خصوصية الطوفان.. لماذا تصدعت السردية الإسرائيلية عقب 7 أكتوبر؟
تاريخ النشر: 25th, December 2024 GMT
قبيل فجر السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لم يكن المشهد الدولي عموما، والفلسطيني خصوصا، يشي بالحقيقة. بطريقة ما، اجتمعت كل "حقائق" العالم المخادعة لتُنتج كذبة واحدة ضخمة، وكان شرط أن تبقى تلك الكذبة الضخمة على قيد الحياة هو ألا تُخترق تلك "الحقيقة".
أما طريقة الاختراق فهي تجاوز نُظُم المراقبة والمدافع تلقائية التفعيل والأسوار الخرسانية السميكة التي صنعتها إسرائيل واستثمرت فيها مليارات الدولارات على الحدود مع قطاع غزة المحاصر.
الأكاذيب خادعة بطبيعتها، لا لأنها تُخفي الحقيقة فقط وتنقل واقعا مضللا، بل لأنها لا تُفصح عن أضرارها الكاملة. وهذا جزء من سيكولوجية الأكاذيب؛ ذلك أن وجودها بحد ذاته يُهين ذكاءنا وقدرتنا على الملاحظة والتحليل والنقد، وبالتبعية يُهين غرورنا نحن البشر.
لهذا السبب تحديدا، يقل أثر الأكاذيب مع الزمن مهما بلغت بشاعتها. فالأكاذيب القديمة لا تستفزنا، ولا تحفزنا على رد الفعل، لأنها أهانت مَن سبقونا، واستقرَّت حتى باتت بديهية، وهذا يُنسينا لعنة الأكاذيب الأهم؛ أنها لا تعيش، ولا تستقر، إلا لو تكاثرت، واستقرت باختلاف الأجيال، واحدا تلو آخر.
إعلانوفي هذا التقرير، سنستعرض تلك الأكاذيب التي فكّكتها عملية السابع من أكتوبر، وجعلتها واضحة للعالم كما لم تكن يوما.
"الكذبة الأولى"يعتقد الحاخام اليهودي الأميركي المناهض للحركة الصهيونية، "يعقوب شابيرو"، أن "الصهيونية هي الكذبة الجامعة التي تنطوي تحتها كل الأكاذيب اللاحقة"، على حد تعبيره. يشرح شابيرو فكرته خلال حوار مُطوَّل مع شبكة "تي آر تي"، ففي بدايات تبلور فكرة الصهيونية، لم يكن اليهود شعبا واحدا، أو قومية واحدة، أو حتى عِرقية واحدة، ولم تجمعهم ثقافة أو لغة أو عادات، أو حتى نسخة واحدة من الديانة اليهودية.
لذا كان يقال إن تجمعات اليهود المنغلقة في أوروبا، أو ما يُعرف بـ"الغيتو"، كانت موصدة من الداخل قبل الخارج، بمعنى أن اليهود أدركوا تمايزهم عن محيطهم الأوروبي المسيحي منذ قرون، وبما أن اليهودية ليست ديانة تبشيرية تسعى لجذب الكثير من الأتباع، فكان الحل المنطقي هو أن تتجمع الأقليات اليهودية في مجتمعات انطوائية، تُمكِّنها من الاحتفاظ بهذا التمايز وتراعي خصوصيتها.
من هنا أتت الفكرة للرعيل الأول من مؤسسي الحركة الصهيونية بتحويل الديانة إلى قومية. تلك كانت "الكذبة الأولى" بحسب وصف شابيرو؛ الهوية الموحَّدة التي سيجتمع عليها يهود الشرق والغرب والشمال والجنوب، المتدينون منهم وغيرهم، ثم فتح هذه المجتمعات على مصراعيها لتمتزج مع محيطها، لأنها الطريقة الوحيدة لاستمالة كل هذا المزيج المختلط.
المشكلة هنا، كما يشرحها "شابيرو"، أن قضية الحركة الصهيونية المحورية -أي إنشاء وطن موحَّد لليهود- إلى جانب توقيتها -أي عصر صعود القوميات الأوروبية- ساقت كل يهود العالم لاختيارات متطرفة؛ حيث كان بإمكانهم وقتها البقاء في أوروبا والتعرض للمزيد من النبذ والتشكيك بما أن وجودهم -بوصفهم أقليات- لم يعد منطقيا بعد "إنشاء وطنهم"، أو هجر مجتمعاتهم وحياتهم التي بنوها لعقود لأجل احتمالية مبهمة لم تبدُ واقعية أو مستدامة.
