مخططات التقسيم ومخاطر استنساخ أحداث سوريا في دول المنطقة
تاريخ النشر: 25th, December 2024 GMT
ايهاب شوقي
لا شك أن ما حدث في سورية وتطوراته المستمرة سيظل لفترة طويلة محل اهتمام كل وسائل الإعلام العالمية والإقليمية، كما سيتوقف مستقبل المنطقة والصراع الدولي على مآل هذه التطورات، خاصة وأن سورية تمثل عقدة للصراعين الإقليمي والدولي، وأن طريقة سقوط النظام تمثل نموذجاً يمكن تصديره وتكراره لدول أخرى بالمنطقة، وخاصة الدول المجاورة للكيان الصهيوني مثل الأردن ومصر، وكذلك ممالك الخليج التي تتربص بها تنظيمات تنتمي لذات مدرسة جبهة النصرة والفصائل التي أسقطت النظام في سورية، وبعد ما بدا وتكشف من أن أمريكا والكيان وتركيا أعدت صيغة لتسويقها بإدخال تحديثات على خطابها لنيل الشرعية الدولية.
ولا شك أن إعلان نتنياهو نواياه وإرفاقها بخرائط لشرق أوسط جديد وتزامن ما حدث في سورية وتوظيف الكيان له، وملامح تحركاته في سورية عبر اقتناص مزيد من الأراضي والتواصل مع قطاعات من الأكراد والدروز، يقود إلى قناعة بأن “إسرائيل” تنوي مواصلة تحركاتها باتجاه هذا المشروع الذي لايتوقف عند حدود سورية، بل يتسع ليشمل الحلم التاريخي الصهيوني من النيل إلى الفرات، وهو مشروع صهيوني قائم وتبلورت عدة إستراتيجيات له، وكان أهم خططه الإستراتيجية خطة ينون التي نشرت في مقال في فبراير 1982 في المجلة العبرية كيفونيم (الاتجاهات) بعنوان “إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينيات”، والتي كتبها عوديد ينون، المشهور كمستشار سابق لأرييل شارون، والمسؤول الكبير السابق في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وتم الاستشهاد بالخطة كمثال مبكر لوصف المشاريع السياسية في الشرق الأوسط بمنطق الانقسامات الطائفية.
ولا شك أن تطبيق خطة الجنرالات في شمال غزة، وهي خطة للجنرال غيورا آيلاند، تشي بتهديد كبير لمصر، لأن هذا الجنرال هو صاحب خطة تهجير سكان غزة إلى مصر، والتي اقترحها وكان يعد لتنفيذها في العام 2005.
كما أن إشارة سموتريتش بأن العام 2025 هو عام ضم الضفة، لا بد أن يقرع جرس إنذار كبير وعاجل في الأردن، لأن خطط ضمها تتضمن تهجير أهلها إلى الأردن.
كما أن قوام مشروع الشرق الأوسط الجديد يقوم على أن تكون اليد الطولى للكيان، وهو ما لا يسمح بوجود نفوذ لممالك الخليج ويجب إعادتها لعصور مظلمة بحيث لا تشكل ندًّا للكيان.
وقبل الخوض في شواهد واحتمالات تكرار نفس السيناريو في دول أخرى، ينبغي إلقاء الضوء على بعض الملاحظات التي تحمل دلالات لافتة على طبيعة النظام الدولي والشرعية الانتقائية والازدواجية الفاضحة وحجم التنسيق والتواطؤ مع الكيان، وكذلك استغلال وتوظيف الكيان للأحداث بشكل سريع وخاطف، ثم الإشارة إلى علاقة خطة ينون ومخططات التقسيم بالدول الأخرى التي يمكن تكرار النموذج فيها، وذلك على النحو الآتي:
1- هناك استخفاف كبير بالمجتمع الدولي والشعوب عند الاعتراف بشرعية تنظيمات مارست الإرهاب وبشخص مصنف كإرهابي دولي مثل “أبي محمد الجولاني”، وهذا الاستخفاف يجعل من هذه البساطة التي تنال بها هذه التنظيمات الشرعية الدولية والرضا الإقليمي والدولي مؤشراً مرعباً للدول والجيوش التي اطمأنت لفترة طويلة على عرشها وشرعيتها الدولية باعتبارها تكافح الإرهاب، لأنه ببساطة يمكن اعتبار هذا الإرهاب ثورة وأنها دول تقمع الثورات وتنتقل في لحظة من خانة مكافحة الإرهاب لخانة الأنظمة المارقة عن الشرعية الدولية!
