إبراهيم عبد المجيد: الفلسفة والفنون غذاء الكاتب في عصر الذكاء الصناعي وهيمنة الصورة
تاريخ النشر: 24th, December 2024 GMT
يحمل الأديب المصري إبراهيم عبد المجيد على عاتقه تقديم مدينته الإسكندرية للقارئ العربي، وعبر أعماله التي تمتد لعقود، استطاع عبد المجيد أن يخلق عالما أدبيا متفردا، يجمع بين الحس الإنساني العميق والتحليل الواقعي لقضايا المجتمع.
بدأ رحلته مع الأدب في سبعينيات القرن الماضي، وأصبح أحد أبرز الأصوات التي عكست التحولات الاجتماعية والسياسية في العالم العربي.
في هذا الحوار، يفتح إبراهيم عبد المجيد نوافذ رؤيته على المشهد الثقافي الراهن، مناقشا أسباب كثرة الإنتاج الروائي وضعف الصدى الملموس له، ودور النشر الإلكتروني في طغيان الكم على الكيف، وتأثير الثورة المعلوماتية على الإبداع الأدبي. كما يشاركنا تجربته الشخصية مع الكتابة، وتحديات النشر، ونصائحه لجيل الروائيين الشباب، فإلى الحوار:
الحديث عن رؤيتك للمشهد الثقافي لا سيما عالم الرواية، من زوايا عدة.. منها كثرة الإنتاج الروائي دون إحداث صدى ملموس.. ما أسباب ذلك من واقع خبرتك؟ إعلانالمشهد الثقافي عامر بالإنتاج في كل مجلات الكتابة. الرواية والشعر وسائر الفنون. كذلك الدراسات الفكرية والترجمة من اللغات الأخرى للغة العربية. الوقوف عند الرواية فقط فيه ظلم لسائر الفنون، لكن هذا ما جرى منذ منتصف السبعينيات. قفز العالم كله إلى الرواية باعتبار أن ما يحدث فيه يحتاج إلى الحكي أكثر من الإيجاز. مشى الكثيرون وراء مقولة زمن الرواية فأهملوا إنتاجا رائعا في المجالات الأخرى. فجأة في العقدين الأخيرين صارت الرواية هدفا للكثيرين. تحول إليها شعراء ونقاد وفنانون. لا يضايقني هذا فللإبداع تجلياته المختلفة. لكن بعيدا عن هؤلاء دخل حقل الرواية الكثيرون ممن يحكون فقط دون فهم لبناء الرواية وتطوره عبر التاريخ. وكما أقول دائما فالكتابة ليس ماذا تكتب لكن كيف تكتب. الأمر يحتاج إلى متابعة من النقاد، لكن الإنتاج كثير جدا فمن الصعب على النقاد المتابعة. كذلك غلبت النزعة الاستهلاكية في التسويق، فهناك من يشتري الإعجابات بصفحات مدفوعة على الإنترنت، ويتصور أن هذا دليل على قيمة روايته. لكن في النهاية لا يبقى غير الجيد من الأعمال، لذلك لا أتوقف عند هذه الظاهرة.
مع النشر الإلكتروني وكثرة دور النشر الورقية.. كيف يسهم ذلك في طغيان الكم على الكيف؟ حبذا لو تتحفنا هنا بالمقارنة مع أول إنتاجك الروائي والصعوبات التي واجهتها.مؤكد يساعد النشر الإلكتروني وكثرة دور النشر في طغيان الكم على الكيف. بعض دور النشر تنشر 200 نسخة من كل طبعة للرواية وتعلن أنها الطبعة العاشرة. حين بدأت أنشر كانت الطبعة الواحدة 3 آلاف نسخة وتتكرر مع المبيعات. اختلف الزمن. لا تزال بعض دور النشر محتفظة بالروح القديمة لكنها قليلة.
