ليست التكنولوجيا بمفهوم حديث أو معاصر، وإنما هي مفهوم صاحب وجود العلم على مر التاريخ. والحقيقة أن مصطلح «التكنولوجيا» technology مستمد في الأصل من الكلمة اليونانية «تخني» techne التي كانت تُستخدَم للدلالة على الصنعة (أو الحرفة) والفن معًا؛ ولذلك كان الفنان يُسمى أيضًا «تخنِتس» technites، أي صاحب الصنعة أو الحرفة.
ولا شك في أن تطور التكنولوجيا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتطور العلم ذاته؛ ولهذا السبب ذاته فإنه يعد مقياسًا لتقدم الدول. ومن هنا يمكن أن نفهم سعي الدول النامية -كما في عالمنا العربي على سبيل المثال- إلى التركيز في مجال المعرفة والتعليم على تطوير التكنولوجيا وتنمية ما يُعرَف الآن بالذكاء الاصطناعي الذي هو غاية ما بلغته التكنولوجيا في عصرنا، وأصبح بمثابة فتنة لا يمكن مقاومة سحرها: ولهذا نجد أن موضوع التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي أصبح هو الموضوع الرائج الآن في سائر المنتديات والمؤتمرات التي تتناول تطوير التعليم واستراتيجيات التنمية وتحقيق جودة الحياة. ولا شك أيضًا في أن هذه الحالة من الفتنة بالتكنولوجيا لها ما يبررها؛ إذ يكفي أن نتأمل كيف غيرت التكنولوجيا أسلوب حياة البشر وجعلته أكثر راحة وسهولة وقدرة على تصنيع أدوات لم يكن بمقدورنا حتى أن نتخيلها: ويكفي أن نتأمل في هذا الصدد أبسط الآلات التي أنتجتها التكنولوجيا منذ عقود بعيدة، أتخيل الآن آلة تصوير المستندات التي كان شيوعها فيما مضى كشفًا عظيمًا استفاد منه الباحثون، إذ كنا في باكورة شبابنا- قبل شيوع هذه الآلة- نعكف على اقتباس النصوص من المراجع بالنقل من خلال الكتابة، بينما الآن يمكن لأي باحث أن ينقل هذا النصوص بنقرة على جهاز الحاسوب. وأنا أتأمل الآن أيضًا أجهزة الحاسوب والهاتف المحمول التي تتطور برامجها يوميًّا بشكل مذهل حتى إنها تضع المعرفة وأحداث العالم بين يديك بنقرات على أزرارها وشاشاتها. فما بالنا بالذكاء الاصطناعي وبرامجه التي أصبحت تُستخدَم في مجالات التأليف والترجمة والإبداع أيضًا (وهذا موضوع جدالي يمكن تناوله نقديًّا في مقال آخر).
كل هذا صحيح -دون شك- ولكن سحر التكنولوجيا لا ينبغي أن يفتننا بحيث نغفل عن رؤية أكثر عمقًا وشمولًا لدور التكنولوجيا في التطور وعملية التنمية بمفهومها الواسع. فمن الأخطاء الكبرى التي تقع فيها كثير من الدول الساعية للتنمية -في عالمنا العربي بوجه خاص- تصور أن التنمية ينبغي أن تنصب على التكنولوجيا، لا العلوم النظرية؛ فهي بذلك تغفل عن أن التكنولوجيا باعتبارها تطبيقات للعلم تكون غير ممكنة من دون تطور في العلم ذاته؛ وبالتالي في نظريات العلم، فأول العلم نظري بالضرورة، وبعد ذلك تأتي تطبيقات هذه النظريات بعد أن تصبح «مُبرهَنات» theorem (بلغة المنطق وفلسفة العلوم). والواقع أن هذه هي أعلى صور أو آخر مراحل تطبيقات العلم بعد أن تتحول نظريات العلم ونتائجه العملية أو التطبيقية إلى أسلوب إنتاج أو تقنية من خلال التكنولوجيا. ولهذا فإن الدول الساعية إلى التنمية ينبغي أن تهتم في المقام الأول بتطوير العلم ونظرياته ذاتها، ومواكبة المعرفة بنتائجها العملية، قبل العكوف على التكنولوجيا؛ لأنها لن تفعل عندئذ شيئًا سوى استيراد التكنولوجيا وتطبيقاتها.