2- بينت الأحداث أن هناك خلايا نائمة لكثير من الفصائل والتنظيمات التي يتصور الكثيرون أنها ملفوظة شعبياً ولا تحظى ببيئة حاضنة، كما تؤثر الأزمات الاقتصادية وصعوبة معيشة المواطنين على طبيعة التفافها حول الأنظمة، مما يجعل المقاومة الشعبية لهذه التنظيمات مقاومة ضعيفة وبالتالي قد تجد أنطمة مثل الأردن ومصر مخاطر كبيرة وتجد جيوشها معزولة في مواجهة هجمات من هذا النوع دون رديف شعبي، خاصة أن هناك تجارب سابقة وخلايا نائمة، ولا يمكن استثناء ممالك الخليج رغم ثرائها من هذه السيناريوهات لأن التقارير الاقتصادية الدولية تفيد بمؤشرات لافتة حول انخفاض مستوى معيشة المواطنين وارتفاع نسب البطالة، ويضاف إليها وجود قطاعات شعبية تتقارب إيديولوجيا مع هذه التنظيمات وتتربص بعروش الخليج، وتحمل ثارات كبيرة خاصة مع دولة الإمارات التي تتبعت هذه التنظيمات وساعدت على قمعها في عديد من الدول.
3- الأطماع التركية لا تقتصر على أطماع التوغل البري في سورية والعراق واستعادة نفوذ المجلس الملي وأمجاد الإمبراطورية العثمانية، بل تمتد جيو إستراتيجيًا لشرق المتوسط ومشروعات الغاز، وثقافياً لقيادة العالم الإسلامي عبر رعاية تنظيمات إخوانية وفصائل وحركات وأحزاب توالي تركيا، لها وجودها في الأردن ومصر ودول الخليج، وهو تمدد ثقافي تسعى تركيا عبره لخلق نفوذ ممتد في الإقليم يحمي مصالحها التوسعية المتسقة مع الأحلام الإمبراطورية التي لا تفارق الطغمة الحاكمة في تركيا، وهو ما يشكل خطراً على هذه الأنظمة، والتي يُؤخذ عليها أن معظم الخطابات الشعبية هاجمت الأنظمة الرسمية بسبب تخليها عن غزة، فيما لم توجه انتقادات لتركيا وأردوغان رغم عدم تقديم تركيا أي مساندة إلا بعض الشعارات والخطابات الديماغوجية الخالية من أي فعل على الأرض.
4- رعاية غرف العمليات الأمريكية والصهيونية لما حدث في سورية، وهو ما رصده السيد الخامنئي بالتعاون مع الدولة الجارة التركية، وهو ما يقود لوجود مصالح مشتركة، وهذه المصالح لا تقتصر على سورية، لأنها تقتسم النفوذ والكعكة، وهو ما يغري الأطراف الثلاثة لتوسيع هذا التنسيق والسعي لمزيد من المكتسبات الإقليمية في لحظة تاريخية مفصلية تشكل فرصة لهذه الأطراف مع الضعف الملحوظ للنظام الرسمي العربي واستسلامه للنتائج دون تدخل فاعل في مواجهة الهجمة المزدوجة على القضية الفلسطينية وعلى منطق الدولة القومية التي قوامها المؤسسات والجيوش الوطنية.
5- الاستغلال الصهيوني بمزيد من التوغل وكسب الأراضي وانتهاك الاتفاقيات الدولية، لا بد وأن يشكل مؤشر خطر من الدرجة الأولى للدول التي ركنت إلى هذه الاتفاقيات مثل الأردن ومصر، وخاصة مع التلويح المستمر بضم الضفة الغربية وتهجير سكان غزة والتموضع الدائم للجيش الصهيوني في محور نتساريم وممر فيلادلفيا والسيطرة على المعابر، واستعداد إدارة يمثلها ترامب الذي لا يعبأ بالاتفاقيات الدولية لاستلام الحكم، وهو ما يشكل خطراً لتوغل صهيوني داخل خطوط فض الاشتباك برعاية أمريكية وترويج دعائي تركي لفصائل مماثلة لجبهة النصرة.
