صلاح شعيب

برغم القدرات التنظيمية للمؤتمر الوطني في توظيف الإعلام المضاد للقوى الثورية التي ساهمت في إسقاط مشروعه الإجرامي، إلا أنها لم تنجح تماماً في تشويه الحقائق بعد الحرب. فالفرق الوحيد بين إعلام المنادين للحرب واستمرارها وبين الرافضين لها هو المال فقط. فما نهبه المؤتمر الوطني من أموال الدولة طوال ثلاثة عقود توظف الآن عبر فضائيات، ومنصات في وسائل التواصل الاجتماعي، ومنظمات متخصصة في “الآي تي” لاختراق منصات المعارضين، وتنظيم حملات مؤسسة لشكاوى كاذبة ترسل يومياً لإدارة هذه المنصات ضد نشطاء ينادون بإيقاف الحرب.

هذا المال المنهوب من القطاعين العام والخاص أثناء سيطرة المؤتمر الوطني على الدولة وُظف بنسبة كبيرة في دعم تلك الفضائيات، والصحف، والمشاريع الإعلامية، ومنابر أخرى، ورشاوى لسياسيين من أجل تغييب الحقائق عن المواطنين. وأكبر دليل على ذلك ما قاله البشير عن قناة الشيخ عبد الحي التي دعمها بخمسة مليون دولار. والحقيقة أننا لا ندري ما إذا كان الأمر قد توقف عند هذا الحد أم أن عبد الحي قبض لاحقاً أموالاً أخرى تخص الدولة. بل ولا ندري هل عادت قناة طيبة للبث من خارج الحدود عبر ميزانية جديدة من مال الدولة المنهوب، أم أن الداعية الديني صار مليونيراً ليصرف على قناته بكل هذا السخاء.

ولأن كل القوى السياسي التي عارضت مشروع الحركة الإسلامية ليس لديها القدرات المالية الضخمة مثل المؤتمر الوطني، فقد عجزت عن إنشاء قناة فضائية واحدة أثناء فترة حمدوك. والآن تعتمد هذه القوى جميعها على وسائط التواصل الاجتماعي دون خطة إعلامية محددة لمواجهة دعاة استمرار الحرب الذين منهم متفرغون ليلاً ونهاراً للمهمة. إذ يبثون الأكاذيب عن الحرب، ويشوهون صورة الأحزاب المنضوية تحت لواء تنسيقية تقدم، ويزورون مواد النت بعشرات الآلاف من الأسماء المستترة.

بخلاف المال المنهوب لأغراض التدجيل، فإن المؤتمر الوطني يختلف عن بقية أحزابنا الوطنية الأخرى في أنه يعتمد على مرجعية إخوانية تبيح له تجاوز القيم، والأعراف الإنسانية، ومعاني الدين الضابطة للصدق حتى. ذلك إذا كان هذا الإجراء السياسي يخدم مصلحة الإخوان المسلمين الذين يعتمدون على البراغماتية، والتدليس، والغش بناءً على فقه الضرورة.

وبهذا النهج الشيطاني تمكنت الحركة الإسلامية قبل انشطارها في التفوق البراغماتي الانتهازي ما جعل البون شاسعاً بينها وبين منافسيها في استثمار الفرص السياسية. فهي قد اعتمدت على مناشط اقتصادية خاصة بها منذ فترة نميري، وبعد سيطرتها على الدولة ملكت الحركة الإسلامية وعضويتها آلاف الشركات في ظل الفساد الإداري الحكومي، واستغلاله وسيلةً لبناء حزب يدخر مليارات الدولارات، والتي تُسجل في البنوك بأسماء شخصيات إخوانية وانتهازية داخل السودان، وخارجه.

وبهذه الكيفية، فإن المؤتمر الوطني الذي فقد السلطة قبل ستة أعوام ما يزال يمول قناتي طيبة، والنيل الأزرق، وصحفاً إليكترونية، ونشاطاً إعلامياً منظماً من خلال منصات الإنترنت، وهناك غيرها من الوسائل المتبعة لتعويق حركة النشطاء المعارضين للحرب.