إعلانهذه الخيارات الضبابية هي ما دفع مؤسسي الصهيونية الأوائل لصناعة حالة من العداء بين اليهود وبين الدول التي يعيشون بها، وذلك بحسب توصيف شابيرو نفسه، وهو ما يحكيه المؤرخ اليهودي "آفي شلايم" عما وصفها "بالعمليات الإرهابية التي نفذتها أجهزة المخابرات للعصابات الصهيونية في العراق واليمن والمغرب لدفع أقلياتها اليهودية للهجرة للمشروع الاستيطاني الناشئ"، كما يقول شلايم .
وفي نظر الصهاينة الأوائل، لم يكن من الممكن تعريف اليهود بما هم عليه، بل أرادوا تعريفهم بما هم ليسوا عليه، أي تعريفهم بالنقيض، حتى يصبح ذلك النقيض هو "الهوية الحقيقية"، وبذلك بات تعريف الذات مبنيا على عداء الآخر لها، وهذا ما يعرفه علماء النفس بالهوية السلبية.
هذه "الأكاذيب"، كما يصفها شابيرو، صنعت جزءا لا بأس به من المشهد؛ فهذا الاستعداء لكل ما هو "غير يهودي" تطور في العقود التالية إلى نظام تعليمي متكامل، يحكي سردية موازية للتاريخ، لا تاريخ العرب والفلسطينيين وحسب، بل تاريخ العالم، ويقسمه إلى فئتين فقط لا غير؛ اليهود، وأعدائهم.
بين الحقيقة والروايةتعتقد الدكتورة "نوريت بيليد-الحنان"، أستاذة فقه اللغة بالجامعة العبرية بالقدس، أن المكوِّن الأوضح في المناهج التعليمية الإسرائيلية هو العداء المبطَّن لكل ما هو غير يهودي، فالأطفال يتعلمون في المدارس أن الجميع يلاحقهم من فجر التاريخ لمجرد كونهم يهودا.
وبالتالي، فلا فرق بين آشوريين ما قبل الميلاد، ولا رومان ما بعد الميلاد، ولا إنجليز القرن الثاني عشر، ولا نازيين القرن العشرين، ولا عرب القرن الحادي والعشرين. كلهم أوجه لعُملة واحدة.
هذا ما يمكن ملاحظته بوضوح من خطاب الدولة الرسمي وخطاب عوامها كذلك، وما تقوله الدكتورة "الحنان" إنه أمر مخطط ومدروس ومقصود، لأن الدولة التي قسّمها الرئيس الإسرائيلي السابق "رؤوفين ريفلين" إلى ما سمَّاه "العشائر الأربعة" تحتاج إلى هذا العداء مبررا لوجودها واتحادها، وتستخدمه في تحفيز المزيد من الهجرات الجماعية الضرورية للإبقاء على تفوقها العددي على الفلسطينيين، وهي مسألة أخرى تعاني فيها إسرائيل بشدة.
إعلانهذا ما يمنح وثائقي "تشهير" (Defamation) أهمية خاصة، كونه العمل الذي عبَّر عن هذا التناقض بأفضل طريقة ممكنة، وكذلك لأنه حظي بنفاذية لم يكن أي عمل آخر قد حظي بها عند إصداره، خاصة أن منتجه يهودي وإسرائيلي.
ففي عام 2009، تمكَّن المنتج، الصحفي الإسرائيلي "يؤاف شامير"، من إقناع رئيس منظمة "عصبة مكافحة التشهير" الأميركية "آبراهام فوكسمان"، بأن ينتج وثائقيا عن معاداة السامية، وهذا السبب -إلى جانب جنسيته طبعا- جعل "فوكسمان" يثق به على الفور، ويفتح له مكاتب المنظمة على مصراعيها، ويصطحبه معه في كل رحلاته الميدانية، بل ويسمح له بتصويره وتصوير أعضاء المنظمة وهم يناقشون أسرارا خطيرة، كالولاء المزدوج لإسرائيل على حساب مواطَنَتهم الأميركية.
ما كان ينويه "شامير" فعلا هو أن ينتج رؤية تحليلية ناقدة للمسألة وليس فيلما دعائيا منحازا، ولم يدرك "فوكسمان" وأعضاء المنظمة وقتها حقيقة ما يجري حتى عُرض الفيلم.