كما لا تشكل الاتفاقات “الإبراهيمية” حماية للأطراف التي وقعتها، لأن وجود نظام حكم تابع بشكل مباشر لأميركا والكيان ويدين بالشرعية والولاء لهما أفضل أمريكياً من جهد الابتزاز لأنظمة الخليج وأقصر طريقاً في جني الثمار.
6- وبالعودة إلى مخطط الشرق الأوسط الكبير وخطة ينون، نرى أن فيها تفصيلات تشير نصاً إلى دول أخرى، والخطورة هنا تتمثل في أن مقال ينون قد تم تبنيه من قبل أعضاء معهد الإستراتيجيات الصهيونية في الإدارة الأمريكية، حتى تم تناوله بشكل مفترض كوسيلة لتعزيز المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط، وكذلك تحقيق الحلم اليهودي بدولة “من جدول مصر إلى نهر الفرات”، وتشمل غالبية الشرق الأوسط، كما هو مكتوب في الكتاب المقدس العبري، حيث كانت مجلة «كيفونيم» مُكرّسة لدراسة اليهودية والصهيونية، وقد ظهرت بين عامي 1978 و 1987، ونشرها قسم الإعلام في المنظمة الصهيونية العالمية في القدس.
وتتناول الخطة تفاصيل، نرى ظلالها في سياسات نتنياهو حالياً، ومما ورد فيها حول الأردن والعراق ومصر ولبنان، يمكن الاستشهاد بما يلي بشكل موجز:
أولاً: الأردن، اقترحت ورقة ينون أن السياسة الإسرائيلية، في كل من الحرب والسلام، يجب أن تهدف إلى هدف واحد هو “تصفية الأردن” كما تحكمها المملكة الهاشمية، إلى جانب زيادة الهجرة الفلسطينية من الضفة الغربية إلى شرق الأردن لوضع حد لمشكلة وجود تجمعات كثيفة للفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية التي احتلتها “إسرائيل” في حرب الأيام الستة عام 1967، مما يتيح لهم الانتقال إلى أراضي تلك المملكة السابقة.
ثانياً: لبنان، حيث دعت الخطة إلى خطة قديمة ضد وحدة أراضيها تعود إلى عام 1943، والتي بموجبها كان من المقرر أن يتم تجميع البلاد على أسس عرقية قومية، وتم تنفيذ جزء منها خلال السبعينيات، وخاصة بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، وارتبطت بشخصية هنري كيسنجر، حيث تردد وقتها أنه يخطط لتقسيم لبنان إلى دولتين.
ثالثاً: العراق، حيث اعتبر ينون العراق بثروته النفطية التهديد الأكبر لإسرائيل، وكان يعتقد أن الحرب الإيرانية العراقية ستقسم العراق الذي يجب أن يكون حله هدفًا إسرائيليًا إستراتيجيًا، وتوقع ظهور ثلاثة مراكز عرقية: الشيعة الذين يحكمون من البصرة، والسنة في بغداد، والأكراد وعاصمتهم في الموصل، حيث كل منطقة تسير على غرار التقسيمات الإدارية للدولة العثمانية السابقة.
رابعاً: مصر، حيث اعتقد ينون أن اتفاقيات كامب ديفيد 1978، التي وقعها مناحم بيجن وأنور السادات، كانت خطأ، وكان أحد أهداف “إسرائيل” في الثمانينيات، تقطيع أوصال مصر، الدولة التي وصفها بأنها “جثة”، وتهدف الخطة لتشكيل دولة قبطية مسيحية على الحدود الشمالية لمصر، وإعادة الغزو الإسرائيلي السريع لسيناء.
ربما بدأت الأنظمة تستشعر خطورة هذه التطورات بسرعة عقدها لاجتماع العقبة ولكنه اجتماع يخلو من الفاعلية بسبب عدم امتلاك أدوات ضغط فاعلة وسبب ابتعاد هذه الأنظمة وتخليها عن المقاومة وهو ما عراها أمام أميركا والصهاينة وأدخلها تحت قاعدة “أكلت يوم أكل الثور الأبيض”، ولكن على الأنظمة أن تفطن إلى أن كلفة المقاومة رغم كل التضحيات أقل من كلفة التماهي والاستسلام، بدليل أن الحركات والقوى التي تقاوم مثل حزب الله تحافظ على الردع مع الكيان وتخرج دوماً بأقل الخسائر في ما يمس السيادة، رغم التضحيات والشهداء والخسائر المادية، وهو ما يفرض استفاقة وصياغة سياسات وإستراتيجيات جديدة للأنظمة تتسق مع هذه الهجمة التاريخية الاستعمارية الكبرى.
