مثل كل مرة حين وضعتُ الحناء على كفّي يديّ، وانتشرت رائحته لتملأ المكان من حولي، زارتني صورة عمتي سليمة، تلك الروح الطاهرة التي رحلت وتبعتها رائحة الحناء في رحلتها، ما زلت أتذكر شعرها المصبوغ بالحناء والذي يخفي جميع شعيراتها البيضاء، وأظافرها الحمراء، ويديها المخضبتين بالحناء والورس، وباطن قدميها الذي صُبغ بلون أحمر للقضاء على جميع التشققات.
عشق عمتي سليمة للحناء امتد لمجموعة من أشجار الحناء التي زرعتها في صف طويل، تقطع أوراقها الخضراء في مواسم محددة، ثم تطحنها وتحولها لحناء طبيعي تصبغ بها يديها وحياتها.
منها ورثت حب الحناء بشكل كبير، منذ كنت طفلة صغيرة أجلس في حضنها، تأتي بوعاء دائري صغير تضع فيه الحناء وتخلطه بالماء بخبرة واضحة، تمسك عود الثقاب وترسم على يدي خطوطًا ونقاطًا كثيرة، ثم تحضر الوعاء الآخر الذي كانت قد جهزته منذ فترة وتصبّ عليه ماء ممزوجًا بليمون عماني يابس، وتبدأ بوضعه على باطن قدميّ الصغيرتين وهي تغني أغاني تراثية جميلة، وعندما أستيقظ من نومي تصر على رؤية تفاصيل الحناء على يديّ، تشمه وتقبل يديّ بكل حب وحنان.
في يوم من أيام طفولتي المنصرمة وهي تضع الحناء في قدمي، ضحكت وقالت بكل إصرار: سوف أضع الحناء لك في عرسك!
تبادل الأدوار بدأ بعد أن طالت قامتي، كنت أمسك رجليها وأضع طبقات من الحناء؛ لأقضي على كل تلك التشققات التي بدأت تهاجمها، وأفك ضفائر شعرها وأبدأ بوضع الحناء على تلك الخصل التي بدأ الشيب يغزوها، كانت تساندني بأغانيها الرقيقة، وصوتها الحنون يملأ أجواء الغرفة من حولنا.
تخبرني عمتي بحكايات كثيرة، عن طفولتها القاسية، عن الحناء الذي كانت تزرعه لتغطي تشققات أقدام أحبابها في البيت القديم، وعن البحر الذي غدر بزوجها وابنها الوحيد، وعن دموعها التي لم تنقطع، وعن رائحة الحناء التي تحارب بها كل الخدوش التي ترهق صدرها، وإثر كل حركة يؤلمها خدش وتنساب آلام ممتدة لا تنقطع.
قالت لي: أسميته صالح، كان ابنًا صالحًا بارًا، لم أضع له الحناء في عرسه كما وعدته، غادر الحياة حين كان عمره خمسة عشر ربيعًا، كان طويلا أسمر البشرة، تمنيت لو أنجبت أختًا له كنت سوف أسميها صالحة، وكانت سوف تبقى بقربي، وسوف أضع لها الحناء كل شهر.
وأكملت بحسرة: رحل صالح ولم تأتِ صالحة، وبقيت أتجرع مرارة أيام طويلة كانت بطعم العلقم، ورحلت قطعة عجزت عن تحديد حجمها من جسدي وروحي.
عمتي سليمة رجعت بعد سنوات عجاف للحناء تعجنه وهي تغني، وتضعه وهي تغني، رغم أني شاهدتها تبكي في أيام كثيرة حين تمر بالقرب من البحر، غير أنها حاربت حزنها بالحناء وصناعته، كانت تعشق اللون الأحمر الذي يتركه، وتحب تلك الرائحة التي تظل تعبق في غرفتها لأيام متتالية.
