيضًا على الأوساط العسكرية، إذ هددت مجموعات من ضباط وقادة قوات الاحتياط بالإعلان عن نيتهم الامتناع عن الخدمة إن تم تنفيذ الخطة.
العسكريون عبروا عن استيائهم من تقليص صلاحيات المحكمة العليا، مؤكدين أن هذا التغيير قد يؤثر سلبًا على دور القضاء في مراقبة تصرفات الجيش وضمان احترام حقوق الإنسان، لا سيما في العمليات العسكرية التي تتم في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ويرى الخبراء الذين تحدثت إليهم الجزيرة نت، أن هذه الاحتجاجات تحمل دلالة سياسية أيضًا، حيث يظهر الانقسام الواضح بين السلطة السياسية في إسرائيل والجيش، الذي عادة ما يسعى للبقاء بعيدًا عن السياسة، إلا أن هذه الخطة ستعزز من التدخلات السياسية في الشؤون العسكرية، وتؤثر على استقلالية الجيش في اتخاذ قراراته الأمنية.
يخضع نتنياهو لمحاكمة بتهم تتعلق بتلقي رشاوى واحتيال وسوء استخدام السلطة (رويترز) دوافع شخصيةيواجه نتنياهو منذ سنوات عدة قضايا فساد، تشمل اتهامات بتلقي رشاوى، والاحتيال، وسوء استخدام السلطة. ويعتبر خبراء أن خطة تقييد القضاء قد تكون لها علاقة مباشرة بمحاولاته لتخفيف الضغط القانوني الذي يواجهه.
يتفق كراجة مع هذا الطرح، ويقول إن هذه الخطة ستقلل من قدرة النظام القضائي على محاسبته أو التأثير على مستقبله السياسي المعرض للخطر، مقابل تقوية تحالف اليمين وضمان دعم الأحزاب الدينية واليمينية المتشددة عبر تغيير القوانين بما يتماشى مع أجندتهم، حيث يعمل ذلك على إبراز الاستقرار في حكومته.
إعلانفي حين يرى الأستاذ في العلوم السياسية، بدر الماضي، أن مساعي نتنياهو لتحويل القضاء لأمر ثانوي هي محاولة لتجاوز ما يتهم به من قضايا فساد، وتحسين صورته في الداخل الإسرائيلي من خلال إطالة أمد المحاكمات التي يعلم أنه قد يخسرها، ويريد أن يوصل رسالة للإسرائيليين أن لديه مهمة أكبر من أن يتم تحييده من قبل المؤسسة القضائية.
ويضيف "من هذه النقطة، يلعب نتنياهو على وتر تحييد المحكمة العليا والمؤسسة القضائية لتجنب أي إدانات تبعده عن الحياة السياسية وتؤول به الأمور لشخص فاسد وسارق".
إقالة المستشارة القضائيةولا يمكن الحديث عن خطة تقييد القضاء بمعزل عن مشروع إقالة المستشارة القضائية للحكومة الإسرائيلية، غالي بهاراف ميارا، وهو جزء من الجدل الدائر حول علاقة القضاء مع السلطة التنفيذية في إسرائيل، إذ تتعلق القصة بالخلافات العميقة بين الحكومة الحالية، بقيادة بنيامين نتنياهو، وبين المستشارة القضائية التي تُعتبر من المدافعين عن استقلال القضاء وسيادة القانون.
ويعتبر منصب المستشارة القضائية، الذي تتولاه غالي بهاراف ميارا، أعلى سلطة قانونية تقدم المشورة للحكومة، وتُمثل الدولة قانونيًا في المحاكم. واتخذت بهاراف ميارا مواقف معارضة لبعض سياسات الحكومة، خاصة الإصلاحات القضائية.
انتقدت ميارا في مناسبات عدة محاولات الحكومة للتدخل في القضاء، وحذرت من أن الإصلاحات القضائية قد تُضعف الديمقراطية في إسرائيل، ولعبت دورًا مهمًا في قضايا الفساد التي يواجهها نتنياهو، حيث أصدرت قرارات تتعلق بإجراءات قانونية ضده.
وعلى خلاف موقف الحكومة الإسرائيلية ورئيسها، طالبت ميارا أكثر من مرة بتشكيل لجنة تحقيق رسمية في إخفاق 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وهو ما أثار غضب نتنياهو وحزبه الذين يطالبون بتشكيل لجنة "سياسية" محدودة الصلاحيات.