كما أن سحر التكنولوجيا لا ينبغي أن يفتننا بحيث نغفل عن أن تطويرها وتنمية الذكاء الاصطناعي نفسه، لا ينبغي أن تكون بديلًا عن تنمية العقل والذكاء البشري التي يجب أن تكون لها الأولوية في استراتيجيات التنمية وتطوير التعليم. حقًّا إن التكنولوجيا -كما سبق أن قلنا- قد أسهمت بقوة في تطوير أساليب الرفاهة في حياتنا وطرائق عيشنا بكل يسر وسهولة، مثلما ساهمت بقوة في تيسير طرائق التعلم وتحصيل المعرفة، ولكن التجارب الواقعية تشهد أن التكنولوجيا لم تكن ناجعة في كل مجال؛ خاصة في مجالات الإبداع البشري لا في مجال الفن فحسب، وإنما أيضًا في مجال التأليف والترجمة، فضلًا عن مجال تنمية ملكة التنظير في العلوم جميعًا. بل إن التكنولوجيا وبرامج الذكاء الاصطناعي أصبحت تستدعي مفاهيم تتعلق بعمليات الإبداع في عمومه، مثل: «الفردية» و«الشخصية» و«الهُوية». وذلك موضوع جدالي شائك من جوانب عديدة؛ ولذلك فإنه يستحق أكثر من مقال مستقل بذاته.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ینبغی أن فی مجال
إقرأ أيضاً:
سالم بن حمود السيابي
سالم بن حمود بن شامس بن خميس السيابي شخصية فريدة فذة من نوعها، عصاميا في طلب العلم، فعلى الرغم من حداثة سنه ونعومة أظافره، فلقد ثابر واجتهد وهو لا يزال طفلا في تثقيف نفسه، فحفظ كتاب تلقين الصبيان للشيخ عبد الله بن حميد السالمي، وحفظ ألفية ابن مالك، وحفظ القرآن الكريم وهو لا يزال ابن سبعة أعوام بدون أي مساعدة من أحد بل كان يعلم نفسه بنفسه. وحين أصبح في عمر الشباب قرر أن يسافر من بوشر موطنه إلى سمائل من أجل طلب العلم على يد خلفان بن جميل السيابي، وحمد بن عبيد السليمي، والتقى بالإمام محمد بن عبد الله الخليلي وسمع منه الكثير.
تولى سالم بن حمود القضاء في عدد من ولايات السلطنة، وتولى منصب رئيس محكمة الاستئناف، ثم عينه السلطان سعيد بن تيمور واليا على عدد من ولايات السلطنة مثل السيب والكامل والوافي، ثم انتقل للعمل في وزارة التراث والثقافة (سابقا) مصححا للكتب التي تطبعها الوزارة.
تميز سالم بن حمود بغزارة الإنتاج الفكري، فلقد كتب أربعة وثمانين مؤلفا، في الكثير من صنوف العلم، فلقد طرق عددا كبيرا من أبواب العلم والمعرفة، والمتأمل لمؤلفات الشيخ السيابي يصاب بالحيرة والدهشة، كيف تمكن هذا الشيخ الجليل من تأليف كل هذه الكتب وتعمق في المعرفة وتوسع فيها، في وقت كان الحصول على المعرفة صعبا، وتأليف الكتب أشد صعوبة، فلله دره من مجاهد ولله دره من عالم كرس جل حياته في الكتابة والتأليف.
وسنحاول من خلال هذا المقال الطواف السريع على عدد من مؤلفات الشيخ السيابي لإعطاء نبذة بسيطة عنها، حيث من الصعوبة بمكان الإحاطة بها جميعا، لأنها ستحتاج منا إلى مجلدات كثيرة.
ومن أبرز كتبه "إزالة الوعثاء عن اتباع أبي الشعثاء"، الذي حققته الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، ونشرته "وزارة التراث والثقافة" (سابقا)، وقال السيابي واصفا الكتاب بأسلوب أدبي جميل ورصين، تشجع القارئ على الغوص في الكتاب وقراءته كاملا:" رسالة أشبه بنجمة الفجر في سماء العلم تتلألأ، إذ تعرب عن الإمام العظيم أبي الشعثاء وأتباعه من الأمة، إذ هم الثقات الأوفياء، حررتها نبراسا يضيء سناؤه حوالِك الجهل، ويبرهن عن السلف الصالح وأعمالهم وما خلفوه بعدهم من تراث صالح لمن شاء اقتفاء آثارهم، ومن حيث إن الإمام أبا الشعثاء -رحمه الله ورضي عنه- هو أول قدوة صالحة وأصدق عامل لله نبدأ به إن شاء الله".
وله كتاب "الأصول المتبعة في أحكام صلاة الجمعة"، وكتاب "أنيس الجليس في ترتيب جوابات الشيخ جاعد بن خميس"، وكتاب "النبأ العالمي في حياة الشيخ السالمي"، وكتاب "طلقات المعهد الرياضي في حلقات المذهب الإباضي"، ولقد قسم السيابي الكتاب إلى قسمين، الأول في سيرة علماء الإباضية الأوائل الذين أطروا للمذهب الإباضي ووضعوا أسسه الرصينة، والقسم الثاني يشرح السيابي من خلاله المبادئ والمسائل العقدية التي قام عليها المذهب الإباضي.