أخبرتني ذات يوم حين أصابني صداع قوي بأن وضع الحناء يساعد في التقليل من الصداع الذي يزورني في فترات متقاربة، ضحكت عليها في سري، وقد أيقنت بأن عمتي وضعت استخدامات كثيرة لتلك الشجرة، وما زلت أتذكر تلك الصفوف الطويلة من أشجار الحناء التي ملأت بها بيتها، أصبحت تصنع أكبر كمية من الحناء وتوزعها على بيوت الأقارب والجيران بنية الصدقة.
رفضت عمتي دخول الحناء الصناعي إلى بيتها، غضبت بشدة حين شمت رائحته القوية، ورفضت فكرة كل تلك المكونات الصناعية التي تدخل في تركيبه، تجدها تغير من قوامه ولونه، وتجعله كيانًا زائفًا غير طبيعي.
في يوم رأيتها تبكي وهي تزيل إحدى شجيرات الحناء التي أصابها الجفاف، تعجبت من تصرفها وازددت تعجبًا حين قالت: كلما رحلت شجيرة زرعتها بيدي، رحل شيء من روحي، أبكيها لأنها قطعة مني، مثل ولدي صالح ربيته ورحل، والحناء غرستها وسقيتها ورحلت بهدوء.
تحمل الشجيرة بصمت، وبعد أيام تزرع شجيرة جديدة مكانها غير أن قطعة من روحها التي رحلت لا تعود لجسدها أبدًا.
ذات عيد لم تعجن الحناء الذي جهزته مسبقًا، وضعته في كيس في المخزن القديم، كانت صديقتها صبيحة قد ماتت، بكتها لأسبوع كامل، لم تكن صبيحة صديقة فحسب، بل كانت قلبًا وروحًا أخرى لعمتي سليمة، حين دخلت عليها قالت لي ودمعة كبيرة تسقط من عينيها: «اليوم بعد فقدت قطعة أكبر من روحي»!
بعد وفاة صبيحة هاجم الضعف عمتي سليمة، كبرت سنوات عدة دفعة واحدة، صار لون شعرها أبيض بلون القطن، انحناء ظهرها أصبح أكثر بروزًا، حتى شجيرات الحناء أهملتها، تقضي السواد الأعظم من يومها في حوش الدار، فوق الحصير الذي اعتادت أن تجلس فيه مع صبيحة، أصبح حديثها مقتصرًا على حياة صالح وصبيحة، حين حدثتها عن الحناء تنهدت ورفعت رأسها نحو السماء، شعرت بالخوف حين أخبرتني أنها اشتاقت لصالح وصبيحة، وأن القطعة الصغيرة المتبقية من قلبها لن تسعفها لإكمال المسير.
أصبحت عمتي سليمة تجلس فوق الحصير صامتة أغلب وقتها، حاولت إغراءها بالحناء وبرغبتي في وضعه على يدها، ردت بعلامة من رأسها تدل على رفض قاطع.
أكلت التشققات قدميها، وطالت شجيرات الحناء ثم تداخلت مع بعضها وبدأت في الذبول، حدثتها عن وعدها لي بوضع الحناء في قدمي في ليلة الحناء، صمتت هذه المرة دون رد، شعرت بأن عمتي سليمة تذبل بسرعة هذه الأيام، أصبح حتى كلامها وطعامها يتناقص بطريقة واضحة، وتحدق في السماء معظم الأحيان.
بعد ثلاثة أيام من حديثي معها، وجدتها تجهز الحناء وتسكب عليه ماء الليمون المجفف، كانت تعجنه بحماس، وقالت لي: اليوم ضعي لي الحناء.
وضعتُ لها الحناء فوق كل تلك التشققات التي برزت بأشكال مختلفة، ووضعتْ رأسها على الوسادة، قبلتُ يديها بكل حنان، وقبّلتْ يديّ بحرارة، وأمسكتني لتتأمل ملامحي لدقيقة كاملة.