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: هذه التنظیمات الشرق الأوسط الأردن ومصر فی سوریة وهو ما
إقرأ أيضاً:
أوروبا ومخاطر الحرب المستعرة ضد المهاجرين
غداة انتخابه مستشارا لألمانيا، اعترف فريديريش ميرتس، في كلمته أمام البرلمان الألماني "البوندستاغ"، بأن بلاده لن يمكنها الصمود ليوم واحد في غياب المهاجرين الذين يعود لهم الفضل في تماسك المؤسسات الاقتصادية والصحية. لكنه تراجع خطوة إلى الوراء عقب مفاوضات تكوين الائتلاف الحكومي وتبنى مع حلفائه حزمة من القيود ضد المهاجرين وطالبي اللجوء.
وعلى مدى الأشهر الأولى لعام 2025 انتشرت حمى سياسات الترحيل، سواء في ألمانيا أو إيطاليا وفرنسا، وحتى دول العبور -التي تمثل الوجهة الأولى لحركة الهجرة في البحر المتوسط- لم تتخلف بدورها عن ركب الحملة المضادة للهجرة.
وفي شمال أفريقيا التي ينظَر لها كحدود متقدمة للاتحاد الأوروبي، تقوم السلطات الأمنية في ليبيا وتونس والجزائر بردّ المهاجرين على أعقابهم وسط البحر المتوسط حتى لا يصلوا إلى الحدود الأوروبية، وهو الطريق المصنف كأخطر مسار بحري على حياة المهاجرين.
وفي مشاهد يومية متكررة، يواصل خفر السواحل الليبي منع إبحار قوارب المهاجرين، وسط شكاوى حقوقية دولية من عمليات اختطاف منظمة لمهاجرين كرهائن.
وتشن تونس حملة أمنية لتفكيك خيام عشوائية تؤوي أكثر من 10 آلاف مهاجر في المناطق الريفية المحيطة بصفاقس على الساحل الشرقي، بينما رحّلت الجزائر في أبريل/نيسان وحده قرابة 5 آلاف مهاجر عبر الصحراء الى الحدود مع النيجر.
يشير آخر تحديث لبيانات منصة برنامج "مهاجرون مفقودون"، التابعة للمنظمة الدولية للهجرة، إلى وفاة وفقدان 490 مهاجرا في البحر الأبيض المتوسط العام الجاري حتى يوم 26 أبريل/نيسان، من بينهم 307 ضحايا في وسط البحر المتوسط.
إعلانلا تتوقف المأساة عند موت ضحايا "الحدود القاتلة"، على حد وصف المنظمات المدافعة عن حرية التنقل في حوض المتوسط، بل تشمل أيضا من قضوا سنوات طويلة من حياتهم داخل الاتحاد الأوروبي.
وقد حصلت الجزيرة نت على شهادات لمرحّلين من مركز "تراباني" جنوب إيطاليا توثق عمليات تعذيب ممنهجة، وجاء في شهادة المرحل التونسي وِسام، بعد إقامة استمرت لنحو 15 عاما، أن المرحلين المستعصين يخضعون إلى التخدير لتسهل السيطرة عليهم بجانب الضرب والرش بالمياه في مركز الترحيل، الذي شهد محاولات انتحار لموقوفين احتجاجا على قرارات الترحيل.
لا يخفي وسام -الذي ترك ابنة له في إيطاليا- صدمته مما شاهده من ممارسات في مركز "تراباني"، ومع ذلك، يعيش في تونس حالة إحباط شديدة حيث سيضطر للبدء من الصفر.
وعلى العكس من ذلك، اختار الشاب نبيل ترول، الذي التقته الجزيرة نت بضواحي العاصمة تونس، مسارا قضائيا لطلب العودة إلى ألمانيا بعد ترحيله رغم زواجه من ألمانية وإنجابه لطفلين.
ويشير العضو في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والخبير في قضايا الهجرة، رمضان بن عمر، للجزيرة نت إلى أن الاتحاد الأوروبي يتّبع سياسات تصدير الحدود وإعادة القبول كحل للتخلص من مهاجرين قضوا سنوات طويلة من حياتهم في فضاء "شنغن"، دون الاكتراث بالتداعيات غير الإنسانية.
