#الحرية_الفكرية
بقلم: د. #هاشم_غرايبه
عندما شاءت إرادة الله تعالى أن يخلق الإنسان، ميز هذا المخلوق عن الكائنات الأخرى بالعقل، ليمكنه التمييز بين الصالح والطالح بالأدوات المنطقية، من غير الحاجة الى الوسائل الحسية التي بدونها لا يتم الإدراك والتمييز عند باقي الكائنات.
لقد منح الله هذه الأداة الراقية أصلا لهدف جليل هو ادراك وجود الخالق المغيّب عن الوسائل الحسية، والإيمان به بقناعات عقلية، وبالتالي عبادته وطاعته باختياره، لذلك جعل لهذا الكائن المكرم (الإنسان) حياتين: الأولى يمتحن فيها على حسن استعمال العقل وباقي النعم (الإيمان والعمل الصالح)، والآخرة ليس فيها تكليف أو امتحان بل جزاء، فيثاب أو يعاقب فيها على إساءة الاستعمال.
لذا فمهمة العقل الأولى معرفة الله، والمهمة الثانوية هي تأدية مهمة استخلاف الله له في الأرض ليعمرها ويحفظ توازنات الأنظمة التي أوجدها الله منظمة وضابطة لعلاقات المخلوقات ببعضها.
ولما كان العقل لا يعمل بالقسر ولا بتقييده، لذلك كانت الحرية بمختلف أشكالها فطرة أساسية في الإنسان، فهو يخلق منذ الولادة مفطورا على حب الحرية وكراهية أي مقيد لها، فما أن يشب الطفل عن الطوق، ويستغني عن أمه في تلبية احتياجاته الأساسية، حتى يبدأ بالتمرد على تعليماتها وتوجيهاتها، ويحاول أن يتصرف وفق مدركاته الحديثة التشكل.
طالما أن الله منح الإنسان الخيار باتباع الفطرة الإيمانية أو مخالفتها، ولم يفطره على الطاعة المطلقة كالملائكة، فمن المنطقي ان يتيح له حرية التفكير والاعتقاد، ولذلك قال: “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” [الكهف:29]، فبعد أن أنزل عليه هديه، لم يعد لعقله من حجة بتغليب مغريات الهوى والضلال.
إذا فالإسلام يحترم الحرية الفكرية، ولا يقسر الناس قسرا على اعتناقه، بعكس ما يشيعه معادو منهج الله.
أما ما يعتقده المتشددون من أن الله كلف أمته بنشر الدين بالسيف، مستشهدين بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أُمِرْتُ أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا: لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، فمَن قالَهَا فقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ ونَفْسَهُ إلَّا بحَقِّهِ، وحِسَابُهُ علَى اللَّهِ” فهو استدلال خاطئ، فالناس هنا ليس المقصود بهم العالمين، بل المشركين والكفار المقيمين في الجزيرة، فجاء هذا الحديث من وحي فهم أمر الله تعالى وتنفيذا له: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً” [التوبة:123]، فقد حدد الكفار الواجب مقاتلتهم أنهم المجاورون من القاطنين في أرض الجزيرة، الى أن يسلموا، وأهل الكتاب الى أن يرضخوا للدولة الاسلامية بأن يعطوا الجزية: “حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ” [التوبة:29]، وذلك لأن الله أراد لهذه البقعة من الأرض أن تكون مهدا للدعوة ومنطلقا الى سائر بقاع الأرض، فيجب أن يستتب الأمر فيها للدين، فلا يجتمع معه عقيدة زائغة: “وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ..” [الأنفال:39]، ومن فهمه صلى الله عليه وسلم لهذه الآية جاء الحديث: “لا يجتمع في جزيرة العرب دينان”.
ولما أن البعض قد يتخوف من عاقبة ذلك على خسران عائد تجاري أو نقصان دخل يحققه زوار غير المسلمين لبيت الله، فقد طمأن أمته أنه سيؤمن لهم ما يكفيهم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ” [التوبة:28]، وفعلا تحقق ذلك، فكانت تجبى ثمرات كل شيء الى تلك الديار القاحلة عبر كل العصور، وأمدهم بماء زمزم التي لا تنقطع، كما جعل في ديارهم موارد طبيعية تغنيهم أضعاف ما يمكن أن تدره السياحة الترفيهية الفاسدة.