في الصباح ذهبتُ لأسألها عن الحناء الذي وضعته، تعجبتُ حين شاهدتُ باب غرفتها المغلق، فتحته بسرعة، وتحت الضوء المنبعث من المصباح وجدتُ جسد عمتي كما تركته بالأمس، رفعتُ الغطاء عنها بقلب مرتجف، هززتها عدة مرات، ما زالت رائحة الحناء تنتشر في أرجاء الغرفة، وقطعتي القماش تغطي قدميها، بينما نظراتها مصوبة نحو سقف الغرفة بكل صمت وسكون.
أمل المغيزوية قاصة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحناء التی الحناء فی
إقرأ أيضاً:
محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق
إن المتدبِّر في محكمات الشريعة ومسلماتها، ليتهادى بين يديه ويقف شاخصا بين عينيه؛ ذلك التطرُّق المصلحي النَّفعي للعباد في تفاصيل الأحكام ولميَّاتها، وتلك المكارم والنفحات الإلهيَّة التي ينصبغ بها الخطاب المؤسِّس للتَّكليف؛ فلا تكاد ترى ذلك الأمر أو النَّهي الجازمين، إلا وترى -في الحين عينه- ذلك التَّحنان والامتنَان الذي يمازجهما ممازجة الدَّم اللحم، فلا ينقطع حضورُ قلب المكلَّف عن شُهُود هذه المعاني، وإن كان الذي يطرقُ السَّمع في معطاه الظَّاهري هو من بابة الحثِّ أو الزَّجر؛ يقول العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلَامِ -رحمه الله- في (قَوَاعِد الأحكام): “التكاليفُ كلُّها راجعةٌ إلى مصالحِ العبادِ في دنياهم وأُخراهم، واللهُ غنيٌّ عن عبادةِ الكلِّ؛ ولا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين”.
وهذه الكليَّة الشرعية المتدبَّرة في التَّوجيهات الإلهية والنبوية؛ لتُوحي لمعاشر المجتهدين وفئام النُّظار، أنه لن يُستفرغ الوسعُ، ولن تُؤدى رسالةُ البلاغ، ولن تلامسَ الأرواح برْدَ اليقين؛ ما لم يكن العطاء المحاسني والإيحاء المقاصدي عضيدًا للألفاظ في ساحة مدلولاتها، وأنيسا للأقيسة في سماءات إلحاقاتها؛ يقولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه اللهُ- في (مجموع الفتاوى): “وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ؛ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِن الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ”.
إنَّ هذا المشهد والذي يضرب فيه المددُ المحاسني بعمقٍ، ليسجلُ هذا التجلِّي أن يكون المكوِّن المحاسني حاضرا في ميادين العلوم وساحات الفنون الشَّرعية، ولياذننَّ أن يتبوئَ من مقعدها خير متكئٍ، وأن يتفيئَ من باسقها أوفر ظليليةٍ؛ فهو القادح لزناد المقايسات العليَّة، والناظم لجمعيَّة الدلالات اللفظيَّة، وهو الذي يتصدر جيدُه وينبض وريدُه، ويُلقي أسمال الحياة ويبعث إكسيرَ الخلود في شخوص تلك الفروع وطُوليات الأحكام المسبحة بكمال وجمال إرادة الربِّ الشرعية؛ يقولُ الشيخُ وَلِيُّ اللهِ الدِّهْلَوِيُّ -رحمه الله- في (حجة الله البالغة)، وهو يؤسس لعملقة
هذا الفنِّ النَّوراني: “هذا؛ وإنَّ أدقَّ الفنونِ الحديثيَّة بأسرِها عندي، وأعمقَها محتدًا، وأرفعَها منارًا، وأَوْلى العلومِ الشَّرْعِيَّة عن آخرها فيما أرى، وأعلاها منزلةً وأعظمها مقدارًا: هو علمُ أسرارِ الدِّين، الباحثُ عن حِكَمِ الأحكامِ ولمِّياتِها، وأسرارِ خواصِّ الأعمال ونِكاتِها؛ فهو -واللهِ- أحقُّ العلومِ بأنْ يَصْرِفَ فيه مَنْ أطاقَه نفائسَ الأوقات، ويتَّخذَه عُدَّةً لمعادِه بعدما فُرِضَ عليه من الطاعات؛ إذْ به يصيرُ الإنسانُ على بصيرةٍ فيما جاء به الشرع، وتكونُ نسبتُه بتلك الأخبارِ كنسبةِ صاحبِ العرُوضِ بدواوين الأشعار، أو صاحبِ المنطق ببراهين الحُكماء، أو صاحبِ النَّحْو بكلامِ العَرَبِ العَرْباء، أو صاحبِ أصولِ الفقه بتفاريعِ الفقهاء، وبه يأمنُ من أن يكونَ كحاطبِ ليل، أو كغائصِ سيل، أو يخبطَ خبطَ عشواء، أو يركبَ متنَ عمياء”.
