في الذكرى الخامسة لثورة ديسمبر
تاريخ النشر: 24th, December 2024 GMT
في الذكرى الخامسة لثورة ديسمبر
"حينما كبّرت المساجد للنصر من فوق المآذن، ودقت الكنائس أجراس الإنتصار"!
الجميل إبن الجنوب
سايمون أتير
(1)
مثل السواد الأعظم من أطفال السودان نشأتُ في حي شعبي فقير ، بين جدران وخلف أبواب صدئة لبيوت طينية آيلة للسقوط، وأزقة ضيقة مكدسة بالأوساخ. لعبتُ كرة القدم في الفناءات الصغيرة والميادين المخصصة لها وإستمتعت بلعب (البلي) و (شليل وينو).
(2)
في وطن خلاسي يزخر بجميع اشكال التنوع!.كان الفصل العنصري/الديني أو قل العرقي شديداً ان لم يكن حاداً بين السودانيين كنتيجة طبيعية لسياسات النظام -وان شئنا الدقة- سياسات الأنظمة التي تعاقبت علي حكم السودان منذ فجر الإستقلال. ولكن كان لنظام الآنقاذ نصيب الأسد في ذلك؛ فقد دفع بالأمور إلى نقطة اللاعودة وهو يستخدم الدين والعرق لتحقيق أهدافه الشيطانية !.
(3)
كطفل ينتمي جغرافيا إلي الجنوب كنت أحس بالتناقض العجيب بين فضاءاتنا الطفولية وأعني ميادين كرة القدم وسوح المرح ؛ ففيه كنت والكثيرين من أمثالي (أطفال الهامش) نجد القبول، والتصفيق من أترابنا وجموع المشاهدين إن سجلنا هدفاً جميلاً أو قمنا بمراوغة ماهرة. وبين فضاءاتنا الخاصة -المنازل- او في الشوارع التي كنا نسمع فيها نعوتاً تقشعر لها الأبدان!. أقلها وطأة كلمة (جنوبي) ما مع تحملها من حمولات سالبة بل دلالات عنصرية!...
(4)
كنت مسالما" جدا" ولكن كان بعض أهل صديق طفولتي (أ) يحذرونه قائلين :
"ما تمشي مع ود الجنوبين دا عشان ما يسبب ليك مشاكل"!. أو يمنعونه عن معايدتي في الكريسماس بإعتباري كافراً !. رغم إننا في ذاك العمر الغض لا نفقه في أمور الدين كثيراً ولا يفرق معنا أن أكلنا فتة في حولية الشيخ حمد النيل ، أو ذهبنا إلي الكنيسة عشية عيد الميلاد لنستمتع بشرب شاي اللبن بالزلابية!.
(5)
هذا الجدار الديني/العرقي كان يُشيده نظام يدعي بإنه يحكم بما أنزل الله !. رغم أنف قوله تعالي في سورة الحجرات:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }.
وحديث المصطفي (ص):
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)
(6)
"ما تمشي مع ود الجنوبين ده عشان ما يسبب ليك مشاكل"!
هذا القول الغريب كان يثير حفيظتي بل دهشتي ومثار الدهشة هو أن صديقي (أ) كان طفلا"مشاغباً بل مثيراً للمشاكل؛ فقد كان قائدنا ومهندس كل مخططاتنا الشيطانية الطفولية من ضرب أطفال الأحياء المجاورة إلى تهشيم زجاجات النوافذ ، وكسر "لمبات" الإنارة ، و "أزيار السبيل" ..إلخ !.
(7)
كانت التلميحات العنصرية شبه يومية.وكانت جدها جد وهزلها جد ! . في الحي ، الشارع ، المدرسه ..إلخ. وإستمرت لسنوات وسنوات!.بعد إلتحاقي بالجامعه أيقنت أن السلوك العنصري متجذر في نفوس الكثيرين وأن إعادة هندسة الإنسان السوداني كمشروع سياسي لدي الجماعات الإسلاموعربيه ، وعلى رأسها الحركه الإسلاميه قد تم للأسف !.
