«إن العداء المتسلّط على اللغة العربية متجذّر فـي الثقافة الغربية. تجلت مخالبه واستشرت مخاطره أواخر القرن التاسع عشر مع عتّو الهجمة الاستعمارية التي استندت إلى خطاب كَيدي مخاتل تحت عباءة تمدين الشعوب البدائية، وقد اعتمد الكيد خطابا ناسفا لمقومات الانتماء اللغوي، ومن أعتى مكائده أنه انبرى فـي صورة الغيور على العرب والمتحمس لنهوضهم الحضاري، ومن أجل ذلك لم يدعهُم إلى ترك لغتهم والانخراط فـي اللغة الأجنبية، وإنما دعاهم إلى ترك العربية الفصحى وتبني العاميّة بإعلائها إلى منزلة اللغة الرسمية كي تصبح حاملة لأعباء المعرفة والعلم والتقدم».
بهذه الكلمات البليغة والرسالة الهادفة الواضحة التي كتبها الدكتور عبدالسلام المسّدي -أطال الله فـي عمره- نقول بكل هدوء، مرّ اليوم العالمي المخصص للاحتفال باللغة العربية فـي الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، مرور التابعين والباحثين عن الأمل والعمل. المتأمل والفاحص فـي كلمات المسدي يجده ربط النهوض العربي باللغة العربية، فهي بهذا المعنى تعني أن وجودنا فـي العالم ينطلق من وجود اللغة التي نتكلم بها، لا يقتصر كلامنا فـي الوقت الراهن بل يمتد إلى الماضي السحيق. فإذا اللغة هي بيتنا وثقافتنا وهُويتنا ومجال تقدمنا وخطابنا إلى العالم، فلماذا هانت علينا؟
والفاحص فـي الفقرة السابقة، يلاحظ أن حرب الغرب المتقدم بأسلحته وأمواله وخططه وبرامجه، الحرب الموجهة إلينا، ظاهرها تنويرنا وتعليمنا وتحديثنا، وباطنها إبادتنا ونسفنا وتأكيد عبوديتنا وإذلالنا. وإلا كيف نفهم مجريات الأحداث الكبيرة التي عصفت بالمنطقة العربية منذ ما سُمي بالربيع العربي؟ كيف نستطيع أن نفهم أن الإطاحة برئيس دولة ما، هو نصرةٌ للغتنا وهُويتنا؟ وفـي ظل حرب الإبادة الممتدة من طوفان الأقصى إلى اليوم فـي فلسطين وغزة وأكناف بيت المقدس وما حدث بعدها فـي الوطن العربي وما يجري مناقشته فـي وسائط التواصل الافتراضي من سيناريوهات تهاجم لغتنا وثقافتنا وجغرافـيتنا، كيف نستطيع أن نستبعد مفهوم المؤامرة ضدنا؟
مرّ يوم الثامن عشر من ديسمبر مرور العربي الذي باع نخلته، وطَمَر بئره، ورَهَن سيفه لدى المغول. مَر وكل شيء من حولنا يدعو إلى افتعال النسيان لا التذّكر، الاحتفال والذبح للضيف الغريب، لا للوقوف عند التأسي والحزن والخذلان. فهذه كلمات يُخطط لحذفها من معاجم اللغة العربية وقواميسها، كما خُطط لشطب ومحو قراها وبلدانها وشوارعها من الجغرافـيا!