وبعد عرضه، تعرَّض شامير لهجوم واسع قادته المنظمة. لكن الوثائقي خرج ليؤكد ما كانت الدكتورة "الحنان" ستصفه في كتابها، "فلسطين في كتب التعليم الإسرائيلية"، بعدها بثلاث سنوات فقط.
أحد المشاهد اللافتة في الوثائقي وقعت أثناء تقصي إحدى حالات معاداة السامية التي بلَّغت المؤسسة واعتبرتها إحدى الحالات المتعددة للتمييز الذي يتعرَّض له اليهود.
لكن شامير، وباعتباره صحفيا في المقام الأول، ذهب ليتتبع الحادثة. وبسؤال "شيا هِخت"، الحاخام الأميركي وأحد قادة المجتمع اليهودي في المنطقة التي وقعت فيها الحادثة، اعتبرها "مُبالَغا في تقديرها"، فلا يمكن تفسير أي اعتداء على أي يهودي بكونه نابعا من معاداة السامية.
"أنا أرتاب عندما أرى رجلا يصنع رزقه من مشكلة معينة، فلو كان هناك رجل يتكسّب من وقائع معاداة السامية، ويجمع على إثرها التبرعات، فسأشك في تقاريره وبلاغاته عن وقائع معاداة السامية. هذا الرجل يحتاج إلى مشكلة ليبقى على وظيفته".
الحاخام الأميركي "شيا هِخت" – وثائقي "تشهير". تأصيل الزيفهنا تلتقي نظريات "شابيرو" و"شامير" ودكتورة "الحنان" في مشهدين محوريين في الوثائقي، عندما يذهب "شامير" رفقة طلبة الجامعات الإسرائيلية في الرحلة السنوية التي تنظمها المؤسسة إلى معسكرات الاعتقال النازية في بولندا.
إعلانفي المشهد الأول يتجمّع فوج الطلبة في أحد الميادين وهم يحملون أعلام إسرائيل، فتتوجَّه فتاتان بالسؤال عن الطريق الذي ينبغي لهما السير فيه لمجموعة من المسنين البولنديين الذين لا يجيدون الإنجليزية، وبمجرد فشلهما في التفاهم، تفترض الفتاتان أسوأ احتمال ممكن؛ هؤلاء البولنديون ينعتوننا بـ "العاهرات".
يحاول "شامير" -الذي يفهم البولندية- التصحيح لهما لاحقا، ولكن دون جدوى.
ثم يتبع الموقف السابق موقف مشابه في الفندق الذي يعامله الفوج الزائر وكأنه سكن جامعي، فيركضون خلف بعضهم في الطرقات، ويتمازحون ويلعبون ويتشاجرون بصوت عالٍ، فيأتي موظف الاستقبال ليبلغهم بشكوى باقي النزلاء من الضوضاء.
بعدها، سأل شامير الطلبة عن رأيهم فيما حدث، ليكتشف "شامير" أن تفسيرهم الوحيد للواقعة هو أن الموظف والنزلاء معادون للسامية.
صناعة هذه العقلية كان أمرا مفيدا للحركة الصهيونية منذ تأسيسها، ما دام يمكن استثمار أثر هذا الخطاب والتصوّر في دفع المزيد من اليهود نحو الهجرة إلى إسرائيل، أو بالحصول على المزيد من التعويضات والمساعدات، أو المزيد من الغطاء السياسي والعسكري والإعلامي.
يظهر هذا التناقض جليا في الدوائر الأكاديمية كذلك؛ منذ عقدين تقريبا، صدرت ورقة بحثية مهمة بعنوان "تراجع علم الاجتماع الإسرائيلي" للإسرائيلي "أليك إبستين"، الدكتور بعلم الاجتماع بالجامعة العبرية بالقدس، ويعتبر فيها أن ظهور مَن سمَّاهم بـ"علماء الاجتماع النقديين"، وتصدُّرهم المشهد بعد أن كانوا على هامش المجتمع الأكاديمي، يُعبِّر عن تراجع المجال في إسرائيل عموما، ليس لأن "علماء الاجتماع النقديين" قليلو الكفاءة، أو لم يستحقوا درجاتهم العلمية، بل لأنهم كوّنوا تيارا يشكك في الرواية الرسمية لنشأة الدولة، بل ويعادي الدولة ذاتها أحيانا.