بغير المضمون التغبيشي للرأي العام عبر “عشرات اللايفات”، ومواد البودكاست، ومنصة “الكلوب هاوس”، وتطبيقات أخرى، فإن إستراتيجية المؤتمر الوطني الإعلامية اعتمدت ملاحقة رموز ثورة ديسمبر يومياً بشتائم تُوجه لأحزابهم، ولآبائهم، وسباب دائم لمواقفهم، وسخرية من أشكالهم حتى، واختلاق أكاذيب عن حيواتهم الشخصية. وهذا النهج مقصود لإفساد مناخ الرأي العام، وإجبار القادة السياسيين على الانزواء دون التعبير عن مواقفهم، وحتى لا تتعرض شخصياتهم المحترمة للحط من مكانتها الاجتماعية.

من ناحية أخرى اعتمد إعلام المؤتمر الوطني منذ بدء الحرب على استراتيجية “اكذب، اكذب، حتى يصدقك الناس”. وظل هذا الإعلام حتى يوم الناس هذا يخدر دعاة الحرب بانتصارات زائفة، بالإضافة إلى تحويل هزائم الجيش إلى نجاح في دحر مزعوم للدعم السريع. ومن ناحية أخرى اعتمد إعلاميو المؤتمر الوطني، وزملاؤهم الانتهازيون، والمغيبون من البسطاء في خلق ربط مستمر وماكر بين تنسيقية تقدم ومعظم المعارضين بخصمهم الذي يقاتل الجيش. ذلك رغم أن ادعاء هذا الرباط السياسي الكاذب لا يقوم على أساس منطقي، أو موضوعي. بل لا يستطيع أي محلل سياسي أمين أن يثبت ما يدعيه الكيزان، والبلابسة، بأن تقدم تمثل الجناح السياسي للدعم السريع. ولكن على كل حال فالكذبة التي جعلت زعيمهم يذهب للسجن حبيساً، والبشير للقصر رئيساً، هي بمثابة البذرة التي قننت الكذب الصراح وسيلة لكل التلاميذ بأن يستتبعوها بكذبات جديدة متى ما رأوا مصلحة للجماعة.

رغم المجهود الضخم لتلفيق الحقائق بهدف تقويض الثورة، والعودة إلى السلطة مجدداً، فإن إعلام المؤتمر الوطني مهزوم مهزوم إن آجلاً أم عاجلا. فالحق أبلج، والباطل لجلج، طال الأمد أم قصر.

الوسومصلاح شعيب

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: صلاح شعيب المؤتمر الوطنی

إقرأ أيضاً:

الحركات الإسلامية الشيعية في العراق.. تجربة الحكم وإشكاليات الاستمرار - عاجل

بغداد اليوم – بغداد

بعد احتلال العراق عام 2003، وجدت الحركات الإسلامية الشيعية نفسها في موقع لم تعهده منذ تأسيسها. بعد سنوات من العمل السري والمعارضة، أصبحت هذه الحركات ممسكة بزمام الحكم، تتصدر المشهد السياسي وتدير مفاصل الدولة، وتتفاوض على مستقبل البلاد مع الاحتلال الأميركي، وتؤسس لنظام سياسي جديد مبني على المشاركة الطائفية. تحوّل مفصلي كهذا لم يكن مجرد مكافأة لتاريخ النضال، بل كان امتحانًا صعبًا بين مشروع الدولة الذي طالما نادت به، وحقيقة السلطة التي سرعان ما كشفت هشاشتها البنيوية، وسرعة تحولها من مشروع تغييري إلى منظومة سلطوية جديدة. ومنذ ذلك الحين، دخل العراق في مسار معقد يتقاطع فيه التاريخ بالمصالح، والدين بالسياسة، والمعارضة بالسلطة.


