يستخف البعض عن سابق إصرار وتصميم بالحدث العظيم الذي كُتبت بدايات فصوله في الثامن من ديسمبر/كانون أول 2024 باقتلاع نظام آل الأسد الذي جثم على صدور السوريين لعقود طويلة وكأنها قرون، وهو في الحقيقة ودون أي مبالغة سيذكر في التاريخ كأعظم حدث في القرن الواحد والعشرين، فلم نقرأ عن اجتثاث أنظمة ديكتاتورية عمرت الأرض وأفسدت فيها إلا في القرآن الكريم وكتب التاريخ ليصبح التدمير والعذاب الذي حاق بهم بأمر إلهي مباشر مثلًا يُضرب على مر العصور.
شاءت الأقدار أن نُبتلى بنسخ من هذه الأنظمة، ندعو في صحونا ونومنا أن يذيقها ما أذاقه لفرعون وجنوده، لكن لحكمة لا يعلمها إلا هو لم تتكرر عجائب قدرته في هؤلاء الطغاة، وجرت المقادير أن الله عز وجل لا يكتب النصر والتمكين لأمة أو فئة إلا إذا توفرت فيها شروط محددة، فتحقيق المعجزات يحتاج إلى أمة تمتلك إرادتها وتنهض بنفسها لتحقيق النصر الذي تستحق.
منذ أن تكونت الدولة الحديثة في منطقتنا برعاية استعمارية تعاقب على حكم المنطقة أنظمة مستبدة لم يعرف فيها الناس طعم الأمن والسلام والحرية: تدجين وقمع وقتل وتهجير وتجويع وترويع، لا فرق بين نظام جمهوري أو ملكي، كلهم رهن إشارة العم سام، وكلمة السر في بقاء واستمرار أي نظام هي حفظ أمن إسرائيل وسلامتها على حساب رفاه وأمن شعوب المنطقة. وكلما هلك رئيس أو ملك، يأتي آخر ليعيد سيرته الأولى.
جاء الربيع العربي بكل ما يحمل من آمال للشعوب المقهورة بإمكانية التغيير، فسقط رئيس هنا وارتعد ملك هناك، لكن سرعان ما اكتشفت الشعوب أن هذا التغيير كان خادعًا، فرأس النظام سقط وبقي النظام الذي استجمع قواه لينقض على الإنجازات المتواضعة بدعم من الذين أرعبتهم التغييرات، من إسرائيل وممالك، وانساقت وراء هذه الردة قطعان من المغفلين.
منذ أن تكونت الدولة الحديثة في منطقتنا برعاية استعمارية تعاقب على حكم المنطقة أنظمة مستبدة لم يعرف فيها الناس طعم الأمن والسلام والحرية: تدجين وقمع وقتل وتهجير وتجويع وترويع، لا فرق بين نظام جمهوري أو ملكي، كلهم رهن إشارة العم سام، وكلمة السر في بقاء واستمرار أي نظام هي حفظ أمن إسرائيل وسلامتها على حساب رفاه وأمن شعوب المنطقة. وكلما هلك رئيس أو ملك، يأتي آخر ليعيد سيرته الأولى. حدثت احتجاجات في محاولة يائسة لإنقاذ التجربة، لكن تم فضها بوحشية، وقتل وجرح الآلاف، واعتقل وعذب مثلهم، وحُكم على القادة والنشطاء، رجالًا ونساءً وأطفالًا، بأحكام وصلت حد الإعدام، ومن نجا هاجر إلى المنافي لتبدأ حركة جديدة من المعارضة مدعومة بتقارير وبيانات عن القمع تصدر تباعًا عن منظمات حقوقية دولية، إلا أن ذلك لم يحرك أي ساكن، وأمعنت الأنظمة المنقلبة في جرائمها.
الشعب السوري كان في طليعة الشعوب التي ثارت على النظام سلميًا، إلا أن النظام واجه هذه السلمية بالحديد والنار إلى أن تحولت من سلمية إلى ثورة مسلحة تميزت عن غيرها من ثورات الجوار وكادت تجهز على نظام الأسد لولا الدعم الذي تلقاه من روسيا وإيران وميليشياتها، فقُتل واعتُقل عشرات الآلاف ودُمرت مدن وهُجر الملايين.