يعزو الكاتب والخبير القانوني، سائد كراجة، هذا الهجوم على المستشارة بهاراف ميارا إلى سعي التحالف الحكومي لتحييد المعارضة القانونية، معتبرا أن الهجوم على المستشارة القانونية للحكومة يثبت أنها تشكل عقبة في طريقهم للتعديل المنشود في السلطة، حيث رفضت المستشارة عدة مرات في السابق تمثيل الحكومة أمام المحكمة العليا في التماسات قدمت حول قضايا عديدة، بل دعمت أحيانا مواقف مقدمي الالتماسات.
إعلانويقول كراجة إن الادعاء ضد المستشارة بأنها تسعى لإسقاط "حكومة اليمين" بشكل مدروس، يعمل في الواقع كوسيلة لتعبئة أنصار التحالف ضد المؤسسات القانونية، مرجحا أن تستمر محاولات التحالف الحكومي لإقالتها في المستقبل القريب، خصوصا على ضوء التقدم في جلسات محاكمة نتنياهو بتهم الفساد وشهادته القادمة، مع خشية رئيس الحكومة وطاقمه من أن تُقدِم المستشارة القانونية على محاولة الإعلان عن تعذر قيام نتنياهو بمهامه رئيسًا للوزراء في ضوء محاكمته.
القضية الفلسطينيةويتفق الخبراء أن الخطة التي تروج لها الحكومة الإسرائيلية تحمل في طياتها تداعيات خطيرة على مستقبل الفلسطينيين في الداخل، فمن خلال تقليص الرقابة القضائية، ستتمتع الحكومة الإسرائيلية بحرية أكبر لتمرير سياسات استيطانية توسعية في الضفة الغربية والقدس، مما يهدد بتكريس الاحتلال وتعميق المعاناة الفلسطينية.
ويرى المحلل السياسي المختص في الشأن الفلسطيني أحمد فهيم أن اسرائيل لم تعد معنية أن تبدو دولة ديمقراطية تحترم حقوق الإنسان وتَفصِل بين السلطات، وخاصة أنها مقبلة على مشروع استيطاني توسعي ضخم قد يقضم المزيد من التراب الوطني الفلسطيني وتحديدا في الضفة الغربية المحتلة.
ويضيف في حديثه للجزيرة نت أن التقييد قد يطلق يد الاحتلال الإسرائيلي دون حسيب أو رقيب في تعديل تشريعات بموجبها يطبق حكم الإعدام تجاه الفدائيين والمناضلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
ويرى الأستاذ في العلوم السياسية، بدر الماضي، أن هذه التعديلات سيتم استخدامها ضد الفلسطينيين، لممارسة المزيد من الانتهاكات وخاصة أن المحكمة العليا كانت تمثل أحد المسارات القانونية التي يلجأ إليها الفلسطينيون للاعتراض على مصادرة أراضيهم أو هدم منازلهم، وكانت تحقق لهم الحد الأدنى من الإنصاف. ومع تقييد دور القضاء، ستصبح هذه المسارات أقل فعالية، مما يُعمق شعور الفلسطينيين بالظلم ويزيد من معاناتهم اليومية.
بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع تصعيد السياسات القمعية من خلال تبني إجراءات أقسى ضد الفلسطينيين دون خوف من مراجعة، وهذا يشمل قوانين تقييد الحركة، وفرض عقوبات جماعية، وتوسيع استخدام القوة العسكرية في الأراضي المحتلة، على حد تعبير الماضي.
وفي ظل استمرار الاحتلال وممارساته القمعية بحق الشعب الفلسطيني، فإن الأزمات الداخلية الإسرائيلية قد تضيف من حيث النتيجة بعدا مأساويا جديدا إلى واقعهم المرّ.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات المستشارة القضائیة المحکمة العلیا تعیین القضاة بهاراف میارا فی إسرائیل هذه الخطة أن هذه
إقرأ أيضاً:
مدى شجاعة القضاء الدولي في حالة إسرائيل
د. عبد الله الأشعل **
حين نتحدث عن القضاء الدولي يكون نموذج القضاء الداخلي حاضرًا في أذهاننا؛ فالقضاء الوطني للمدعي والمجتمع والمواطن، وتلتزم الحكومة في أي بلد ديمقراطي بتقريب القضاء للمواطن، كما إن أحكام القضاء واجبة الاحترام والتنفيذ وتتكفل السلطة التنفيذية بإنفاذ أحكام القضاء.