ويضيف بن عمر أن المرحلين يفتقدون دائما إلى الدعم القانوني الكافي الذي يسمح لهم بالطعن في قرارات الترحيل.
ووفق بيانات نشرها البرلمان الألماني (بوندستاغ)، رحّلت ألمانيا منذ عام 2018 أكثر من 1780 مهاجرا تونسيا عبر 74 رحلة. وهذا العام تنطلق رحلة منتظمة كل شهر من المطارات الألمانية نحو تونس تقل ما بين 20 و30 مهاجرا، وينسحب الأمر نفسه على دول أخرى مثل العراق وأفغانستان.
وقد بلغ إجمالي من تم ترحيلهم من ألمانيا في عام 2024 أكثر من 20 ألفا، مقابل ما يفوق 21 ألفا تم ترحيلهم من فرنسا، ما يمثل زيادة بنسبة 27% عن العام الذي سبقه، وفقا لبوندستاغ.
إعلان كلفة الأبواب المغلقةتقع دول الاتحاد الأوروبي تحت ضغط معالجة مشكلة الشيخوخة الديمغرافية ونقص العمالة الهيكلية، لكن هذه الضغوط تصطدم بأولوية السيطرة على تدفقات الهجرة غير النظامية التي تسهر على تنفيذها الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل (فرونتكس) منذ عام 2004 تحت ضغط قطاعات من الرأي العام ومن اليمين المتطرف، الذي يعتبر الهجرة تهديدا لمجتمعه وما تبقى من إنجازات دولة الرفاهية.
لكن سياسة الأبواب المغلقة كانت لها كلفة مباشرة، ففي عام 2024 أحصى الاتحاد الأوروبي نقصا في العمالة في نحو 40 مهنة، مشيرا إلى نقصٍ كذلك يناهز الثلثين لدى الشركات الصغيرة والمتوسطة.
مع ذلك، غض قادة دول التكتل الطرف عن تلك البيانات وفضّلوا ركوب الموجة وفرض المزيد من القيود على حركة الهجرة، في ذروة تفشي خطاب اليمين المتطرف الذي رافق الانتخابات البرلمانية الأوروبية.
وترجع الخبيرة في قضايا الهجرة بمجلس العلاقات الخارجية التابع للاتحاد الأوروبي، كيلي بيتيليو، أسباب هذه الموجة المتزامنة إلى خلفيات سياسية ترتبط أساسا بصعود اليمين المتطرف في أرجاء أوروبا.
وتوضح بيتيليو ذلك في حديثها للجزيرة نت قائلة إن "الحكومات تحاول مواجهة اهتمام الناخبين المتزايد بأجندات هذه الأحزاب، بإعلان مواقف أكثر صرامة تجاه أزمة الهجرة، وإظهار قدرتها على التشدد في التعامل مع هذا الملف بهدف طمأنة الناخبين".
وتتابع كيلي بيتيليو في تعليقها للجزيرة نت: "حاولتْ دول الاتحاد الأوروبي معالجة هذا الأمر من خلال قمع هؤلاء الأشخاص وإظهار قدرتها على ترتيب أمورها الداخلية. لكن من جهة أخرى، هذه السياسة -أي حملات الترحيل- لا يمكن اعتبارها إستراتيجية إزاء معالجة نقص العمالة الموجود بالفعل في العديد من الدول الأوروبية".
تحولات ديمغرافية في الأفقفي الأثناء، أقرت الحكومة اليمينية في إيطاليا -الدولة الأوروبية الأكثر عرضة لتدفقات الهجرة عبر البحر المتوسط- بحاجة البلاد إلى قرابة 833 ألف عامل بين عامي 2023 و2025، لسد النقص في 37 مهنة من بينها بشكل خاص قطاعات الصحة والتمريض والرعاية الصحية.
إعلانكما تشير تقديرات صادرة عن "المعهد الألماني للتنمية والاستدامة"، إلى حاجة إيطاليا لـ280 ألف عامل أجنبي سنويا حتى عام 2050 لتلبية النقص في العمالة في قطاعات الزراعة والسياحة بجانب الرعاية الصحية.