أما أول إنتاج لي فكان رواية "في الصيف السابع والستين" التي انتهيت منها عام 1974 لكن كانت هناك رقابة علي الكتب قبل النشر. تقدمت بها للرقابة أكثر من عام وكان الرقيب يرفض نشرها لأسباب سياسية، فالرواية تسجيلية عن هزيمة 1967 وأيام الحرب. في عام 1979 ألغى الرئيس السادات الرقابة على الكتب قبل النشر، فنشرتها في دار الثقافة الجديدة في سلسلة كان يشرف عليها صنع الله إبراهيم. الآن بعض دور النشر رغم عدم وجود رقابة مبدئية على الكتب، تتوجس من بعض العبارات أو الأفكار لأن هناك رقابة أخرى على السوشيال ميديا من جهات وأشخاص لا يعرفون أن الفن خيال، فيتعاملون مع ما تقوله الشخصيات باعتباره رأي المؤلف، ومن ثم صرت أنشر ما يعتذر عنه الناشرون خارج مصر في "دار المتوسط" التي يديرها الفنان والشاعر خالد الناصري في ميلانو بإيطاليا. والحمد لله تدخل إلى مصر.
إعلان دور أهل الخبرة والريادة في الإنتاج الروائي.. كيف ينقلون خبرتهم للجيل الجديد؟ هل ورش الكتابة تسهم في ذلك؟مؤكد تساعد ورش الكتابة في فهم الفن الروائي، لكن الأهم هو أن يقرأ الكاتب تاريخ الأدب تاريخ المذاهب الأدبية، من كلاسيكية ورومانتيكية وواقعية وعجائبية وغيرها. هذا متوفر في الكتب النقدية وفي مذكرات بعض الكتاب. مهم أن يعرف الكاتب ذلك ليقرر أين يقف ومن أين يبدأ فلا يكون حديثه مكررا لا قيمة له.
مع الثورة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي المتنامي.. كيف يحافظ الأديب على تفرده؟أنا من جيل قديم وأرى الذكاء الاصطناعي في الأدب والإبداع فاقدا للروح، ومهما غذيته من معلومات سيكون رده ميكانيكيا لا روح فيه. يمكن استخدامه في العلوم أو حتى الترجمة، لكن في الإبداع يظل الأمر قاصرا.
على فرض أنه أتيحت لك فرصة الإفادة من منصات التواصل في تسويق أعمالك.. ما الاختلاف الذي كنت تتوقعه؟– أنا أترك ذلك للناشر ولا أشغل نفسي به. فقط أنشر مقالاتي علي منصات التواصل بعد نشرها في مواقع ومجلات. كذلك أنشر أخباري وأخبار رواياتي وما يكتبه النقاد عنها. أفعل ذلك من باب الاحتفاظ بها. يسعدني الاهتمام من المتابعين طبعا لكن أنا متعتي فيما أكتب. ما بعد ذلك متروك للقراء وهم أحرار.
ما الأحلام التي تراودك اليوم؟ هل يمكن أن تترجم في عمل ما؟انا مشغول بكتابة رواية جديدة وأنتظر رواية ستنشر في دار المتوسط في يناير القادم. حين أكتب رواية لا انشغل بشيء آخر.
لو قدمت جملة من النصائح لشباب الروائيين.. ما أبرزها؟كما قلت من قبل أن يقرأ في تاريخ الأدب وتطوره، وأن المهم هو كيف يكتب لا ماذا يكتب. الكتابة فن وللرواية أو الشعر أو المسرح أو الرسم مدارس فنية علي الكاتب الشاب أن يدركها. كذلك الاهتمام بالفنون الأخرى مثل السينما والفن التشكيلي تساعده على التصوير الفني والإيجاز في الحكي، وحبذا لو قرأ شيئا من الفلسفة ليعرف قضايا الوجود، وكيف تنعكس في مواقف شخصياته. الفلسفة مهمة جدا للكاتب لا تقل أهميتها عن القراءة في تاريخ الأدب أو علم النفس أو التاريخ أو غيرها.
إعلانالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات عبد المجید دور النشر
إقرأ أيضاً:
نبوءة الشعر بين الأدب والسلطة متن القصيدة في شعر أحمد مطر
يحتل مصطلح «الأدب والسلطة» الحيز الأكبر في المشهد المؤثر في العلاقة المتأزمة في جناحي الدولة المفترضين (الشعب والسلطة)، ولا يمكن إنكار دور الأدب في العقل الجمعي ومدى امتلاكه لزمام التحرُّش بالعقل ونفض الكُمون عنه، وهو ما يمثِّل التلويح باستخدام الصاعق بشكل يقشع الهدوء أو المساكنة بين الطرفين، وهذا متعلق في مسار يصل للغاية أو المحرك وهو «الكلمة».
ولعل توصيف الكلمة الشهيرة؛ جاء في مسرحية «الحسين ثائرا» للكاتب المسرحي عبد الرحمن الشرقاوي، هو توصيف عميق للكلمة:
أتعرف ما معنى الكلمة...؟
مفتاح الجنة في كلمة
دخول النار على كلمة
وقضاء الله هو الكلمة
الكلمة لو تعرف حرمة
زاد مذخور
الكلمة نور
وبعض الكلمات قبور
بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري
الكلمة فرقان بين نبي وبغي
بالكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور
ودليل تتبعه الأمة
عيسى ما كان سوى كلمة
أَضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين
فساروا يهدون العالم
الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية
إن الكلمة مسؤولية
إن الرجل هو الكلمة
شرف الرجل هو الكلمة
شرف الله هو الكلمة
ولأننا نتحدث عن الكتابة باختلاف مشارب مزاوليها، فالتَّعريج على مفهوميِّ الثقافة والأدب لازم في ظل التشابك والتداخل بينهما، نظرا لقلة التنظير الثقافي في توجيه البوصلة للتفريق بين الأدب والثقافة، على أن الرأي المتوافق أن الأدب هو أحد تجليات الثقافة التي تعزز الإيمان بالهوية وصقل الشخصية الإنسانية.
وإذا أردنا الاقتراب من التاريخ الأدبي المعاصر بمنطق الكلمة المؤثرة؛ فإننا سنشير إلى أحد الشعراء الذين كان لهم باع طويل في تعزيز الإدراك الجمعي المؤثر للقارئ العربي وهو الشَّاعر الكبير أحمد مطر، والذي كان يخاطب الإنسان بجوانبه المختلفة، المؤطر وغير المؤطر والبسيط، ولذا اتسم شعره بالنخبوي، والشعبي على كلا الحالين.
وأذكر أن أول كتاب قرأته في حياتي «غير منهجي» وفي مرحلة مبكرة خلال نشأتي في الكويت؛ ديوان «لافتات1»، وقد قرأت تلك الإشعالات الفكرية بثوبها الشعري، لم أكن حينها أفقه المعنى الفكري لما يكتب أحمد مطر، لكني كنت واعيا بالقدر الذي يسمح لي بالقول: إن شعره كان يختلف عن الشعر المتداول حتى ما يسمى الشعر الثوري، ولعل أول توصيف حقيقي قدمه أحمد مطر لمسيرته الشعرية كان أول سطر حين قال:
سبعون طعنة هنا موصولة النزف
تبدي ... ولا تُخفي
هذا المفتتح؛ أقر هوية الشاعر أحمد التي خطّها لنفسه منذ البداية، وكأنه عالم متنبئ بالقادم من حياته التي تقيدت بحريته!
وربما جاز التساؤل: لماذا اختط أحمد مطر هذا المسار المرهق أو حتى الجنوني منذ البدء؟
لقد أراد أحمد مطر تقديم صوت مختلف في الصراع مع السلطة، والسلطة لدى أحمد مطر ليست نظاما بعينه بل هي ممارسات القمع «انتقاص الكرامة» في أي مكان فيه تكبيل للحرية، ليس لأن النظام يريد ضبط قانونه بل لأنه عرف الحق الأوحد في الحياة وهو الحرية.