غير أننا لاحظنا ظاهرة جديدة في الدول المتخلفة وهي أن الفساد في أجهزة إنفاذ القانون يُعطِّل تنفيذ أحكام القضاء، خاصة في الشق الجنائي. لكن الدولة في كل الأحوال تستطيع أن تُرضي كل الأطراف بتنفيذ الأحكام؛ لأن عدم التنفيذ يعني ضياع مرفق القضاء بالكامل، فلا يجوز الإنفاق على الدعاوى وإشغال المحامين والقضاء، ومع ذلك تتم بالتضحية بكل الأطراف.
ويجب التمييز بين محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومثول إسرائيل أمام كليهما، فأي المحكمتين أجدى لإشعار إسرائيل بأنها تُساءَل؟
يمكن شرح الموضوع في الملاحظات الآتية:
أولًا: محكمة العدل الدولية هي الجهاز القضائي للرئيس ففي الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية تسعى لإنشاء رابطة مع الأمم المتحدة، ولكن لم يتبلور شيء.
ثانيًا: المحكمة الأولى تختص بالفصل فى المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول وحدها، بينما الجنائية الدولية تختص بالفصل في 4 مجموعات من الجرائم وتحاكم مرتكبيها بصفة شخصية، فهي تختص بالأفراد أي المتهم بشخصه، وإنما المحكمة الأولى المتهم فيها بصفته وليس بشخصه.
ثالثًا: محكمة العدل الدولية بعد أن تصدر الحكم، لا يمكن استئنافه، وتنتهي صلة المحكمة بالحكم فور صدوره، عدا طلبات إيضاح الحكم إذا كان مُلتبِسًا أو طُلب تفسير الحكم.
رابعًا: تحريك الدعوى في المحكمة الأولى يتم من خلال الدولة المدعية ويتخذ المسجل فى المحكمة إجراءات رفع الدعوى. أمام الجنائية الدولية فيتم تحريك الدعوى فيها بوسائل 3؛ أولها: مجلس الأمن عن طريق قرار الإحالة إلى المحكمة ويصدر القرار وفقا لأحكام الفصل السابع. وقد أصر الوفد الأمريكي في مؤتمر روما فى يوليو 1998 على إدراج مجلس الأمن فى المادة 13 كأول وسيلة والأمم المتحدة كما ذكرنا. والغريب أن الإحالة إلى المحكمة من جانب مجلس الأمن تعلو على حرية المحكمة في تحديد اختصاصها؛ وهي قاعدة راسخة في القضاء الدولي وهي سلطة للقضاء في تحديد اختصاصه وفق الوثيقة المُنشِئة له.
أما الوسيلة الثانية لتحريك الدعوى هي الدولة العضو، والوسيلة الثالثة هي المدعي العام للمحكمة، وفي هذه الوسيلة يمكن تقديم تقارير إلى المدعي العام، فإذا اقتنع بها بدأ التحقيق الأوّلي بناءً على عرضه للدائرة التمهيدية الأُولى التى يُمكن أن تصدر قرار القبض على المتهم، مثلما حدث مع نتنياهو ووزير الدفاع السابق يوآف جالانت في إسرائيل. ومن الواضح أن المحكمة الجنائية الدولية فيها مستوى استئناف، وقد قدَّم المُدَّعي العام الإسرائيلي استئنافيْن على قرار القبض على رئيس الوزراء ووزير الدفاع.
خامسًا: في المحكمة الأولى يتمتع الموظفون الرسميون الأساسيون (بمعنى رئيس الدولة ورئيس الوزراء ووزير الخارجية) بالحصانة المطلقة؛ لأن القضية ضد الدولة ورئيس الدولة مسؤول ومتهم بصفته وليس بشخصه، ولذلك يستحيل أن تُوَجِّه محكمة العدل الدولية إلى رئيس وزراء إسرائيل ووزير الدفاع أمرًا بالقبض عليهما؛ لأنهما يتمتعان بالحصانة المطلقة (الحصانة الدبلوماسية وحصانة الدولة).
أما في المحكمة الجنائية الدولية، فإن المادة 27 من "ميثاق روما" تنص على أن الجريمة شخصية والعقوبة شخصية أيضًا، ولذلك وجهت المحكمة أمرًا بالقبض على نتنياهو ووزير الدفاع السابق بعد أن اتهمتهما المحكمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وقد أكدت المحكمة الأولى مبدأ الحصانة فى عدة أحكام وهذا أمر منطقي.