ثم إنه -بعد وارق هذا الفَنَن- لم يلبث قلمُ الفكر الإسلامي، وفي وقت مبكِّرٍ من الولادة التدوينية: أن تمسَّ أناملُ الصَّنعة وأن تبحرَ سفائنُ الكَشف، عن ذلك الخِدر الطَّاهر والخِبء النَّادر والمشرع المورود؛ فأفصحَ لسانُ الحقيقة والمجازِ عن سُدَّة الإعجاز، وتطاوحت هامة العقلِ المبجَّل ساجدةً بين يدي إحكامات وإتقانات الوحي المنزَّل، وأمطرت زُبُرُ الأحكام وصُحُف التكليف غَيثًا غَدَقًا مُجَلَّلًا طبَقًا؛ حتى اخضَّرت أرواح النَّاظرين والمتدبِّرين، وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيجٍ.
وفي هذا العمر الوليد من تاريخ التدوين الإسلامي، وفي قرنه الرَّابع الهجري، وهي طبقةٌ مبكرةٌ، ربما لم تشبَّ فيها بعضُ العلوم المركزيَّة؛ أطلَّ علمُ محاسن الشريعة، وأيُّ إطلالة كانت؟! فقد سُجِّل في هذا القرن عددٌ من مصادر ومدوَّنات هذا الفن التشريعي، ثم قدمت هذه المصادرُ مادة إثرائية رائدة، وكأنَّه عصر من عصور النَّهضة والنُّضوج العلمي؛ وقد كان من أقطاب هذا النَّتاج المبتكر والمفتخر:
– الإمام الحافظ العارف الزاهد، أبو عبد الله محمَّد بن علي بن الحسَن بن بشر الحَكيم التِّرمذي؛ صَاحب المصنَّفات الكبار في أُصول الدين ومعاني الحَديث، والذي عاش إلى حدود سَنة (320هـ)؛ وذلك في كتابه الذي مَزَعَ قرطاسةَ هذا الفنِّ: إثبات العِلل.
– ثمَّ أَبو زَيد أحمد بن سهل البَلْخِي؛ صاحب التَّصانيف المشهورة، وأحد كبار النَّظار والفلاسفة، والذي تُوفي سنة (322هـ)؛ وذلك من خلال أطروحته الفلسفية عن إعجاز التشريع، المسمَّاة: (الإبَانة عن علل الدِّيانة).
– ثم أبو الحَسَن مُحمد بن يُوسف العَامري النيسَابوري؛ عالم المنطق والفلسفة اليونانية، والذي تُوفي سنة (381هـ)؛ والذي قدَّم طرحا توليديًّا لمعاقد وفصول وأطروحات المادة المحاسنية، حتى قدَّم لنا بابا كان خليقا بكل مضارعة ومشاكلة، وإن تُحفظ على فكره العَقَدي، وهو باب: القَوْل فِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَسَلَّقُ بها المُعَانِدُونَ للإسلام، وذلك في كتابه: الإعلام بمناقب الإسلَام.