من هذه الزاوية يتضح أن دعاية الحركة الصهيونية وسرديتها التاريخية بُنيت على معادلة صفرية، تقتضي أن تغِيب الحقيقة تماما -حتى لو صدرت من علماء ومؤرخين إسرائيليين- لكي تسود الكذبة، ثم تتكاثر، ثم تقضي عمرها كله في ابتكار أكاذيب جديدة تلاحق الثغرات التي أوجدتها الأكاذيب القديمة، وتلك هي الكلفة التي لا ندركها عند الكذبة الأولى؛ أن لكل كذبة حياتها الخاصة، وأن تكاثرها ليس اختيارا، بل ضرورة بقائها، وهذا هو المعنى الذي أكَّده الحاخام شابيرو وأكّده شلايم وغيرهما من اليهود المناهضين للصهيونية.
إعلانعلى الأرجح، مرّت اللحظة الأولى بالفعل منذ عقود، فظهور أول موجة من المؤرخين الجدد الذين شكَّكوا في السردية التاريخية لنشأة الدولة لم يؤثر في إعادة تعريف الحقيقة. وقد فشلت جميع المحاولات الرامية إلى المراجعة أو النقد، ولُفِظَ أصحابها، وهذا بالضبط ما مهَّد للحظة الثانية.
يهود معادون للصهيونية في أميركا يتظاهرون رفضا للحرب الإسرائيلية على غزة (الجزيرة) ما بعد الطوفانربما لا تكون اللحظة الحالية مناسبة لتقييم جدوى العملية العسكرية في السابع من أكتوبر وفائدتها، وهي مسألة متروكة للمحللين السياسيين والعسكريين. ولكنها، في الوقت ذاته، كافية لإدراك حقيقة أنها اختبرت السردية التاريخية لإسرائيل الاختبار الأكبر.
الطوفان كان أضخم عملية لفصائل المقاومة في تاريخ إسرائيل، وبالإضافة إلى عناصر المشهد المعلومة بالضرورة، مثل الإنترنت، وظهور المنصات المستقلة عن الحلف الغربي مثل "تيك توك"، فإن حجم العملية، وانكشاف جيش الاحتلال بقتله للمدنيين على مستويات واسعة ضَمِن انتباها عالميا غير مسبوق.
في تلك اللحظة، لم تكن فصائل المقاومة تحتاج من إسرائيل إلا أن تتصرف على طبيعتها، وما ترسّخ في المناهج الدينية والتعليمية. كان ذلك كفيلا بظهور عدائهم لكل ما هو غير إسرائيلي، حتى من أولئك اليهود الذين رفضوا أن يُقتل الأبرياء باسمهم، فأُطلق عليهم وصف "اليهود الكارهين لأنفسهم". كان كل ذلك كفيلا أن تصطدم كل كذبة بحقيقتها في الواقع الافتراضي وعلى الأرض.
الطوفان لم يوقف تكاثر الأكاذيب، ولكنه وضعها في سياق سريع مُعادٍ، لا يمنحها وقتا كافيا للتخطيط والنضج والهضم، بل تتحول فيه إلى ردة فعل عشوائية لمجزرة هنا أو مذبحة هناك، فتُنتج المزيد من الثغرات والثقوب، يعجز عن رتقها جيل من الإعلاميين والمُنظِّرين الذين نشؤوا في عهد سيادة الكذبة، وأفسدهم الانحياز الإعلامي الغربي، ولم يعتادوا النقد والتشكيك والحوار والأسئلة، ولا يعلمون عن العالم إلا ما تعلموه في المدارس ورحلات الجامعة؛ المرويات القديمة ذاتها التي لم تعد تقنع الكثيرين.
إعلانأسهم في كل تلك التغيرات ثلاث ملاحظات مهمة؛ الأولى هي ما أظهره موقع مركز "بيو" للأبحاث، الذي أظهر تغيرا في الديمغرافية المسيحية في المجتمع الأميركي، التي تُعد الرافد الأول للتأييد المطلق الذي حظيت به إسرائيل في الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة. وذلك بتراجع عدد مَن يُعرّفون أنفسهم بوصفهم مسيحيين من 90% من البالغين منذ بضعة عقود إلى 63% في 2022، وبالعكس، صعود نسبة مَن يُعرِّفون أنفسهم بكونهم "غير مُعرّفين دينيا" لتملأ هذا الفراغ.