مرّ يوم الثامن عشر من ديسمبر والأسئلة القديمة تتجدد صاعدة من كل فجّ عميق: ماذا يعني مناسبة الاحتفال باللغة العربية؟ ما العلاقة الجدلية بين المسرح واللغة؟ أي اللغات أفضل للعرض المسرحي، اللغة العربية أم اللهجات المحلية؟ هل اللهجة الدارجة لغة أصلية أم مجرد لهجة! هل الكتابة باللهجة المحلية فـي نص أدبي مكتوب باللغة العربية الفصحى عيب أنه مصدر انتماء وقوة للنص الأدبي؟ هل يعد نقصا تقديم عرض مسرحي بلهجة غارقة فـي المحلية أمام جمهور عربي؟ لماذا يُستعان بمعقبين لغتهم الرسمية الفرنسية للتعليق على عرض محلي خليجي لغة أهله الأساسية الإنجليزية بعد اللغة العربية؟ لماذا يتحدث المسؤولون فـي اجتماعاتهم باللغة الإنجليزية أو الأوردية، فـي حين يؤكدون فـي خطاباتهم الرسمية على إيلاء اللغة العربية الاهتمام الأول؟ لماذا يصرّ بعض المتنفذين (وهم من السياسيين التابعين) على إقصاء اللغة العربية من الأقسام العلمية وجعل اللغات الأجنبية هي لغة العلم والامتحان والمقابلة والتفوق؟
عندما احتل العدو؛ -وأعرّفه هنا حصريًا بذلك الذي يعتدي على أرض وشعب يهدف إلى استعباده وفرض وصايته عليه- الشعوب التي فـي معياره هي الأقل والأضعف والأشد جهلا، بهدف تنويرها وتعليمها مبادئ الانفتاح والحريّات المَدنية، دخل عليها عن طريق خلخلة شعورها بلغتها وثقتها بنفسها، وقلة تقديرها لأعرافها وتقاليدها. عُرف هذا النوع من الاحتلال الممنهج بالغزو الثقافـي، وتجلى أظهر مظاهر الغزو فـي انسلاخ الشعوب المحتَلَة من مكونها اللغوي أو اللهجي، وهذا من خصائص الجوانب السلبية للعولمة الثقافـيّة.
فـي سياق الدراما، فإن الدراما المصرية الأكثر انتشارا وتوسعا وتمددا فـي بلادنا العربية، يشكو بعض نقادها من تغلغل بعض المفردات الدخيلة عليهم والمنتشرة بين مجموعات من الشباب، وكذلك تشهد الدراما الخليجية من تلك الظواهر التي تتعامل مع مفردات الماضي كأنها مُتحف أو سجل لحفظ الألفاظ التاريخية، دون إعمال العقل فـيما يقف وراء هذا الانسياق.
لا شك يقف وراء تراجع الشعور بقوة اللغة العربية، وعدّها لغة صالحة للاحتفال فـي المناسبات، هم أهل اللغة أنفسهم ومعاجم لغتهم وقواميسهم ومدارسهم وجامعاتهم وإعلامهم. ينطلقون من أن اللغة العربية لا تصلح إلا للمتاحف، وأنها عصية على التعلّم ومن ثم الفهم. وهذه واحدة من مشكلات التعامل مع اللغة، حينما ينظر إليها أبناؤها على أنها لغة صعبة وقاسية ومتخلفة ورجعية، وأن الآخر لغته قوية ومهيمنة ومسيطرة وبها عذوبة وغيرها من صفات المديح.
فـي سياق التخلف الحاصل اليوم لتعلّم اللغة العربية، ومخرجات المعلمين لها، وواقع إنجازهم التعليمي المعاصر، فإن عدد الناطقين بها فـي العالم يزداد بنسب مرتفعة، ويبشر ذلك لدى الغيورين بالخير على اللغة، على نحو من الأنحاء. إذ يبلغ اليوم عدد المتكلمين باللغة العربية فـي العالم نحو النصف مليار، أو يزيد متكلما. فما الذي يدفع هؤلاء إلى تعلمها؟ على سبيل الشاهد، فـي المؤتمر الدولي الأول (توظيف التراث فـي الأدب العماني) الذي أقامته جامعة الشرقية فـي ولاية إبراء بمحافظة شمال الشرقية للفترة من 8-10 أكتوبر 2024م، تحدث الباحثون المشاركون من جمهورية الهند عن شغفهم باللغة العربية وضرورة معرفتها وتعلّم قواعدها لقراءة الأدب المكتوب بها، وكذلك أشار الباحث الأذربيجاني، إلى إعجابه باللغة العربية وقراءة الشعر والروايات والمسرحيات التي ساعدته على حبّ اللغة واكتساب مهارات التواصل. فلم يقل هؤلاء عنها إنها لغة مستعصية، أو تمنع التقدم الحضاري للعرب، بل رأوا فـيها جمالا أخاذا وانفتاحًا ومنطقًا. إنّه جمال فـي اللغة؛ حيث يراه أغلب من تعرضت بلاده ولغته وموسيقاه وأغانيه إلى الاحتلال من طرف عدو يريد الاستئثار بالنعم وحده.