تمت محاصرة الثوار في كل المدن الرئيسة مما أنتج تفاهمات ينحاز الثوار بموجبها إلى منطقة جغرافية وهي إدلب، ظن البعض أن هذه المنطقة ستكون المحشر الأخير الذي سيطبق فيه النظام على ما تبقى من مقدرات بشرية ومادية للثورة، إلا أنها كانت خطوة عبقرية، فهناك أعاد الثوار ترتيب صفوفهم وتوحيدها ومراجعة خططهم لتحقيق هدفهم الأسمى باقتلاع النظام المجرم من جذوره مرة واحدة وإلى الأبد.
بدا الأمر وكأنه أضغاث أحلام إلى أن فوجئ العالم في لحظة حاسمة بجموع الثوار الذين كانوا بالأمس مجرد لاجئين مشتتين يجتاحون المدن واحدة تلو الأخرى حتى فتح دمشق وسقوط النظام بكل رموزه ليتنسم الشعب السوري عبير الحرية لأول مرة منذ أكثر من خمسين عامًا.
لو بقيت المعارضة السورية بكل مسمياتها من ائتلاف وهيئة تفاوض ومجلس وطني ومن لف لفيفهم من نشطاء في المنافي يمارسون معارضتهم في العالم الافتراضي ومن أروقة ومنابر الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان بدعم خادع من الغرب ألف عام، لما حركوا حجرًا على حجر من هذا النظام.
لقد قيد الله للشعب السوري في محطة تاريخية فاصلة ثلة من أبنائه، جند مخلصون، متجردون من كل أدران الدنيا، واضعوا نصب أعينهم تضحيات الشعب السوري وآهات الثكالى والمعذبين. درسوا الواقع وفهموا متطلبات المرحلة بعيدًا عن ضوضاء الإعلام وجعجعة المجتمع الدولي، مدركين معادلة واحدة: أن القوة الغاشمة لا يقابلها إلا قوة أعتى منها، عملًا بالمثل القائل: لا يفل الحديد إلا الحديد.
ليس مطلوبًا ممن لم يشاركوا في التحرير على أرض الواقع ـ لانشغالهم بخطط التحرير في العالم الافتراضي ـ أن يلتحقوا بصفوف الجند لفرض الأمن في كافة ربوع سوريا، ليس المطلوب منهم أن ينزلوا من قصورهم العاجية لمواساة من حُرر لتوه من السجون أو الوقوف إلى جانب أم انتظرت طويلًا أمام سجن صيدنايا بحثًا عن ابنها ولم تجده. المطلوب منهم أن يستوعبوا عظم الحدث وألا يكونوا سهمًا في كنانة من يتربص بمنجزات التحرير.
واجب كل قوى المعارضة التي تشكلت في الخارج أن تصحو من غفلتها وتكف عن التخبط يمينًا وشمالًا شرقًا وغربًا، فالارتماء في أحضان أنظمة ديكتاتورية تمارس بحق شعوبها ما مارسه نظام الأسد لن ينفع، والاستقواء بأمريكا ودول غربية وبقرارات مجلس الأمن لفرض الوصاية على الشعب السوري لتمرير أجنداتهم الخبيثة لن يجدي.
الشعب السوري اليوم يمتلك القوة، والخوف من ثورة مضادة كالتي حدثت في مصر وتونس لا رصيد له على أرض الواقع، فما حدث تغيير جذري لا يسمح بالعودة إلى الوراء.
لقد قيد الله للشعب السوري في محطة تاريخية فاصلة ثلة من أبنائه، جند مخلصون، متجردون من كل أدران الدنيا، واضعوا نصب أعينهم تضحيات الشعب السوري وآهات الثكالى والمعذبين. درسوا الواقع وفهموا متطلبات المرحلة بعيدًا عن ضوضاء الإعلام وجعجعة المجتمع الدولي، مدركين معادلة واحدة: أن القوة الغاشمة لا يقابلها إلا قوة أعتى منها، عملًا بالمثل القائل: لا يفل الحديد إلا الحديد. وما نراه من مشاغبات تحت عناوين مختلفة وتصريحات وبيانات متضاربة مسيئة لن تنال مما أُنجز على الأرض، فقد أصبح راسخًا وثابتًا في ضمير كل سوري.