صوت مرتبط بغاية الشعر في مثلثه المتناغم؛ الشَّاعر والمتلقي والفلسفة الوجودية، في التعبير عن الفعل الحقيقي في التأثير في المتلقي، وإضافة نوعية في التاريخ الشعري المعاصر من خلال رسالة واضحة المعالم، تلبس أثوابا نسجها الشَّاعر بطريقته لإيصال التأثير المطلوب.
لقد استخدم أحمد مطر التصريح الظاهر مع مُشكِّلات من التعريض الهامز لإيصال رسالة تصل إلى المتلقي في المقام الأول، آخذا في الاعتبار أن من بين فئة التلقي من يغبش صورة من يحاولون تجميلها عبر الإعلام الرسمي، كاشفا عوراتهم بوضوح.
تتجلّى القيمة الفنية لشعر أحمد مطر؛ أنه يقوم على مرتكز شعر التفعيلة وتفاعلها مع الصورة الشعرية، باعتبار ذلك تأطيرا فكريا لرسالته وليس بوصفه محسنا بديعيا أو زائدا على المعنى، أو اشتغالا على وزن وقافية فقط.
على أن الشاعر اختار في انتقاء تراتبية قصائده بشكل مقصود؛ آخذا في الاعتبار المنتج الخارج من تكالب السلطة على المعنى الإنساني حتى أفرز ما كتبه مطر في قصيدة «طبيعة صامتة».
في مقلب القمامة
رأيتُ جثة لها ملامحُ الأعراب
تجمعت من حولها «النسور» و«الذباب»
وفوقها علامة
تقولُ: هذي جيفةٌ
كانت تسمى سابقاً.. كرامة!
إذًا؛ فالمسوّغ الفكري الحاصل للنتيجة التي انبثق منها مسار أحمد مطر؛ التردي الحادث الذي أفضى إلى انتفاء الاستقلال الوطني الحقيقي، وأشار إلى ذلك بقفلة القصيدة:
تقولُ: هذي جيفةٌ
كانت تسمى سابقاً.. كرامة!
لقد اعتاد أحمد مطر في شعره اللَّاذع شد القارئ بفاعلية من خلال تجديد اللغة الإبداعية، ما بين الإطار التصويري والنقلات المجازية في متن القصيدة، مما أسهم في تحوّل السياق إلى تنوّع الدلالات من عدة زوايا، ومن هذا:
يقظة
صباح هذا اليوم
أيقظني منبه الساعة
وقال لي: يا ابن العرب
قد حان وقت النوم!
لم يَسقط الشاعر أحمد مطر في فخ التّشاكل الُّلغوي، بل عمل على استثمار الفكرة في المواءمة بين اللَّسعة الفكرية وبين الَّلذة اللُّغوية المباغتة، من خلال تفويض القصيدة بإمتاع القارئ بمتعة مختلفة؛ المتعة المعرفية، بمعنى أن القارئ يلمح الإدراك الجمالي في القصيدة، ولكنه في الوقت نفسه يعمل على استقاء المعرفة لسبب ومعنى القصيدة، وهذا يحيله إلى التفكر في مآلات المتن وفكره، وهذا ما كان كمثال في قصيدة الثور والحظيرة؛ التي كانت واصفة لاتفاق «كامب ديفيد» بين الكيان الصهيوني والنظام المصري، حيث يقول:
الثور فر من حظيرة البقر
الثور فر
فثارت العجول في الحظيرة
تبكي فرار قائد المسيرة
وشكلت على الأثر
محكمة.. ومؤتمر
فقائل قال: قضاء وقدر
وقائل: لقد كفر
وقائل: إلى سقـر
وبعضهم قال امنحوه فرصة أخيرة
لعله يعود للحظيرة
وفي ختام المؤتمر
تقاسموا مربطه.. وجمدوا شعيره
وبعد عام، وقعت حادثة مثيرة
لم يرجع الثور
ولكن
ذهبت وراءه الحظيرة!