(8)
حملت يقيني تلك وإرتحلت به صوب الجنوب الذي سيصبح بعد أشهر قليلة دولة مستقلة!. في حدث أكد إدمان ساستنا للفشل!. وهل هناك فشل أكبر من تمزيق النسيج الإجتماعي ، تهجير المواطن ، تدمير الوطن وتقطيع أوصاله. بل تقزيمه! وهو الذي كان عملاقاً -او هكذا يفترض ان يكون!.
(9)
عدت إلى الخرطوم في أوائل ديسمبر من العام ٢٠١٨م. ولكن هذه المرة كنت أحمل لقب أجنبي التى تؤكدها جواز السفر وتأشيرة الدخول وبعض المشاعر المتناقضة !.عدتُ بعد ما يقارب عقداً من الزمان لأشهد إندلاع أعظم ثورة في تاريخ السودان. قوامها جيل جديد .. جيلاً:
حلو الشهد متشابك الهامات
خفاف ولطاف وثابتين أوان الجد
(10)
لم أكد أكمل الشهر حتي تنازلتُ طوعاً عن بعض يقيني بنجاح المشروع الشيطاني بعد أن شاهدت بأم عيني ملاحم بطولية وتلاحم بين الشباب السوداني، الذين تجاوزوا التمايزات العرقية/الدينية، ووحدوا صفوفهم ، ثم هبوا كالأسود الضارية ، وبصدور عارية لمواجهة آلة القمع والطغيان فى إستعادة لبطولة عبد الفضيل الماظ الذي (صندد) امام آلة القمع الإستعماري في معركة النهر قبل ما يقارب المائة عام!
(11)
كانت اللوحة زاهية ، تسر الناظرين وتحرك مشاعرهم فمن ذا الذي لم يذرف الدمع تاثراً بمشهد الأقباط/المسيحيين وهم يظللون إخوتهم المسلمين من هجير شمس الخرطوم اللاهبة أثناء صلاة الجمعه أمام بوابة القياده العامه؟أو مشهد الجموع الهادرة وهي تكسر الطوق الأمني لتصل إلي القياده العامه في نهار السادس من أبريل/رجب. لتتشكل بذلك ملحمة القياده العامه التي أظهرت وجه السودان الخلاسي الجميل
(12)
هتافات مثل:
(يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور)؟!.
و
(يا عنصري وسفاح وين الجنوب وين راح)؟!.
لم تكن مجرد هتافات أو أهازيج ثورية لشابات وشباب، ممن أطلق عليهم فى إهانة وإستخفاف (قليلي أدب) و (شذاذ أفاق)!. بل كان رداً واعياً ، وموضوعياً ضد مشروع شيطاني ظلامي يُراد به تدمير السودان. ولأن لكل فعل رد فعل كانت ثورة ديسمبر ..ثورة توقيتها زغاريد قوية وحصنها متاريس عصية وغرضها هدم السودان القديم وبناء سوداناً جديد تسودها الحريه ، السلام ، والعداله.
(13)
ولكن للأسف بعد مرور خمسة سنوات على إندلاع ثورة ديسمبر لا زال قوى الشر تواصل التدمير الممنهج. وما الحرب التى إندلعت في ١٥ أبريل الماضي بين الجيش السوداني "المكوزن" ووليدها غير الشرعي . "الدعم السريع" ، والتي وصلت معظم أجزاء السودان إلا حلقة في مسلسل الإنتقام من الشعب السوداني وتقف خلفها نفس القوى الظلاميه وغرضها الأساسي معلوم بالضرورة. هد المعبد على رؤوس الجميع.
والغافل من ظن الأشياء هي الأشياء
جوبا
19 ديسمبر 2023م
=====
مقال سايمون اتير للكرم بالنشر
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: ثورة دیسمبر
إقرأ أيضاً:
ترامب متصالحاً.. ولكن؟!
ظهر الرئيس الأمريكي المنتخب متصالحاً مع العالم وهو يلقي كلمة طويلة أمام حشد من مؤيِّديه في أريزونا بالولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلن أن أمريكا لن تدخل في حروب مع غيرها خلال فترة ولايته الثانية، وأنه سيمنع حدوث حرب عالمية ثالثة، مع إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، وإنهاء الفوضى في الشرق الأوسط.