لن يغفر الشعب السوري لمن ينظر في هذه المرحلة إلى البلاد بأنها غنيمة أو مجموعة من الكراسي الشاغرة أو فرصة لتحقيق مكاسب شخصية، فهؤلاء لن يكون لهم مكان في سوريا الجديدة، وسيُنظر لهم كأعداء يهددون مصالح الوطن وأمنه واستقراره. فلنتجرد النفوس وتتحد الجهود لبلسمة الجراح وبناء البلاد.
عودوا إلى عزكم، عودوا إلى شامكم، فلا تذلوا أنفسكم بعد أن أعزّكم الله. فرخاء وأمن الشعب السوري من الداخل، لا من شرق ولا من غرب، فوتوا على كل المتربصين الفرصة وأثبتوا لكل العالم أنكم أصحاب حضارة ممتدة لا تقبلون الإملاءات أو الوصاية من أحد.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه سوريا سوريا سياسة رأي تحولات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة اقتصاد سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشعب السوری
إقرأ أيضاً:
اقتصاد سوريا والعقوبات.. أعباء ثقيلة خلفها نظام الأسد
يواجه اقتصاد سوريا تحديات جمة نتيجة العقوبات الغربية المفروضة على البلاد منذ عقود، التي تعيق جهود إعادة الإعمار والتنمية، ومع سقوط نظام البعث -الذي دام 61 عاما- في 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري، ثمة تساؤلات عن مستقبل هذه العقوبات وتأثيرها على الشعب السوري.
وكان الهدف من قرارات العقوبات المختلفة ضد نظام البعث لأسباب مثل الحرب الأهلية في سوريا، والعنف ضد المدنيين، وانتهاكات حقوق الإنسان، وجرائم الحرب، ودعم المنظمات الإرهابية، هو وقف عنف النظام في البلاد والتحول إلى عملية الإصلاح.
لكن هذه العقوبات -التي سعت لإضعاف نظام عائلة الأسد ومعاقبته لانتهاكات حقوق الإنسان- خلقت أيضا عبئا كبيرا على الشعب السوري.
ومع سقوط نظام الأسد، لم يبقَ أي معنى للإجراءات التقييدية المختلفة التي فرضتها الدول الغربية على سوريا.
وتؤثر الإجراءات التي اتخذتها العديد من الدول والمنظمات الدولية بصورة كبيرة في الوضع الاقتصادي والسياسي في سوريا، وتجعل إعادة تطوير البلاد وانتعاشها أمرا عسيرا.
منذ عام 2011 أصبحت العقوبات الأميركية أكثر شمولا، وكانت الخطوط الرئيسية لهذه العقوبات هي الحظر التجاري على قطاعات الطاقة والمالية (الفرنسية) عقوبات أميركية منذ 1979وبحسب المعلومات التي جمعتها الأناضول من وزارتي الخارجية والخزانة الأميركيتين، فإن العقوبات على سوريا بدأت في ديسمبر/كانون الأول 1979، عندما صُنفت سوريا "دولة داعمة للإرهاب".
إعلانوأدت هذه العقوبات إلى فرض حظر على الصادرات والمبيعات الدفاعية، وبعض الضوابط على تصدير المنتجات ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري على حد سواء، إضافة إلى قيود مالية مختلفة.
وفي مايو/أيار 2004 طُبقت قيود إضافية على الواردات والصادرات مع تنفيذ القانون الأميركي "قانون محاسبة سوريا واستعادة السيادة اللبنانية".
ومع اندلاع الحرب الأهلية في سوريا عام 2011 أصبحت العقوبات أكثر شمولا، وكانت الخطوط الرئيسية لهذه العقوبات هي الحظر التجاري على قطاعات الطاقة والمالية التي توفر الدخل لنظام بشار الأسد، وتجميد أصول كبار المسؤولين ومنع الشركات الأميركية من التعامل مع سوريا.