– ثم محمَّد بن علي بن حسين بن مُوسى بن بابويه القُمي، المعرُوف بالشيخ الصَّدوق وبابن بابويه، من علماء الشِّيعة في القرن الرابع الهجري، والمدفون بالرَّي سنة (381هـ)؛ وذلك في مصنَّفه: علل الشرائع.
ثم بعد هذه الثَّورة التدوينية والدَّفق التصنيفي الكبير، والذي ربما توارى منه عن حركة الرصد التراثي بعضُ المخرجات؛ شهد هذا الحقلُ الشَّرعي فتورًا لافتًا، وأيُّ فتور كان؟! فقد توالت القرونُ المتطاولة، ونضجت المذاهب الفقهية، ولاحت أسرارُ الشريعة في أصول الأحكام وفروعها، وأينعت منها الثِّمار، واستقر على عرش التدوين جهابذة النظار وأساطين المفكرين؛ ولم تنبس شفةٌ، أو يخط يراعٌ، أو يُسود كاغدٌ، فيما بان من مطويَّات المطبوع والمخطوط؛ بل كانت رسومَ نقش لا يُرى منها إلا أطراف البنان، وإطلالة حييٍّ لا يبين منه إلا ذؤابة اللثام، وجرت بعد طيِّ هذه السنين مجرى اللمَامة من القَول، بعد أن كانت على أعواد منابر العلوم خطيبًا مصقعًا مفوهًا؛ فلم يُرَ فيما وُقف عليه، من المصنَّفات التراثية في محاسن الشريعة، والتي هي مستقلةٌ بذاتها في هذا الباب، بعد المائة الرَّابعة؛ إلا:
– كتاب (مَحَاسِن الإسلام)؛ لأبي عَبد الله مُحمد بْن عَبْد الرَّحْمَن بن أَحمد البُخاري الحُنفي، الواعظ المفسر المعروف بالزاهد، توفي في جمادي الآخرة سنة (546هـ).
– وكتاب (كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار)؛ من تأليف العلامة شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفهسي، الشَّافعي المعروف بابن العماد، تُوفي سنة (808هـ).
ومع هذه المفارقة الغريبة المتصدِّرة لهذا المشهد؛ فهو في قرنه الأول وبواكير نُشوئه ومخايل ولادته، يُسجل نشاطا مذهلا، يتعدَّى الحجم المتوقَّع لكتابة الأحرف الأولى في العُلوم المبتكَرة، ثم لم يمكث غيرَ بعيد إلا ويتهاوى هذا الشِّهاب من سماء الوجود، وتذوي أعذاقه الشَّامخات في جوف كل عنقود، ويتفرق جمعُه، ويدبر نُسَّاكه؛ وهو يقع من علوم الشَّريعة موقع الحسنة من الوجه الطَّاهر المشراقِ، ويقوم في سُوقها مقام المنافح المسدَّد المقدَام.
وقد كنتُ أُفاتح فضيلةَ شيخَنا العالم الجليل، الدكتور أحمد بن عبد الله بن حميد -حفظه الله- في ذلك، وكنَّا نُقلب أوجه الظنِّ في استكشاف السَّبب الذي يقف وراءَ هذا الانقطاع التأليفي المتطاول؛ ولعل مما يمكن تسجيله في هذه المقالة السَّببان التالية:
أولًا: أنَّ هذا الحقلَ مِن التَّصنيف الشَّرعي، قُدِّرَ له -في هذا العُمر المبكِّر- أنَّ أكثرَ من يطرقُه هم أصحاب العلوم الكلاميَّة والمناهج الفلسفيَّة، سواءٌ أكانوا معتزلةً أم صُوفِيَّةً أم شيعةً؛ وربما صدَّر هذا الاختصاصُ الاتِّفاقي بين أصحاب هذه المناهج انطباعًا تحفظيًّا على هذا المنحى التَّأليفي، وربما ظُنَّ به الافتئاتُ على أصول أو مسلَّمات النَّظر الشرعي في هذه المتعلَّقات التكليفية؛ هذا إذا ما ضَمَمْنَا إليه ذلك النَّهج التأسيسي والبنائي الذي تعيشه المذاهب الفقهية في هذه الفترةِ، وأنَّها كانت أمام متطلباتٍ من الوجودِ والبقاء ورسم خرائط العطاء والإنتاج الفقهي، ما كان كفيلاً بالانشغال عن ذلك الطَّرح المتقدِّم والثَّوري بالنسبة إلى هذه الفترةِ الحرجة من أعمار المذاهب الفقهيَّة؛ الأمر الذي جعل من هذا الحقلَ المحاسني أولويةً متأخرةً في هذه الروزنامة الفقهيَّة، خاصَّة وأنها قد تشوكَّت بهذا الطرح الفلسفي والكلامي، والذي ربما احتاج إلى عملياتٍ متضاعفةٍ من التَّنقيح والتَّسديد والمقاربة.