المهم في هذا السياق هو أن كل المؤشرات تدل باستمرار على هذا النسق، كون نسبة أعلى ممن نشؤوا مسيحيين ينتقلون إلى المعسكر الثاني (المعسكر الذي لا يُعرِّف نفسه بوصفه مسيحيا) عند البلوغ، بينما العكس غير صحيح، فعدد أقل ممن نشؤوا غير مُعرّفين بوصفهم مسيحيين يصبحون مسيحيين عند البلوغ.
هذا يعني ببساطة أن الفئة الأميل لتأييد إسرائيل ودعمها في الولايات المتحدة الأميركية تقل باستمرار، وتتقدم في السن، وبالتبعية تصبح أقل نشاطا على منصات التواصل، وهو ما يفسر جنوح التجمعات الشبابية الجامعية لمساندة القضية الفلسطينية.
الملاحظة الثانية أنه في العقود الماضية كان قادة المجتمع اليهودي -وعلى رأسهم نتنياهو- ممن وُلدوا ونشؤوا بين المجتمعات الغربية التي يسعون لاستمالتها، وعاشوا لحظات ميلاد إسرائيل وصعودها لمكانتها الحالية في العالم، وهذا سلَّحهم بقدر من الحصافة في التعامل مع حلفائهم وأعدائهم، وقدرة على التفريق، في كثير من الأحيان، بين التكتيكي والإستراتيجي، على عكس "سموترتش" و"بن غفير" اللذين يقودان الجناح اليميني الآن، أبناء مستوطنات الجولان والضفة، وخريجي المدارس الكاهانية المتطرفة.
هذا كله أنتج مشهدا إعلاميا استثنائيا غير مسبوق في تاريخ الصراع، باتت تحتل فيه الحقيقة موقعا من المشهد بعد أن غابت كليا، لتزداد مساحة وجودها في قفزات ضخمة متصاعدة لا تبدو منطقية للوهلة الأولى، ولكنها تصبح كذلك عندما نضع في اعتبارنا الملاحظة الثالثة.
إعلانفمقابل كل مناضل خاطر بحياته في زمن سيادة الكذبة، كان هناك العشرات من الصامتين الخائفين من بطش آلة الدعاية، ومع كل معركة جديدة تُختبر الكذبة، وكل شجاعة يُظهرها الغزّيون تصيب العدوى أولئك الصامتين وتحررهم، وتدفعهم إلى تحرير غيرهم، فالحقيقة تقوى بالتكاثر أيضا.
لا أحد يعلم نتيجة هذه الجولة من الحرب، ولكن الجميع يعلم أن زمن سيادة الكذب والتضليل قد انتهى. خصوصية الطوفان لم تكن فقط في أنه أظهر للعالم وحشية جيش الاحتلال ضد الفلسطينيين، بل في كونه أيضا منح الجميع الفرصة لإظهار عداء "الجيش الأكثر أخلاقية في العالم" واستخفافه بالعالم ذاته.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات أبعاد معاداة السامیة المزید من لم یکن
إقرأ أيضاً:
إخفاق “الدفاع الجوي”.. لماذا تحتاج “إسرائيل” دعماً دولياً للتصدّي للصواريخ والمسيّرات؟
يمانيون../
منذ اللحظات الأولى لإطلاق المقاومة في قطاع غزّة، عملية “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر 2023، فشلت منظومات الدفاع الجوي لكيان الاحتلال الإسرائيلي في صدّ الصواريخ والطائرات الشراعية.
ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي، وتصعيد محور المقاومة استهدافاته للاحتلال ولقواعده العسكرية، ظهر من المحطات المتكرّرة في هذه الحرب أنّ منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلية بمستوياتها المختلفة غير قادرة على حماية الكيان بشكلٍ كامل من وصول القدرات العسكرية لجبهة المقاومة إلى أهدافها.
وخلال نحو عامٍ كامل لم تتمكّن منظومات الدفاع الصهيونية بطبقاتها المتعدّدة من التصدّي للإغراق الصاروخي، كما أنّها فشلت في التصدّي لأنواعٍ معيّنة من الصواريخ الفرط صوتية، والمسيّرات التي تطلق من لبنان، العراق، اليمن، وإيران، وهذا الفشل بدا جلياً من خلال عمليتي “الوعد الصادق”، التي أطلقتهما إيران ضد كيان الاحتلال الإسرائيلي في أبريل، وأكتوبر 2024.