وقد تنبأ أحمد مطر منذ عقود باتفاقات التطبيع المُعلنة التي حدثت في القرن الـ21.
الفارق في شعر أحمد مطر؛ الجمع بين المتناقضات، بين اللَّذة اللُّغوية، والمعنى المعرفي، والألم الشعوري، وفي ذلك أحدث مطر شكلا أنيقا بل وشهيا أليما في المستوى الحسي للقصيدة.
وعلى الرغم مما يحيط بقصيدة مطر من إشكالات فكرية، لا تتوافق مطلقا مع السلطة – أية سلطة – يُعمل في استنطاق اللغة بتشاكل قد يراه القارئ العادي مثلبة، إلا أن وحدة القصيدة تفرض نفسها وتحقق الغاية منها، بعيدا عن التشكيلات التي تمنحها لغة الشَّاعر لها، من تدفق في الرؤية ومواءمة التَّضاد، وهذا ما يمكن ملاحظته في قصيدة «إنجيل بوليس»!
في البدء كان الكلمة
ويوم كانت أصبحت
مُتهمة
فطورِدت
وحوصِرت
واعتقلت
..وأعدمتها الأنظمة
**
في البدِء كانت الخاتمة!
بدأ أحمد مطر القصيدة بما يعرف «التعالق النصي» أو «التّناص» في عتبة القصيدة «إنجيل بوليس»، وكذلك مستعينا بالتناغم الموسيقي مع الوزن، وإظهارا لمعنى فكري، وتأصيلا لبيان الكينونة في المفتتح، بديمومة البدء لا بكينونة المفردة، كما ورد من قريب التماثل قوله تعالى «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ...»، ولهذا فإن انتقال الكينونة من «كان» و«كانت»؛ أعطى إشارة إلى انتفاء القوامة أو السطوة! ولهذا ذكر مطر: «ويوم كانت أصبحت متهمة» بعد المفتتح، وأنهاها بقوله: «في البدء كان الخاتمة» بتأكيد على انتفائها عن «كانت»!
لم يختر مطر في نقده للسلطة طريق المواربة أو طريقا يسمح ببعض التفاهم غير المعلن، بل لم يترك فرصة لمثل هكذا احتمالات، لم يلجأ إلى الرمز في غالب أعماله بل لعل هناك انتفاء له، وما يجعلنا نقرُّ بذلك كثير الأمثلة، ومنها بشكل فاضح قصيدة حالات:
بالتمادي
يصبح اللص بأوربا
مديرا للنوادي
وبأمريكا
زعيما للعصابات وأوكار الفساد
وبأوطاني التي
من شرعها قطع الأيادي،
يصبح اللص
..رئيسًا للبلاد !
وكأن هذه القصيدة وغيرها، هي من بنات العمل السياسي الواضح، بل والثوري على السلطة، بوصف امتطاء سدة الحكم عملا لا أخلاقيا! مما يشكل انحيازا أيديولوجيا لفكرة الوصول للسلطة، إن أحمد مطر في هذه القصيدة يحاول تجنيس مفهوم الوصول للحكم باللُّصوصية، أي أنه لم يمارس المعارضة النقدية الإصلاحية، لإيمانه بأن الاجتثاث أفضل الطرق للتغيير، إذًا؛ هو لم يحاول في شعره النقد بطريقة المهادنة أو التراتبية في النقد، ولم يكن ضمن المثل الدَّارج «الكي آخر العلاج» بل جعله أولوية، لأن -في اعتقاده- الأمر لا يحتمل الرُّكون إلى المحاولات غير المعروفة نتائجها في الإصلاح، ولإيمانه بأن من يطمح للوصول؛ هو طامع في المكاسب وغير مستعد للتنازل.
