تقاس جودة العمل الفنى فى العادة، ليس فقط بصلابة وحدته البنائية واتساق أحداثه وترابطها، وقيمة الأثر الذى يحدثه، وبراعته فى إيصال رسائله ، ولكن أيضا بالدلالات المتعددة التى يضعها أمام المتلقى، فتفسح بذلك المجال واسعًا لتعدد وجهات النظر، وتنوع الآراء فى تقيمه وتفسيره، وهو ما يعد شهادة بالثراء الإبداعى لهذا العمل الفنى أيا كان نوعه أوشكله أو وسيلته.
الفيلم الذى أنتجه وكتب له السيناريو المخرج «نولان» استنادا إلى كتاب «بروميثيوس الأمريكى: انتصار ومأساة روبرت أوبنهايمر الصادرعام 2005 للكاتبين «كاى بيرد» و«مارتن شيروين» يروى بايقاع سريع لاهث وبتوظيف موسيقى بالغ التأثير والتعبير، وبالمؤثرات الصوتية الصاخبة التى تلهث بدويها وراء الجمل الحوارية المتلاحقة، فضلا عن المزج بين المشاهد الملونة ومشاهد الأبيض والأسود، يروى سيرة أوبنهايمر على لسانه. ولعل الاختيار يشى بالطابع الفلسفى والملحمى للفيلم ،الذى يقود مشاهده من لقطة إلى أخرى ،لتلك المقابلة بين «بروميثوس» الذى تحدى فى الأساطير اليونانية الألهة لخدمة البشر والانتصار لحاجاتهم، حين دلهم بالعلم والمعرفة على طرق الخلاص وجلب لهم النور والنار، فعاقبته الألهة، وبين أوبنهايمر صانع القنبلة الذرية التى أنهت بخسائر فادحة أرواح البشر، واتهم فى بلده بالخيانة الوطنية.
قلل «أوبنهايمر» من مخاطر تصنيع السلاح النووى، لكنه رفع من شأنه فى قدرته على هزيمة هتلر. وحين اتخذ الرئيس الأمريكى ترومان قرارا بإلقاء القنبلتين على هيروشيما ونجازاكى، كانت ألمانيا قد هزمت وأعلنت استسلامها، وكان هتلر قد انتحر قبل ذلك بنحو أربعة أشهر. وفى المقابلة التى جمعت بين أوبنهايمر وبين ترومان ، سخر الأخير من طلبه بالعمل على وقف سباق التسلح النووى، وتهكم على تألمه من النتائج الكارثية التى أحدثتها القنبلة على المدن اليابانية، وأدت إلى انهاء الحرب العالمية الثانية، وقال له فى مفارقة تعكس همه الشخصى الذى يباهى به: لا أحد سوف يذكر من صنع القنبلة، بل سيذكرون من هو الذى أصدر القرار بإلقائها. ولم يكن تعليق «أوبنهايمر» فور انتهاء تلك المقابلة سوى تعزيز لمشاعر الوحدة الذى اعتراه وهويقول واصفا اليابان: لقد هزمنا دولة مهزومة !
يعرض الفيلم لحالة الانقسام الذى عاشه «أوبنهايمر» الذى أدى دوره ببراعة واتقان الممثل الأيرلندى «كليان مورفى». الانقسام بين نزوعه الذاتى لتحقيق اختراع صناعى وعلمى جديد يواجه به عدو شعبه فى ألمانيا، وبين عذابه الروحى من النتائج التى أسفر عنها. الصراع بين رغبته، وهو اليهودى من أصل ألمانى، فى التصدى لنازية هتلر المعادى للسامية، وشغفه العلمى المحموم بالسير قدما لتصنيع وتجريب السلاح النووى وانجاز نصر علمى غير المحور مسبوق، خوفًا من تمكن ألمانيا النازية وحلفائها فى اليابان وإيطاليا. إضطراب حياته الأسرية، وحبه لأمرأتين، زوجته الثرية التى تخلت عن زوجها من أجله وانجبت له ابنين وتحولت إلى مدمنة لاكتشافها مغامراته النسائية، وعشيقته التى انتحرت بسبب خذلانه لها. ما بدا من ضعفه فى مواجهة للجنة التحقيق الماكرثية التى تسعى لتلويث سمعته، واتهامه بعدم الولاء لوطنه بتسريب أسرار صنع القنبلة للاتحاد السوفيتى، ويأسه من اقناع خصومه بأن المتهم بخيانة الوطن والعمل لصالحه كان حليفا للولايات المتحدة فى القضاء على النازية الفاشية وتحقيق النصر فى الحرب العالمية الثانية.