لذلك، فإنّ فشل منظومات الدفاع الإسرائيلية في التصدّي للصواريخ الإيرانية والمسيّرات من دول متعددة، وعدم وفرة مخزون من الصواريخ الاعتراضية لدى الكيان أظهرت حاجةً إسرائيلية مُلحّة لطلب المساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية في مسألة الدفاع الجوي، وكذلك في مسألة تغطية التكاليف الهائلة للمنظومات الاعتراضية.
“القبة الحديدية” فشل متكرّر رغم التكاليف العالية
يستخدم الكيان الإسرائيلي درعاً دفاعية مُتعددة الطبقات لصدّ الهجمات الصاروخية عليه، وتتضمّن مجموعة إسرائيل عدّة منظومات ذات أبعاد مختلفة، أبرزها: القبة الحديدية، مقلاع داود، نظام أرو (السهم)، وتكلّف هذه الأنظمة ميزانية الكيان مبالغ طائلة، فضلاً عن تقلّص عدد الصواريخ الاعتراضية نتيجة استخدامها المتكرّر.
ومنظومة القبة الحديدية هي منظومة دفاع جوي صُمّمت لصدّ الصواريخ قصيرة المدى والقذائف المدفعية، ويصل مداها إلى 70 كيلومتراً، وتتكوّن من البطاريات التي تستخدم الرادارات لاكتشاف الصواريخ قصيرة المدى، وتحتوي كل بطارية على 3 أو 4 قاذفات و20 صاروخاً من نوع “تامير”، ورادار يتحكّم بمسار الصاروخ، وذلك بحسب شركة “رايثيون” المتخصصة بصناعة أنظمة الدفاع، والتي شاركت شركة “رافائيل” الإسرائيلية في إنتاج هذه المنظومة.
ومع أنّ جيش الاحتلال الإسرائيلي رفض التعليق على عدد بطاريات القبة الحديدية المنتشرة حالياً كونها معلومات “سرية”، لكن في العام 2021، كان لدى الكيان 10 بطاريات منتشرة في جميع أنحاء فلسطين المحتلة، كل منها قادرة على الدفاع عن منطقة تبلغ مساحتها 155 كيلومتراً مربّعاً، وفقاً لشركة “رايثيون” الأمريكية.
وعلى الرغم من أنّ التكلفة الإجمالية لتصنيع وصيانة وتطوير ونشر “القبة الحديدية” غير معلومة، ولكن مواقع أمريكية رجّحت وصول التكلفة إلى مليارات الدولارات.
ويقدّر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومقرّه واشنطن تكلفة إنتاج البطارية الكاملة بنحو 100 مليون دولار، في حين تبلغ تكلفة كل صاروخ اعتراضي نحو 50 ألف دولار. وخصصت واشنطن الداعم الأكبر لـ”تل أبيب” نحو 10 مليارات دولار لأنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية، بما في ذلك نحو 3 مليارات دولار للقبة الحديدية، وفقاً لخدمة أبحاث الكونغرس الأمريكي.
وخلال نحو عام من انطلاق “طوفان الأقصى”، ادّعى جيش الاحتلال الإسرائيلي أنّه اعترض نحو 9 آلاف صاروخ أطلقت من جبهات متعددة نحو الكيان بواسطة “القبة الحديدية”، فيما فشلت منظومات الدفاع الإسرائيلية في صدّ نحو 2000 صاروخ وصلت إلى أهدافها، وهذا يعني أنّ تكلفة الصواريخ الاعتراضية بلغت 450 مليون دولار من دون حساب الكلفة التشغيلية للمنظومة.
“مقلاع داود”.. مليون دولار لكلّ صاروخ!
أمّا الطبقة الوسطى في سلّم الدفاع الصاروخي للكيان الإسرائيلي فهي “مقلاع داود”، الذي يوفّر الحماية ضد تهديدات الصواريخ الباليستية متوسطة وقصيرة المدى، والطائرات المسيّرة، والتي يتمّ إطلاقها من مسافةٍ تتراوح بين 100 و200 كيلومتر.
وتستخدم هذه المنظومة صواريخ اعتراضية من نوع “ستانر” و”سكاي سيبتور” تعتمد على تقنية الضرب المباشر لتدمير الأهداف المعادية، ودخل النظام الخدمة الفعلية لـ “إسرائيل” منذ العام 2017 نتيجةً لتعاون مشترك بين شركة “رافائيل” الإسرائيلية وشركة “رايثيون” الأمريكية.