ذهب أحمد مطر في التلويح بالثورة إلى أبعد من ذلك؛ فخاطب الفئة المستضعفة التي لا تملك حولا ولا قوة، فجعل ممارستها للثورة الداخلية ملجأ له من الضعف والتشرذم الداخلي، حيث قال في قصيدة «سلاح بارد»:
يا أيها الإنسان
يا أيها الموجوع،
المخوف،
المهان يا أيها المدفون في ثيابه
يا أيها المشنوق من أهدابه
يا أيها الراقص مذبوحا
على أعصابه
يا أيها المنفي من ذاكرة الزمان
شبعت موتا فانتفض
آن النشور الآن
بأغلظ الإيمان واجه المآسي
بقبضتك حطم الكراسي
إن لم تستطع فجرد اللسان
قل: يسقط السلطان
أما إذا لم تستطع
فلا تدع قلبك في مكانه
لأنه مدان
يسبق أحمد مطر غيره من الشعراء؛ نضوج الفكر الثوري الكاشف للمشهد السياسي، الآخذ أعلى نقطة في سلَّم المعارضة السياسية للسلطة بالأدب، وبالشعر خاصة؛ ذلك لأن الشعر في بدايات أحمد مطر كانت له السطوة الجارحة والناقمة على السلطة، فأضحى ملاذا للمعارضين.
يقول الشَّاعر والناقد «خورخي لويس بورخيس» في كتاب (لغز الشعر): «الأدب يبدأ بالشعر»، وفي قول آخر في الكتاب نفسه: «إن المهم، دون شك، هو ما وراء بيت الشعر».
ولعل هذا المفهوم؛ يقودنا إلى القيمة الإبداعية للأدب، وخاصة «الشعر»، وإلى القيمة الذَّاتية للشاعر، والذي هو في الأصل فرد من المجتمع، يتأثر بمحيطه ويؤثر، على أن أحمد مطر شقَّ لشعره مسارا خاصا؛ كان الثقل أو المرتكز المحرك «العاطفة»، ولا نعني بالعاطفة بمفهومها المرهف، بل بمفهومها الانتمائي للقضية وللمبدأ.
وبعيدا عن الأصناف الأدبية الأخرى؛ فإن الشعر يمثل الحلقة الأقوى في توسيع دائرة الصَّدى، وإنفاذ المعادلة القائمة بين الأدب والسلطة، وعلى هذا فإن أحمد مطر استخدم مفهوم الصدق المكشوف في عمليته الشعرية النقدية للسلطة، وهذا بالطبع يضع مسار الكتابة دوما في اصطدام دائم في ظل كشف الأفكار النقدية بشكلها الشعري الحر. ولا يخفى أن الأسلوب الذي اتبعه أحمد مطر في انتقاده اللَّاذع للسلطة إثارة فردية شكلا، لكنها في الوقت نفسه ممارسة جماعية من خلال التفاعل بين الشَّاعر وقرائه ومتابعيه.
ولا يخفى على مطَّلع أن شعر أحمد مطر خطابي بالدرجة الأولى؛ حيث الصوت الحكائي، وميزان التعبير المختل في الوطن العربي؛ دعا مطر إلى التنبيه والتوبيخ في تعبيره بشكل صارخ، معلنا بطريقته الساخرة والتهكمية؛ إنفاذ حرفه بكشف عورات الحكّام، يقول مطر في قصيدة «المبتدأ»:
قَلَمي رايةُ حُكْمي
وبِلادي وَرَقَهْ
وجماهيري ملايينُ الحُروف المارقةْ
وحُدودي مُطْلَقَهْ.
ها أنا أسْتَنشِقُ الكَوْنَ،
لبِستُ الأرضَ نعْلاً
والسّماواتِ قَميصا
ووضعْتُ الشّمسَ في عُروةِ ثوبي
زَنْبَقَهْ
أضاف الشاعر أحمد مطر نوعا جديدا في الكتابة الشعرية؛ وأظنه أقرب إلى الرسم الكروكي الهندسي في شكل شعري.
عبَّر عن سلطته وأفرد مقوماتها، ثم أبان مميزاتها التي تفتح له آفاقا رحبة، فوجَّه إلى من يمتلكون رقعة جغرافية ما؛ بأنه أكبر منهم جميعا.