فهل نظل نُعيد ونكرر مع (المخربين، والمُطبعين، والمستفـيدين) أن ما يهدد لغتنا العربية إنّها ليست لغة علمية، وليس لديها فقه تكنولوجي، وأن الغرب الاستعماري الذي يصفه عبدالسلام المسّدي، بالماكر والخبيث، ترمي خططه إلى تخريب لغتنا العربية بصمت داخلي كبير غير معلن. لا شك فـي أن الأخطار التي تُهدد لغتنا العربية اليوم كبيرة وشنيعة، ظاهرة وباطنة، خارجية وداخلية. وما الاحتفال بها فـي يومها إلا شكلٌ من أشكال محاولة إنعاش الجثة قبل أن تموت.
هناك سؤال مهم أيضًا: هل تهديد اللغة العربية طريق لتهديد مسرحنا وكتابتنا؟ هل تهدف الرقمنة إلى وضع مخطط يهدم مشاعرنا الذاتية الخالصة تجاه الكلمة العربية؟ هل سينجح مصطلح ما بعد الدراما فـي القضاء على عناصر تراتبية بنية الحكاية التقليدية؟ ماذا نقول عن السيل العارم من الكتابات ذات الهذيان والضياع وجحود العلاقات الاجتماعية لدى الأسرة الواحدة؟ ماذا نقرأ وراء اللاوعي الساكن فـي مسرحيات شخصوها مريضة وممزقة فـي عوالمها الداخلية، تعاني إرهاصات متراكمة من الأمراض القاتلة، وتذهب إلى عيادة الطب النفسي، ثم لا تجد حلا إلا فـي الانتحار؟ أسئلة كثيرة تُعاد وأخرى تتجدد والاحتفال باليوم العالمي للغة العربية يمضي بنا إلى نفق مظلم جدا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: باللغة العربیة اللغة العربیة
إقرأ أيضاً:
اللغة العربية هوية
فى 18 ديسمبر 1973 قررت الأمم المتحدة إدراج اللغة العربية لغة رسمية فى أروقتها وقراراتها ومؤتمراتها، وبعدها بعام أعلنت منظمة اليونسكو يوم 18 ديسمبر من كل عام يومًا عالميًا للاحتفال والاحتفاء باللغة العربية التى يتحدث بها قرابة 400 مليون فى البلدان العربية والأفريقية ولأنها لغة القرآن الكريم كما أنها تلك اللغة التى أسهمت فى نقل الحضارات القديمة من يونانية ورومانية وفارسية إلى الغرب من خلال ترجمات أهل العلم والفكر فى الدولة الإسلامية، خاصة دولة الأندلس حين كانت هناك حضارة عربية غربية على أرض شبه جزيرة إيبيريا على مدى 800 عام حتى سقطت آخر معاقل تلك الدولة فى عام 1492 وهو ذات العام الذى اكتشف فيه كريستوفر كولومبس البرتغالى قارة أمريكا أغسطس 1492 وهى إشارة وإذان بسقوط حضارة وبداية أخرى.