قانون قيصر
اتسع نطاق العقوبات مع إصدار (قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا) أو بعبارة مختصرة (قانون قيصر) الذي وقعه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في ديسمبر/كانون الأول 2019 ودخل حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 2020.
وكان موظف منشق عن النظام ملقب بـ"قيصر" سرب صورا لنحو 11 ألف جثة لأشخاص قُتلوا تحت التعذيب في الفترة بين مايو/أيار 2011 وأغسطس/آب 2013، وكشفت الصور عن أساليب التعذيب التي تعرض لها المعتقلون في معتقلات النظام.
وتهدف العقوبات الأميركية، لا سيما المفروضة على قطاعي البناء والطاقة، إلى زيادة صعوبة بقاء النظام اقتصاديا.
وكان البنك المركزي السوري أيضا هدفا للعقوبات المفروضة على الحكومة من أجل إعاقة القدرة التمويلية لنظام الأسد.
عقوبات الاتحاد الأوروبي
وسنّت دول الاتحاد الأوروبي العديد من التدابير التقييدية لإنهاء عنف نظام البعث ضد المدنيين، وإجبار النظام على الإصلاح، ووقف انتهاكات حقوق الإنسان، وتعزيز التحول السياسي السلمي.
وعقب تصاعد العنف والمستويات "غير المقبولة" من انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، علق الاتحاد الأوروبي جميع أشكال التعاون الثنائي مع الحكومة ومؤيديها في سوريا وفرض عقوبات في مايو/أيار 2011.
إعلانوقام الاتحاد الأوروبي، الذي فرض عقوبات اقتصادية مختلفة على سوريا، بفرض حظر على الأسلحة.
كما حُظرت واردات النفط الخام والمنتجات النفطية من سوريا، في حين فرض حظر على الاستثمار في صناعة النفط بالبلاد وشركات إنتاج الكهرباء.
أصول البنك المركزيوفرض الاتحاد الأوروبي قيودا على تصدير المعدات والتقنيات التي يمكن لنظام الأسد استخدامها للقمع، فضلا عن تقنيات المراقبة أو التنصت على الإنترنت أو الاتصالات الهاتفية.
ولم يُسمح للمؤسسات المالية في سوريا بفتح فروع أو شركات تابعة في الاتحاد الأوروبي.
وكان قرار تمديد العقوبات الذي يهدف إلى الضغط على نظام البعث وإحداث التغيير في البلاد قد اتخذ في 28 مايو/أيار 2024.
وتنتهي عقوبات الاتحاد على سوريا، التي يتم تجديدها كل عام، في أول يونيو/حزيران 2025، ما لم يتم اتخاذ قرار جديد.
مناقشات العقوبات في الاتحاد الأوروبيومنذ انهيار نظام البعث في سوريا في الثامن من ديسمبر/كانون الأول الجاري، دارت مناقشات في الاتحاد حول ما إذا سيتم رفع العقوبات التي تستهدف النظام.
وتتوقع دول الاتحاد الأوروبي -التي لم تحدد بعد موقفا واضحا- أن تنهي الإدارة السورية الجديدة نفوذ إيران وروسيا في البلاد.
ورغم عدم ذكر ذلك صراحة، فإنه يعد شرطا لرفع العقوبات، ويطالب الاتحاد الأوروبي أيضا بتشكيل حكومة شاملة في سوريا واحترام سلامة أراضي البلاد وحقوق الأقليات.
آثار العقوباتورغم منح بعض الإعفاءات للغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية في ظل العقوبات المفروضة على سوريا، فإن الصعوبات البيروقراطية في إيصال هذه المساعدات تحول دون تخفيف آثارها على الشعب السوري.
ومن المتوقع أن يكون لرفع العقوبات المفروضة على سوريا فوائد مختلفة للبلاد، وأن يعجل الانتعاش الاقتصادي في سوريا، ويساعد على تنميتها.