نستخلص مما سبق أن الدعوة لدين الله ظاهرة الحجة لمن ابتغى المعرفة، مقنعة للعقل المنفتح، فلا حاجة لإكراه أحد على الإسلام، والمحاجج المكابر مغلق العقل تعصبا، ولن ينفع الدين ولا الأمة، لأنه سيبقى نقطة ضعف فيها: “مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ” [التوبة:47].
إذن فالإسلام يكفل حرية الفكر والمعتقد للإنسان، وقد شهدت الدولة الاسلامية على مر العصور، بقاء أقليات لم تشأ دخول الإسلام، فبقيت على معتقدها، ولم تلق مضايقة ولا رقابة مفقدة للخصوصية الآدمية، كما تفعل الدول العلمانية المعاصرة بحق المسلمين.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: الحرية الفكرية هاشم غرايبه
إقرأ أيضاً:
ي وداع نصر الله.. تأمُّلاتٌ في شخصيته الاستثنائية
عبدالرحمن إسماعيل عامر
في حضرة مولانا الشهيد الأقدس والأسمى لا ندري كيف نجمعُ الكلمات، إنه مثالي للغاية يجعل القلب يهفو نحوهُ فيزداد عشقًا لهُ.
إنه إنسان استثنائي بكل ما تعنيه الكلمة، إنه كجدهِ مولانا الحسين (عليه السلام) العاشق الولهان الذي ذاب حبًّا لله، فلقد تقطّع بالحب إربًا إربًا ولم يَمِـــــــــلْ إلى أحد سوى الله وحدَهُ لا سواه.
لم تؤثر فيه الصواريخ المتفجرة كما أثَّر الحبُّ في روحه الطاهرة الزكية التي سمت إلى أعتاب السماء بكل حب وعشق للقاء الله والنبي وآله الأطهار.
كان يملك من القِيَمِ الروحية والمشاعر الرهيفة ما يجعل من الإنسان المتأمل له ينشدُّ ويقف عاجزًا منبهرًا أمام تلك القامة العظيمة.
وقد شهدت صحيفة العدوّ حين قالت: (إن أي شخص يسمع نصرَالله ينجح في الوقوع في حب صورته).
فلو سمعت خطابَه ترى الصدقَ والرزانة والسكينة والوقار والطمأنينة والحكمة والثقة بالله من أبرز صفاتهِ، لدرجة أصبح الجمهور الإسرائيلي بصورة غير متوقعة، يثقُ بخطاب المقاومة أكثر من خطاب حكومته وهذا يُشير إلى قوة تأثير خطاب السيد نصرالله ومصداقيته.
أما لو رأيت شوقَهُ لله ولرسوله وللمؤمنين والمؤمنات يجولُ في مشاعرهِ كأنه أسيرٌ لدى محبوبه يناجيه بكل جنونٍ ولهفةٍ وعرفان.
وما أشبه حاله بجدهِ مولانا الحسين (عليه السلام) حينما كان يناجي رَبَّه حتى قال:
تركتُ الخلق طُرًّا في هواكَ.. وأيتمتُ العِيالَ لكي أراكَ
فلو قطّعتني بالحُبِّ إربًا.. لمَا مالَ الفؤادُ إلى سواكِ
أما عن شجاعته وبسالتهِ فلقد كان يتحدى “إسرائيل” بكل قوة وبأقسى لُغة ويهدّد ويسخر منها ويتبختر بالأعداء إلى درجة تجعلهم يُحللون خطاباتهِ كلمةً كلمة وحرفًا حرفًا.. معترفين بمصداقيته التي تتجلى قبل أفعاله.
لقد كان نصرالله مدرسةً متكاملةً، وصدق السيد القائد يحفظه الله:
(هو تجسيدٌ حيٌّ للمبادئ والقيم الإنسانية والإسلامية وَنجمٌ مضيء في سماء مكارم الأخلاق)
وكلما نظر الإنسان إلى شخصيته ومثاليتها الفريدة ازداد إعجابًا وحبًّا وإتباعًا.
ومهما حاول الإنسانُ أن يلم بها فلن يستطيعَ ذلك ومن رام عَدَّ الشُّهب لم تتعدد؛ لأَنَّ كلمة (حسن) بمفردها تعني حقيقة وتحكي فضائل لا حدود لها.. ولله القائل:
تعدادُ مجدِ المرءِ منقصةٌ.. إذَا فاقت مزاياه عن التِّعداد