وفي مايو 2023، أجبرت المقاومة الفلسطينية، الاحتلال الإسرائيلي على استخدام منظومة “مقلاع داود”، للمرّة الأولى من أجل التصدّي للصواريخ التي أطلقتها في اتجاه يافا المحتلة “تل أبيب”، ويُكلّف إنتاج كل صاروخ “ستانر” نحو مليون دولار، وفق موقع “واي نت” العبري.
وأوضح الكاتب المصري والباحث في الشؤون العسكرية، محمد منصور، للميادين نت في وقتٍ سابق، أنّ تفعيل منظومة “مقلاع داود” ذات التكلفة العالية، يمكن النظر إليه أيضاً على أنّه إقرارٌ إسرائيلي بحجم المشكلات التي تُعانيها منظومة “القبة الحديدية”، وهي مشكلات بدأت “تل أبيب” في رصدها في ضوء المواجهات التي جرت بينها وبين المقاومة الفلسطينية خلال الأعوام الأخيرة، و”التهديد المستحدث”، الذي باتت تمثّله الصواريخ، والمتمثّل بـ”الإغراق الصاروخي”.
جوهرة تاج الدفاع الجوي الإسرائيلي يعجز عن اعتراض صاروخ أطلق من اليمن
كما يمتلك الكيان الإسرائيلي أيضاً نظام “آرو” (السهم) المتقدّم للدفاع الصاروخي، المكوّن من “آرو 2” و”آرو 3″، وقال المطوّرون إنّ هذا النظام يستطيع اعتراض الصواريخ التي يتمّ إطلاقها من مسافة تصل إلى 2400 كيلومتر، ويمكنه القيام بذلك فوق الغلاف الجوي للأرض، وتطلق عليه “إسرائيل” اسم جوهرة تاج الدفاع الجوي.
وصمّم نظام “آرو-3” لاعتراض وتدمير أحدث التهديدات بعيدة المدى، وخاصة تلك التي تحمل أسلحة دمار شامل. وتكتشف أنظمة الدفاع الجوي “آرو” عموماً، وتتبع وتعترض وتدمّر الصواريخ التي تحمل مجموعة من الرؤوس الحربية، وذلك على مساحةٍ كبيرة، وبالتالي تحمي الأماكن الاستراتيجية، وفق تعريف بالمنظومة نشره موقع Israel Aerospace Industries، وتبلغ كلفة كل صاروخ اعتراضي من طراز “آرو” أكثر من 3 ملايين دولار، وفق الرئيس التنفيذي لشركة الصناعات الجوية الإسرائيلية، بواز ليفي.
وعلى الرغم من كلّ المميّزات التي يتمتّع بها هذا النظام الدفاعي إلا أنّه وفي معركة “طوفان الأقصى” أثبت فشله في اعتراض صاروخ بالستي فرط صوتي أطلق من اليمن في سبتمبر 2024، وعبر أكثر من ألفي كيلومتر، ويُعدّ الأول الذي يضرب “إسرائيل” منذ تأسيس كيانها في العام 1948، وكانت الدفاعات الجوية الإسرائيلية استخدمت للمرّة الأولى نظام “آرو” لاعتراض صاروخ أرض-أرض أطلق من البحر الأحمر، في أكتوبر 2023.
جيش الاحتلال وفيما عدّه مراقبون “عذراً أقبح من ذنب”، أقرّ بأنّ منظوماته الدفاعية حاولت اعتراض الصاروخ المقبل من اليمن، ولكنها فشلت في ذلك، الأمر الذي كشف ثغراتٍ خطيرة في منظومة الدفاعات الجوية للكيان وأثار تساؤلات جوهرية عن فعّاليتها وقدرتها، في مواجهة الصواريخ المقبلة من جبهات الإسناد لغزّة ومقاومتها، وماذا لو أُطلقت عدة صواريخ ومسيّرات من أكثر من جبهة في وقت واحد؟
ما الذي ستضيفه منظومة “ثاد” للدفاعات الإسرائيلية؟
بعد عمليتي “الوعد الصادق 1و2″ واللتين أطلقتهما إيران ضد الاحتلال الإسرائيلي في 13 أبريل الماضي، ومرّة أخرى في الأول من أكتوبر، بدا بشكلٍ فاضح ضعف الدفاعات الجوية الإسرائيلية في اعتراض الصواريخ والمسيّرات الإيرانية.