وهناك فارق بين القضاء الدولي والقضاء الأجنبي، وقد رأينا في القضاء الدولي المدني مبدأ الحصانة المُطلقة؛ حيث يتمتع المسؤولون أنفسهم بالحصانة المطلقة أمام القضاء الأجنبي، فلا تجوز مُحاكمة الدولة أمام القضاء الأجنبي؛ لأن ذلك من نتائج تمتع الدولة بالسيادة والمساواة في السيادة بين الدول صغيرها وكبيرها. أما في القضاء الجنائي؛ فالعقوبة شخصية، وهي تتشابه مع الشريعة الإسلامية في كون العقوبة شخصية، مصداقًا لقوله تعالى "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى" (فاطر: 18)، وقوله تعالى "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ" (الإسراء: 13)، وهذا المبدأ يتَّسمُ بالعدل في المسائل الجنائية في العالم كله؛ سواءً في القضاء الدولي الجنائي أو القضاء الجنائي الداخلي داخل الدول، وهناك مجموعة من المبادئ التى تضمن عدالة المحاكمة في المسائل الحمائية، أهمها مبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلّا بنصٍ، وأيضًا في أحكام الإعدام باعتبارها بترًا للمتهم الجاني من المجتمع ومن الحياة، ويلزم إجماع أعضاء المحكمة الجنائية في الجنايات، أما في الجنح، فإن الوضع مختلف .
أما جدوى مثول إسرائيل أما القضاء الدولي بنوعيه، بصرف النظر عن أن القضاء الدولي في بيئة دولية لا يتضمن آليات إلزامية سوى النصوص، فإن قيمة الأحكام القضائية الدولية معنوية في الاساس، لكن يبدو أن الدول أعضاء المحكمة الجنائية الدولية مُلزمون في "ميثاق روما " بتسليم المتهم الصادر بحقه أمر القبض، قد تطور، والدليل على ذلك أنه عندما صدر أمر القبض من الجنائية الدولية على نتنياهو ووزير دفاعه السابق، أعلنت عدة دول أعضاء ومنها أعضاء في الاتحاد الأوروبي، عزمها القبض عليهما فور وصول أيٍِ منهما إلى أراضي الدولة لأي سبب.
وتطبيقًا لذلك، فإن نتنياهو اعتذر عن تلبية دعوى لزيارة هولندا، مخافة القبض عليه خلال الزيارة. ونلاحظ أن القبض يتم؛ سواءً كانت زيارة شخصية أو كانت زيارة دولة رسمية، وقد أصدر القاضي البريطاني قرارًا بالقبض على تسيبي ليفني وزيرة خارجية إسرائيل سابقًا، خلال زيارتها لبريطانيا، لكن الحكومة البريطانية ساعدت الضيفة على الهرب من الأبواب الخلفية، وهذا يمثل مخالفةً من الحكومة لأحكام القضاء البريطاني. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية، قال وينستون تشرشل رئيس الوزراء آنذاك، إن "لندن سُوِّيَت بالأرض، ولكنَّ الأمل كبير في سلامة بريطانيا ما دام القضاء البريطاني مُستقلًا".
ونلاحظ أن الولايات المتحدة الأمريكية تُسهِّل لإسرائيل الإفلات من العقاب، ومع ذلك تحرص إسرائيل على الرد بحجج تافهة على المحكمة الجنائية الدولية. وفي الأسبوع الثاني من ديسمبر 2024، قدم المدعي الاسرائيلي طعنًا على قرار الجنائية الدولية بالقبض على رئيس الوزراء ووزير الدفاع السابق، وهذا الطعن عبارة عن استئنافين، وقد سبق أشرنا إلى أن من الفوارق بين الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، أن الأولى بها استئناف للأحكام التمهيدية، ومعنى ذلك أن إسرائيل شديدة الاهتمام بما صدر عن المحكمة، رغم أنها ليست طرفًا في "ميثاق روما". وفى شهر نوفمبر 2024، أصدر مجلس النواب الأمريكي قانونًا بمعاقبة المدعي العام وأعضاء المحكمة الجنائية الدولية، إن هم أقدموا على إصدار أمر الاعتقال، لكن المحكمة تحدَّت الولايات المتحدة.
بقي أن نرى ماذا سيفعل الرئيس المنتخب دونالد ترامب عندما يتولى السلطة رسميًا في 20 يناير المقبل، وهو الذي تعهَّد بحماية إسرائيل وإقامة "إسرائيل الكبرى"!
** أستاذ القانون الدولي ومساعد وزير الخارجية المصري سابقًا