وهي توجهات لن يكون هناك من سيقف غير مؤيِّد لها، وقرارات وكأنها تلامس تطلعات وشعوب الدول المحبة للسلام، وأبسط ما يُقال عنها إنها لو تحققت فسوف تزيل المخاوف، وتعزِّز الاستقرار في العالم، بل وإنها ستتجه نحو بناء علاقات ود وتفاهم بين الدول، بعيداً عن الصراعات والخلافات والحروب، مما لا فائدة منها.ولكن هل يملك الرئيس الأمريكي المنتشي بفوزه الساحق في الانتخابات، وعودته ثانية إلى البيت الأبيض، رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، رغم ما أحاطه من اتهامات ومحاكمات وتحديات تمكِّن من التغلّب عليها، وهزيمة منافسته، وسيطرة حزبه على الكونغرس، وبالتالي تحجيم أي معارضة لما ينوي اتخاذه من قرارات، هل يملك تنفيذ وعوده الكبيرة والمهمة والعظيمة؟!
في شأن الشرق الأوسط، هل يمكن أن يكون ترامب محايداً وعلى مسافة واحدة في التعامل بين الإسرائيليين والفلسطينيين من جهة، وبين إسرائيل ودول المنطقة من جهة أخرى، فيمنع إسرائيل من تبني هذه الفوضى التي أشار إليها، مع أنه كان يجب أن يقول هذا الاحتلال وليس هذه الفوضى، كيف له أن يمنع ذلك، وهو الذي اعترف بالجولان السورية كأرض لإسرائيل، وبالقدس الموحَّدة عاصمة لإسرائيل، وهو الذي نقل السفارة الأمريكية إلى القدس المحتلة، ولم يكن له موقف إيجابي من خيار الدولتين؟!
وعن الحرب الروسية الأوكرانية، وإيقافها، من أين له القدرة على وضع حد لهذه الحرب، دون الاستجابة لشروط روسيا، واستعداد أوكرانيا للتخلِّي عن أراضيها التي أصبحت تحت السيطرة الروسية، وأين سيكون الموقف الأوروبي من أي تفاهمات تصالحية لا تخدم دولهم، وينشأ عنها ما يرونه تهديداً روسياً لأمنهم واستقرارهم؟!.
وبالنسبة للحرب الكونية أو العالمية، فقد كان التلويح بها يتردد من الروس خلال حربهم في أوكرانيا، لكن تلويحهم لم يأخذ صفة الجد، والرئيس ترامب يتحدث عن حرب عالمية لن يستطيع منعها بقرار منه، فأكثر من دولة تملك السلاح النووي، وهناك تحالفات بين الدول ولديها قرارها كما لدى ترامب، ومع ذلك فيمكن فهم المحاذير التي في أذهان كل الدول من خطورة الإقدام على مغامرة كهذه، وبالتالي فالعالم ليس على موعد مع هذه الحرب، وفيما لو آن أوانها، فليس لدى ترامب عصا سحرية لمنعها.
أما وأن أمريكا ستكون بلا حروب في فترته الثانية، فهذا قرار أمريكي يمكنه به أن يمنع أمريكا من الانغماس في التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في الحروب، لكني أشك أن يفعل ذلك، فمصالح أمريكا تتحقق كما هي سياستها في حضورها بالأزمات، وفي لعب دور يؤهلها لتوجيه مسار الحروب وفقاً لمصالحها، وألاعيبها الشيطانية، لهذا ستظل أمريكا - كما نرى- مع تنامي الخلافات والصراعات بين الدول!
وعلينا أن ننتظر أفعال الرئيس ترامب لا أقواله، وهو الذي قرَّر بناء قبة حديدية يحمي بها سماء أمريكا وحدودها حين يستلم مهامه الرئاسية، وطرد أكثر من عشرين مليون مهاجر يقيمون بأمريكا يقول إن إقامتهم بطرق غير نظامية، وأنه ينوي ضم قناة بنما إلى أمريكا لارتفاع الضرائب على ما يمر عبرها من بواخر وقطع عسكرية تابعة للولايات المتحدة الأمريكية، ما ينسف قوله بأن أمريكا لن تتورَّط في حروب، وأنها سوف تمنع الفوضى بالشرق الأوسط، وإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية، والحيلولة دون حرب عالمية ثالثة؛ كلام كبير وعظيم، ولكن المهم التنفيذ، نعم الالتزام بالتنفيذ.