ثانيًا: وربَّما يجيب على استبقاء هذا الانصراف التَّأليفي عن محاسن الشريعة، حتَّى بعد تعدِّي هذه الأطوار المؤرِّقة من تكوِّن المذاهب الفقهيَّة، ووجود المساحات الواسعة والنِّزهة والقامات المتينة والمكينة من أوجه الإبداع والإثراء والفتح العلمي؛ وهو أنَّ الطَّريقة الاجتهاديَّة والأطروحة البنائيَّة التي انطلقت منها فكرة محاسن الشريعة وانقدحت عندها شرارتها الأولى، هي التزام القولِ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهذا الالتزام سجَّلت أمامه المدرسةُ الأشعريَّة، والتي تمثِّل جمهورَ المذاهب الفقهيَّة المتَّبعة، موقفًا علميًّا عقيمًا من التَّعاطي مع هذه النظرية التَّشريعية، وذهبت منها مذهبَ التَّعطيل والإلغاء والتَّفريط، ولم تقدِّم الاتزان المتواجب في هذا المشتبه الاستدلالي؛ يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في (مفتاح دار السعادة): “وَكَذَلِكَ الإِمَام سعد بن علي الزنجانى بَالغ فِي إِنْكَاره على أبي الْحسن الأشعرى القَوْل بِنَفْي التحسين والتقبيح، وَأَنه لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد، وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِم الرَّاغِب، وَكَذَلِكَ أَبُو عبد الله الحليمي، وخلائق لَا يُحصونَ؛ وكل من تكلم فِي علل الشَّرْع ومَحَاسِنه وَمَا تضمنه من الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد فَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بتقرير الْحسن والقبح العقليين… فَلَو تَسَاوَت الْأَوْصَاف فِي نَفسهَا لانسد بَاب الْقيَاس والمناسبات وَالتَّعْلِيل بالحكم والمصالح ومراعات الْأَوْصَاف المؤثرة دون الْأَوْصَاف الَّتِي لَا تَأْثِير لَهَا”.
إنَّ هذه المفارقة البحثيَّة في تاريخ التَّدوين في محاسن الشريعة؛ لتفتح آفاقًا واعدةً من الدِّراسات والتَّحقيقات التراثية، والتي تُنقِّب في الرَّصيد المخطُوط للأمَّة، بحثًا عما يمكن التبشيرُ به من مصنَّفات تسدُّ العوزَ العِلمي الذي يشوبُ هذا الحقل الشَّرعي الرَّائد، كما أنها تفتحُ أبوابًا مشرقةً أُخرى من الدِّراسات المنهجيَّة التي تؤطِّر عمليَّات توظيف وتفعيل المعطى المحاسني والمصالحي في الأحكام الجزئيَّة، بعيدًا عن هَلَكة الإفراط أو التفريط في نظرية التحسين والتقبيح العقليين؛ إنَّ مثل هذه الدِّراساتِ ونظائرها لتخفِّف على المجتمع المقاصدي والفروعي من وطئة عنوان هذه المقالة: محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق، وتُعيد ذلك المجدَ التَّليد لينطق شامخًا من جديد.