مما يلفت الانتباه؛ أن الشاعر أحمد مطر حرص في صياغته للقصيدة، على عدم الإخلال بالنموذج المنهجي لشعره الوطني بالمفهوم السياسي للوطن، بين ثلاثة عناصر: (أداة الحكم - الشعب - الأرض)، وجعل الترتيب ضروريا في تصنيف المهم فالأهم؛ فنراه يختار أداة حكمه (قلمي راية حكمي)، واختار الكناية في قوله: (وجماهيري ملايين الحروف المارقة) تعبيرا عن الشعب، وجعل حدود حكمه مطلقة، وكأنه يتحدى فئة الحكَّام أن يطاولوا ملكه عظمة، على الرغم أننا نرى النفس السلطوي للقصيدة، يمكن القول: إن مطر قد زاد من وتيرة التوصيف الشعري، تماهيا مع ما يعتقده من استقواء الحكَّام في بسط نفوذهم، فكان ما سبق استعلاء مقصودا منه على الحالة.
يمكن من خلال هذه القصيدة النظر إلى التناسب المنطقي في عرض مطر لحكمه في مملكة الشعر الذي نراه في عالم القصيدة السياسية أو بالأحرى الشعر السياسي ضمن سياسة الأدب، في إدراك للعملية الإبداعية المتناسبة مع المنطق والصياغة الشعرية.
يقول الناقد الأمريكي (رينيه ويليك) في كتابه مفاهيم نقدية عن كتابه المعنون بـ(نظرية الأدب):
حاولت في كتابي «نظرية الأدب» أن أقدم الأدلة على اختلاف بعض فروع الدراسة الأدبية عن بعضها الآخر.
ومما قلته: «إن هناك، أولا، فرقا بين النظرة التي تعتبر الأدب كيانا متزامنا وبين النظرة التي تعتبر الأدب سلسلة من الأعمال المرتبة حسب تسلسلها الزمني وأجزاء لا تنفصل عن مسار التاريخ. وإن هناك ثانيا، فرقا بين دراسة المبادئ والمعايير الأدبية، وبين دراسة الأعمال الأدبية ذاتها، سواء أدرسناها بمعزل عن غيرها أو كجزء من أعمال مرتبة حسب تسلسلها الزمني».
في المقتطف الأول؛ نرى أن الشَّاعر أحمد مطر قد حقّق النظرتين القائلتين بالمزامنة والتسلسل الزمني التاريخي، حيث كان مداوما على التفاعل مع القضايا العربية باختلاف مشاربها وأماكنها، غير عابئ بما قد يُؤخذ عليه، ومرد ذلك هو حريته التي جعل منها مملكة، هو الآمر والناهي فيها.
وهو أيضا من خلال المداومة على التفاعل يحقّق الكتابة الأرشيفية بشكلها التاريخي، فهو حين يكتب عن حدث ما أو قضية ما؛ يكوِّن من كتابته تأريخا يمكن الرجوع إليه، لمعرفة ما كتب في تلك الفترة، بمعنى كتابة القصيدة في ذكرى الحادثة أو الموقف الفلاني.
ولأن أحمد مطر شاعر مقتدر وقدير في لغته وجذور عمليته الإبداعية؛ يمتلك ملكة المباغتة في السياق الشعري والفكري معا، وللدلالة على ذلك يمكن أخذ مثال واضح، قصيدة «غربة كاسرة»:
ربّ طالت غربتي
واستنزف اليأس عنادي
وفؤادي
طمّ فيه الشوق حتى
بقيّ الشوق ولم تبق فؤادي !
أنا حيّ ميتٌّ
دون حياة أو معاد
وأنا خيط من المطاط مشدودٌ
إلى فرع ثنائيّ أحادي.
كلما ازددت اقترابا
زاد في القرب ابتعادي!