هذا الضعف جاء على الرغم من اعتماد الكيان على مساندة دول أخرى لحمايته منها: الأردن، المملكة المتحدة، فرنسا، والولايات المتحدة الأمريكية الحليف الأبرز لـ”إسرائيل” التي تصدّت للمسيّرات والصواريخ الإيرانية، مع العلم أنّها حصلت على ساعات عديدة من التحذير قبل عملية “الوعد الصادق 1” أي أنها كانت تترقّب العملية التي كلّفت الميزانية الإسرائيلية أكثر من مليار دولار، وفق الإعلام العبري.
في عملية “الوعد الصادق 2” أطلقت إيران نحو 170 صاروخاً باليستياً استهدفت مواقع عسكرية عديدة في “إسرائيل”. وفي ظل العمليات الإيرانية وإطلاق الصواريخ والمسيّرات من دول محور المقاومة نحو الكيان، أشارت تقارير غربية إلى أنّ “إسرائيل” قدّمت طلباً موسّعاً للإدارة الأمريكية للحصول على ذخائر وأسلحة إضافية لإعادة تعبئة مخزوناتها، ومن أبرز هذه الأسلحة هي الصواريخ الاعتراضية لنظام الدفاع الصاروخي “مقلاع داود”، وفق موقع “ميدل إيست آي” البريطاني.
لذلك، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية، مؤخراً، نشرها منظومة الدفاع الجوي “ثاد” المخصصة لاعتراض الصواريخ الباليستية بعيدة المدى في “إسرائيل”، وتستخدم هذه المنظومة تكنولوجيا متقدّمة تعمل على تدمير الصواريخ من خلال أسلوب الضرب للقتل.
وتتألف منظومة “ثاد” من 3 قطع: رادرار، وحدة تحكّم، وعدة منصات إطلاق للصواريخ تحتوي 48 صاروخاً، وتحتاج هذه المنظومة إلى نحو 100 جندي إسرائيلي لتشغيلها، وهذا الأمر يعني تدخّل الجيش الأمريكي عسكرياً وبشكلٍ مباشر لحماية أمن الكيان، مع العلم أنّ تكلفة البطارية الواحدة مليار دولار، وتحتاج إلى نصف ساعة لإعادة تذخيرها، أما تكلفة الصاروخ الاعتراضي الواحد منها فتبلغ ما لا يقل عن 2.6 مليون دولار، كما أنّ شركة “لوكهيد مارتن” تصنع عشرات الصواريخ سنوياً فقط، لذلك فإنّ هناك مشكلة في الإمدادات.
ويلفت محللون سياسيون إلى أنّ نشر واشنطن لمنظومة “ثاد” في “إسرائيل” يعدّ نوعاً من الدعم المعنوي لها، ولن يحدث من الناحية العسكرية فرقاً كبيراً لصالح الكيان.
فلو افترضنا إطلاق إيران أو اليمن نحو 100 صاروخ نحو الأراضي الفلسطينية المحتلة وتصدّت منظومة “ثاد” لها فإنّ أكثر من نصف هذه الصواريخ ستصل إلى أهدافها. وفي وقتٍ سابق، فشلت منظومة “ثاد” في عدّة مواجهات، بما في ذلك خلال الهجوم الإيراني على قاعدة “عين الأسد” الأمريكية في العراق، والاستهداف اليمني لمنشأة الظفرة النفطية في الإمارات في العام 2022.
ودعمت الولايات المتحدة الكيان الإسرائيلي منذ السابع من أكتوبر 2023، بما لا يقلّ عن 17.9 مليار دولار، بخلاف تعزيز الدفاعات الإسرائيلية والتي تضمّنت، بحسب تقرير لوكالة “أسوشيتد برس” الأمريكية، شحنات من القنابل الموجّهة والقذائف، وصواريخ أنظمة الدفاع الجوية، فضلاً عن السحب العسكري من المخزون الأمريكي لتسريع تزويد الكيان بتلك الدفاعات.
ولكن كيف للولايات المتحدة التي تخشى نفاد مخزونها من الصواريخ الاعتراضية أن تدعم “إسرائيل” التي هي بدورها تُواجه نقصاً وشيكاً في الصواريخ الاعتراضية؟ ولا سيما بعدما أشارت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية إلى أنّ “البنتاغون” بات يعاني من نقص في بعض أنواع صواريخ الدفاع الجوي، الأمر الذي يُثير تساؤلات بشأن استعداداته للتدخّل في الشرق الأوسط دعماً للكيان الإسرائيلي.
الميادين رضا زيدان