ومن الكتب القيّمة للشيخ سالم بن حمود كتاب "إرشاد الأنام في الأديان والأحكام"، وهو أرجوزة في مائة ألف بيت ويقع الكتاب في خمسة أجزاء، ويبدأ مطلعها:
الحمد لله على نيل الهدى من شرعه وما إليه أرشدا
فقيهنا في دينه وألهما للرشد بل وكم علينا أنعما
ولم يغفل اللغة العربية وعلومها، فكان لمؤلفاته نصيب منها، فعلى سبيل المثال لا الحصر كتاب "القبس في علم النحو"، وهو منظومة شعرية في 223 بيتا، يشرح من خلالها عددا من القواعد النحوية، والهدف من هذا الكتاب تسهيل مهمة الحفظ على طالب العلم، وأعلن السيابي أنه من خلال الكتاب سيتمكن طالب العلم من تعلم النحو من غير معلم، واستفتح الكتاب بخطبة الكتاب التي قال فيها:
حمدا لمن ألهمنا البيانا وزان بالنحو لنا اللسان
ثم الصلاة للنبي الهادي لنا إلى مستوضح الرشاد
وآله وصحبه الأعلام من أعربوا مناهج الكلام
وبعد هاكم نظاما يجمع قواعد النحو بها يضطلع
وكتاب "إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان"، وهو كتاب فريد في موضوعه، شيق في محتواه يتناول فيه السيابي القبائل العربية التي تقطن عمان، ويقول في مقدمة كتابه :" هذه رسالة جمعت فيها من أنساب أهل عمان ما أمكنني جمعه، وسردت فيها من ذلك ما أمكنني سرده، إسعافا لرغبة الطالب، وإن كان غير مرتب على وتيرة التصنيف، ولا مؤلف على طريقة التأليف، ولكنه مجموع تمكن مراجعته عند الحاجة إليه".
ومن أهم مؤلفاته كتاب "عمان عبر التاريخ" وهو كتاب في تاريخ عمان يقع في أربعة أجزاء، يضم الجزء الأول منه مقدمة وخمسة مواضيع رئيسة، المقدمة كتبها السيابي في أهمية علم التاريخ، والموضوع الأول في التعريف بعمان قديما وحديثا، الموضوع الثاني في بيان الأمم التي قطنت عمان، والموضوع الثالث في نزول مالك بن فهم عمان وحربه للفرس، أما الرابع في بدء الإسلام بعمان إلى انقضاء فترة الخلفاء الراشدين. أما الخامس والأخير في فضائل أهل عمان ومشاهيرهم في صدر الإسلام.
والجزء الثاني من كتاب عمان عبر التاريخ، فيكتب فيه عن انتقال الدولة من آل الجلندى إلى آل اليحمد، ثم يستعرض أئمة الإمامة الثانية موضحا أهم أعمالهم وأهم الأحداث التي حدثت في فترة إمامة كل واحد منهم. ثم يكتب عن فترة سيطرة الدولة العباسية على عمان، وأخيرا سيطرة القرامطة على عمان.
يستفتح السيابي الجزء الثالث بفترة إمامة الإمام الخليل بن شاذان الخروصي، وبعده يستعرض أئمة عمان خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين، ثم استعرض ملوك النباهنة وأهم أعمالهم مثل الملك كهلان بن نبهان وأخيه عمر بن نبهان ثم يستكمل أئمة عمان خلال القرنين التاسع والعاشر، بعدها يتناول الوجود البرتغالي في عمان وسيطرته على المدن الساحلية، ثم دور العمانيين في طرد البرتغاليين، والدور الذي قام به الإمام ناصر بن مرشد اليعربي في توحيد الصف العماني، وبعد توحيد الكلمة انطلق العمانيون صفا واحدا يجمعهم هدف مشترك وهو تحرير بلدهم من السيطرة البرتغالية وعودة عمان دولة ذات مكانة مرموقة بين الدول، ينتهي الجزء الثالث بإمامة الإمام المحب للعلم والعلماء الإمام بلعرب بن سلطان اليعربي الذي بنى حصن جبرين ليكون له مكان إقامة، ويضم بين جنباته مدرسة تُخَرِّج العلماء العمانيين ويقوم بنفسه بالإشراف عليها والإنفاق عليها بسخاء حتى تكون لعمان الحظوة في الإسهامات العلمية على مستوى الإنسانية.
يبدأ الجزء الرابع والأخير بأعمال الإمام سيف بن سلطان قيد الأرض الذي نظم الجيش العماني وقسمه إلى قسمين بري وبحري، فعمل على تنظيمه وتزويده بأحدث الأسلحة، ثم تفرغ لتعمير عمان وخاصة من الناحية الزراعية، ثم يواصل السيابي تناول أئمة دولة اليعاربة بشيء من التفصيل، ثم يناقش الفترة الانتقالية بين الدولتين اليعربية والبوسعيدية وما شهدته هذه الفترة من أحداث جسام استغلها الفرس في السيطرة على عدد من المدن العماني، ثم يوضح دور أحمد بن سعيد في تحرير المدن العمانية.
وينتهي الجزء الرابع بفترة حكم السيد سلطان بن أحمد البوسعيدي. وبالرغم من أن كتاب عمان عبر التاريخ كتاب كبير بعض الشيء، إلا أن أسلوب سالم بن حمود السيابي أسلوب شيق، يجعل قارئ الكتاب لا يشعر بالضجر من القراءة وإنما يشعر أنه يسترسل فيها وهو مستمتع ويشعر بالسعادة بمجرد الانتهاء من التجول بين قصص الكتاب وحكاياته المثيرة.
توفي سالم بن حمود السيابي في31 ديسمبر عام 1993م. بعيد حياة قضاها إما قارئا أو كاتبا.