استخدم أحمد مطر قوة التخييل كمادة كلِّية في القصيدة، حتى أن القارئ بات ينتظر النسق المعتاد للشاعر، فالسمت المعمول به في القصيدة هو التركيبة الواحدة في تصويب التوجيه نحو الوطن! فعمل على إيهام القارئ بالحنين وصعوبة العيش في الغربة المكانية والنفسية، عبر إشارات توحي بالتخييل، مما يعرض القارئ إلى الاستجابة الضمنية لشيء مركب في النفس البشرية «حب الوطن»، فقد مارس مطر تقبيح الغربة، وتحسين ميزات الوجود في الوطن، وعلى مسلكية ثابتة يقوم أحمد مطر بتأثيث تخييله، بدءا من الدعاء، إلى إحساسه بالشوق، وأبان عدم مقدرته على الاستمرار بوصف الغربة كاسرة، حين يُخيل للقارئ أن نهاية القصيدة متوقعة؛ وهي طلب العودة والصفح!
لقد خذل مطر مناوئيه ومن كان يشمت طيلة مسير القصيدة إلى النهاية؛ زاد في جرعة التخييل حتى الرمق الأخير منها، فكانت النهاية قنبلة مدوية، لقد عرض مطر فاعلية التحسين والتقبيح من منظور فلسفي بحت، بشكل رتيب ومنظم، حتى أننا ظننا أن القصيدة قصيدة أخلاقية بالدرجة الأولى بعيدا عن تحرشات مطر المعتادة، فإذا به ينقضُّ علينا بقنبلته.
لقد شكل مطر التصور الأخلاقي بطريقة مغايرة، وذهب إلى استقدام «الدُّلسة» و«الدَّلَس» معا؛ حيث أعمى تفكيرنا عن وجود خديعة، ثم واجهنا بها في آخر القصيدة، ونجح في ذلك بشكل متقن، على أن القارئ النابه لن تنطوي عليه مثل هذه المحاولات المطرية، لإيمانه بأن هذا المقروء ما هو إلا مغالطة منطقية لطريقة الشَّاعر ومسار علاقته مع السلطة.
أعتقد جازما؛ أن أحمد مطر كان شاعرا سلطويا بالدرجة الأولى، وقد يتفاجأ الكثير من هذا الوصف، لكني هنا لا أقصد انتماءه للسلطة الحاكمة، بل لقد أحكم أحمد مطر دور السلطة الحاكمة في شعره، لقد كان سلطة بذاته، تأمر وتنهى، وتكشف وتُخفي، تبين الواقع وتُعري المواقف، وهذا ما كان في تشكيله في الوجدان العربي، شعلة من الغضب، وساعده على ذلك الجو المناهض لممارسات السلطات العربية، والجو الأدبي الحاضر آنذاك؛ بقوة المشهدين الثقافي والسياسي من خلال الحالة النخبوية المتواجدة القريبة من المشهد السلطوي أو الحالة التي كانت تحظى بالتفاف جماهيري واسع، هذان العاملان ساهما في وجود بحبوحة لدى الأديب من جهة والجماهير في إتقان العلاقة بينهما من جهة أخرى؛ وكأن هناك اتفاقا أو تفاهما غير مكتوب من السلطة وكتّاب الأدب بنوع من المهادنة غير المعلنة، أولا؛ لإفساح المجال لبعض الحرية، وثانيا؛ محاولة تجميل الصورة السوداء للسلطة ولو ببعض الرتوش.
ناهيك على محاولة السلطة استقطاب عدد كبير من الأدباء لجانبهم؛ سواء بالترغيب أو الترهيب، ترغيبا في إعطاء المجال للكتابة الحرة المقنَّنة، وإرهابا في إغلاق أنبوب التَّنفس وبالتالي التضييق لحد التوقف عن الكتابة والملاحقة الأمنية أو الهجرة.
إن أسمى القيم التي يمنحها الأدب للإنسان هي التفكير؛ التفكير القائم على احترام الكينونة الإنسانية، وعدم التعدي عليها بأي شكل من الأشكال، وهو ما يعني المفهوم المعروف «الحرية».
طلعت قديح كاتب فلسطيني