هذا الصراع القاسى الذى تعرضت له حياة أوبنهايمرالعلمية والخاصة بسبب لجنة تحقيق مكارثية «H1» غاشمة، حرمته من الحصول على جائزة نوبل فى العلوم الفزيائية لاتهامه بالشيوعية، بما يجعله نسخة عصرية للبطل التراجيدى, يكشف الفيلم عن الجوانب المظلمة فى النفس البشرية، وهو يستعرض العلاقة المعقدة بين أوبنهايمر وخصمه لويس سترواس رئيس لجنة الطاقة الذرية، الذى حاك له المؤامرة لهدم حضوره العلمى والسياسى وإحالته للتحقيق بتهمة الخيانة ،لازاحته من الموقع الذى وصل إليه بموهبته وجهده، ووضع العراقيل أمام صعوده لمواقع أخرى يستحقها طمع بها. أما السبب فهو سخرية أوبنهايمر من الأصل العائلى المتواضع لسترواس، وارتياب الأخير أن أوبنهايمر يحرض عليه العلماء وأنه وشى لإنشتاين وقلبه عليه مما أدى لتجاهله وعدم الرد على تحيته، مع أن الحوار بين الاثنين لم يتطرق بكلمة عن سترواس، حيث يقول أينشتاين لأوبنهايمر فى المشهد الذى جمعهما: اذهب وواجه العالم بعواقب ما صنعت يداك.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: على فكرة العمل الفني عالم الفيزياء أوبنهايمر
إقرأ أيضاً:
في خطوتين طريقك إلى محبة الله لسعادة حقيقية
أكد الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق أن محبة الله عز وجل هي أساس السعادة الحقيقية، وأن تحقيقها يبدأ بخطوتين متلازمتين: التخلية والتحلية.
التخلية تعني تطهير القلب من حب غير الله، استنادًا إلى قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.
أما التحلية فهي ملء القلب بحب الله وحده، ما يجعل الإنسان يشعر بلذة عظيمة تفوق كل متاع الدنيا، كما أشار العلماء إلى أن: "إننا في لذة وسعادة لو عرفها الملوك لجالدونا عليها بالسيوف."
علامات محبة الله للعبدأوضح جمعة أن القرآن الكريم بيّن علامات لمحبة الله للعبد، منها:
الثبات في سبيل الله: كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}.
التوبة والطهارة: في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}.
اتباع النبي صلى الله عليه وسلم: وهو ما أشار إليه قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
الابتلاء.. دليل المحبة
من علامات محبة الله للعبد، الابتلاء الذي يواجهه المؤمن بالصبر والرضا. واستشهد الدكتور جمعة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله تعالى عبدًا ابتلاه.. فإن صبر اجتباه، فإن رضي اصطفاه." مؤكدًا أن الابتلاء والصبر عليه يمثلان درجات في رحلة العبد نحو الاصطفاء الإلهي.
أثر محبة الله على النفسأشار الدكتور جمعة إلى أن محبة الله تترك أثرًا عظيمًا في نفس الإنسان، حيث تتحول إلى رقابة ذاتية داخلية تقوده نحو الخير. واستشهد بحديث النبي: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا جَعَلَ لَهُ وَاعِظًا مِنْ نَفْسِهِ وَزَاجِرًا مِنْ قَلْبِهِ."، موضحًا أن هذا الواعظ الداخلي يجعل الإنسان أكثر تقبلًا للنصيحة، وأكثر التزامًا بفعل الخير وترك الشر.
محبة الله تشمل كل جميلأكد الدكتور علي جمعة أن حب الله يشمل حب الإسلام، وحب الشريعة، وحب الجنة، وحب النبي صلى الله عليه وسلم، بل وحب التكليف الإلهي الذي يتحول إلى شوق وطاعة. موضحًا أن هذا الحب العظيم يعزز رضا النفس وسعادتها، ويجعل الحياة طاعة محببة لله تعالى.