اللغة العربية الآن على المحك ليس فقط للحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى يمر بها الوطن العربى والمنطقة التى يصرون الآن على تسميتها الشرق الأوسط الكبير لإدراج الكيان الصهيونى ودولته الغاشمة ضمن المنطقة العربية وحتى يمكنوا أيضًا من طمس أولى وأهم مفردات وأركان الثقافة ألا وهى "العربية" مفردًا وصفة ومعنى وفكرًا؛ ولكن لأن اللغة العربية تواجه أكبر التحديات ألا وهو التكنولوجيا الحديثة وما يسمى «الذكاء الاصطناعى» وتداعياته من المحتوى الرقمى الذى ما زلنا فى واد بعيد عن الدخول إلى عوالمه الغريبة والمخيفة... الأطفال والشباب يتعاملون اليوم مع التطبيقات الحديثة والألعاب والترفيه والعلم عن طريق التليفونات المتاحة للجميع وهى مؤثرة على الأجيال الجديدة بصورة مرعبة سواء فى مجال الإعلام أو الفن أو الثقافة والتواصل والتكوين الفكرى والسلوكى ولكن الأخطر والأهم الآن هو العلم والتعليم...
يستخدم الصغار والشباب تطبيقات الذكاء الاصطناعى فى الوصول السهل السريع للمعلومات وليس البحث الدقيق من أجل المعرفة والعلم وأيضًا القيام بالواجبات والتكليفات والابحاث والرسائل العلمية الأكاديمية دون معرفة وتعلم...
فى المدارس لا توجد وحدات لقياس الاقتباس والنسخ من تطبيقات الذكاء. الاصطناعى وكم المعلومات المغلوطة التى يبثها، بينما الجامعات كذلك لا تهتم بالدرجة العلمية المطلوبة لهذا الأمر الخطير، وإن كانت الرسائل العلمية فى بعض الجامعات العريقة والراسخة تخضع لهذه الاختبارات لقياس مدى ونسبة الاقتباس من تلك التطبيقات فيما يخص الرسائل الأكاديمية إلا أن المشكلة الكبرى الآن فى المدارس وفى طلاب مراحل الليسانس والبكالوريوس وفى المعاهد والمراكز التى تمنح درجات وشهادات قد لا تكون مدققة بشكل كاف علميًا.
اللغة العربية بعيدة عن التكنولوجيا وعن تلك التطبيقات وعن المحتوى لأنها غير معترف بها ضمنيًا فى المدارس والجامعات وحسنًا فعل وزير التعليم السابق د. طارق شوقى فى محاولة تطوير كتب ومناهج اللغة العربية على النظام الغربى مع التعريب فى طريقة التعلم والتدريبات والأسئلة... أيضًا وزير التعليم الحالى أصدر أهم قرار فى إدراج اللغة العربية مادة أساسية ليس فقط للنجاح والرسوب ولكن ضمن الدرجات والمجموع فى جميع المدارس الأجنبية والدولية وهى خطوة تأخرت أكثر من ربع قرن وهى مهمة وضرورية ومحمودة على أية حال...
اللغة العربية يجب أن تكون مادة أساسية فى جميع الكليات والمقررات حتى كليات الطب والعلوم والهندسة والحاسبات... أما كليات الإعلام فإن اللغة العربية مفروض أن تطرح فى عدة مقررات بداية من الكتابة إلى النطق والأداء مرورًا بالترجمة ودراسة الأسلوب حتى دراسة تاريخ الثقافة والفكر العربى... أما الوزارات والهيئات فإن وحدة اللغة العربية واجبة فى التصحيح اللغوى وفى النشر وتصحيح اللغة ومفرداتها... أما فيما يتعلق بالإعلام والفضائيات والإعلانات فهى معضلة كبرى تم تناولها لعشرات المرات من قبل الكثيرين... نبدأ من التعليم والمدرسة والجامعة حتى نصل إلى الإذاعة والتليفزيون والصحافة ووسائل التواصل...
القضية أننا لم نبدأ بعد ولم نحتفل ولم نحتف علميًا ونريد مبادرة وخطة على مستوى الدولة ووزارة الثقافة والتعليم والإعلام ليس للحوار ولا إلقاء الأبحاث وإقامة الندوات، ولكن لجمع المعلومات والأبحاث والرؤى ومعرفة الداء ووصف الدواء، وإطلاق التوصيات وتنفيذ القرارات ومتابعتها... اللغة العربية هويتنا والهوية هى الوجود قبل الاختفاء والضياع.