أما بالنسبة لألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، فالوضع أكثر تعقيدا، حيث ذكرت الوكالة الاتحادية للعمل، أن البلاد بحاجة لنحو 400 ألف مهاجر سنويا في ظل المخاطر المتزايدة للانكماش السكاني.
وتوقعت دائرة الإحصاء المركزية الألمانية تراجع عدد سكان ألمانيا إلى أقل من 70 مليون نسمة عام 2060 إذا ما استمر التراجع الحاد لأعداد المواليد مقابل الزيادة الملحوظة للوفيات.
ويترافق ذلك مع تقديرات بتراجع أعداد السكان من الفئة العمرية بين 20 و64 عاما، التي تمثل الفئة القادرة على العمل، من حوالي 50 مليون نسمة حاليا إلى ما بين 34 مليون نسمة و38 مليون نسمة.
ويعتقد مدير مكتب المنظمة الدولية للهجرة في نيويورك، بار ليليرت، في تعليقه على نتائج تقرير صندوق النقد الدولي لـ"آفاق الاقتصاد العالمي عام 2025" أنه يتعين على الحكومات الراغبة في وضع سياسات هجرة فعالة أن تراعي الروابط بين التنقل والتنمية، محذرا من التحولات الديموغرافية الجذرية المتوقعة في العقود المقبلة، والتي قال إنها ستتطلب إستراتيجيات استباقية لسوق العمل.
ووفق الخبير، ستستحوذ 26 دولة فقط معظمها في أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا، خلال العقود القادمة، على نحو 90% من النمو السكاني في العالم، بينما ستشهد 76 دولة، من بينها أغلب الدول الأوروبية، انخفاضا في عدد السكان.
الهجرة حل وليست مشكلةعلى عكس السياسات الأوروبية المضيّقة على حركة الهجرة، تعرّف منظمة الأمم المتحدة الهجرة كجزء من الحل عندما يتعلق الأمر بتعزيز نتائج التنمية المستدامة للجميع، وهي ترى ارتباطا وثيقا لخطة التنمية المستدامة لعام 2030 بحركة الهجرة في العالم اعتمادا على عدة اعتبارات وحقائق موضوعية من بينها:
إعلان أن المهاجرين يتكيفون مع أسواق العمل المتغيرة وطرق العمل الجديدة. وينعكس ذلك إيجابيا على الاتجاهات الديموغرافية داخل المناطق وعبرها. أن مسارات الهجرة المنتظمة التي تتم إدارتها بشكل جيد من شأنها أن تزيد من التمويلات الموجهة للتنمية من خلال التحويلات المالية ورأس مال الشتات. أن إعادة التوطين ولم الشمل والنقل تؤدي إلى نتائج إيجابية للأشخاص الذين يحتاجون إلى الحماية.بحسب آخر تحديث لبيانات المنظمة الدولية للهجرة صدر في شهر مارس/آذار، يبلغ تعداد المهاجرين في العالم 304 ملايين يلعبون دورا محوريا في تعزيز اقتصادات دول المقصد. في المقابل، يكشف الوجه القاتم لحركة الهجرة عن وفاة وفقدان أثر 8.7 ملايين شخص عبر مسارات الهجرة الدولية بسبب ما يعرف بـ"الحدود القاتلة".
ويوضح تقرير صندوق النقد الدولي في فصله الثالث، حول الآثار العالمية لسياسات الهجرة واللاجئين، كيف يمكن للتنقلات السكانية، عند إدارتها بشكل جيد، أن تعزز الاقتصادات وتدعم المجتمعات المضيفة.
وأكدت سيفانكا دانابالا، مديرة مكتب مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في نيويورك، هذا المنحى عند تقديمها نتائج التقرير في منتصف أبريل/نيسان. وترى دانابالا أنه مع وضع السياسات المناسبة، يمكن للاجئين، في الواقع، المساهمة في الاقتصاد عبر تعزيز سوق العمل وزيادة الإيرادات الضريبية وبالتالي دفع نمو الناتج المحلي الإجمالي.
ويشير التقرير في استنتاجاته إلى أنه في حين قد تواجه دول المقصد ضغوطا قصيرة الأجل على الخدمات العامة، فإن المكاسب طويلة الأجل -التي تشمل توسيع سوق العمل وزيادة الإيرادات الضريبية- يمكن أن تفوق بكثير التكاليف الأولية إذا ما تمت إدارة السياسات بفعالية.