التأسيس الأول.. صعود في ظل فراغ الدولة

في السنوات الأولى لما بعد الغزو، كانت البلاد في فراغ سياسي وأمني ودستوري شامل، وقد ملأت الحركات الشيعية هذا الفراغ بسرعة مدفوعة بشرعيتين: الأولى مستمدة من الإرث المقاوم ضد النظام السابق، والثانية من غطاء المرجعية الدينية التي وفّرت دعمًا مباشرًا لتشكيل الدولة الجديدة، لا سيما من خلال فتوى المشاركة في الانتخابات وصياغة الدستور. تشكلت قوى سياسية كبرى مثل حزب الدعوة الإسلامية والمجلس الأعلى والتيار الصدري ومنظمة بدر، وسيطرت هذه القوى على المشهد السياسي، وشكلت جميع الحكومات المتعاقبة، مع تعزيز مكانتها من خلال النفوذ الإقليمي، وتحديدًا الإيراني.

لكن هذه الهيمنة لم تكن ناتجة عن مشروع وطني متكامل، بل تأسست على قواعد المحاصصة الطائفية والإثنية، حيث توزعت المناصب على أساس الانتماء المذهبي لا الكفاءة. ومع مرور الوقت، تحولت الدولة إلى كيان ريعي تسيطر عليه الأحزاب، وتُدار مصالحه ضمن منطق الغنيمة، فيما تآكلت ثقة المواطن بمؤسسات الدولة، وبرزت ملامح الفشل في إدارة ملفات الأمن والاقتصاد والخدمات.


الانقسامات وإعادة التشكيل.. ديناميكيات داخل البيت الشيعي

في حديث خاص لـ"بغداد اليوم" (27 آذار 2025)، أوضح المحلل السياسي عدنان التميمي أن عدد الكيانات السياسية الشيعية التي ظهرت بعد عام 2003 تجاوز العشرين، إلا أن هذا العدد تقلص إلى أقل من ثمانية حاليًا، بسبب الانقسامات الحادة بين القيادات، وصراعات النفوذ، وظهور أجنحة وتيارات منشقة، بعضها حمل شعارات إصلاحية، وبعضها أعاد تدوير التجربة القديمة بأسماء جديدة.

وقال التميمي: "لو رجعنا إلى مرحلة ما بعد 2003، ومرحلة الحكومة الأولى وإعلان الدستور، نجد أنه كان هناك ما بين 15 إلى 20 تكتلًا سياسيًا مهمًا في تلك الفترة، لكن ما تبقى منها ربما أقل من ثمانية تكتلات، وبقية التكتلات اختفت وتحولت إلى قوة سياسية أخرى بسبب الانشقاقات بين قياداتها التي أسست تيارات وأحزابًا سياسية".

وأضاف أن "الكثير من العناوين السياسية اختفت في قراءة المشهد العام لعام 2025، وبالتالي لا يمكن القول بأن البيت السياسي الشيعي وصل إلى مرحلة الاحتضار، لأن كلما اختفت قوة سياسية تظهر أخرى، وهناك إطار جامع لهذه القوى، خاصة وأن الاستحقاقات الانتخابية تفرض معادلة الأغلبية السياسية الشيعية، في البرلمان، مما ينعكس على تشكيل الحكومة".

وأشار إلى أن "تراجع دور إيران في سوريا ولبنان لن يشكل أي ارتدادات قوية على البيت السياسي الشيعي، في ظل وجود قوى لها علاقات استراتيجية مع طهران"، مؤكدًا أن "هذه القوى نجحت في بلورة دعم لها مكنها من الاستمرار والتفاعل مع المشهد بشكل عام".

كما استبعد التميمي "وجود دعم مالي مباشر لتلك القوى، موضحًا أن تلك القوى ساعدت الاقتصاد الإيراني من خلال دعمها لبعض الصفقات والمضي في العلاقات التجارية والاقتصادية التي ساعدت الاقتصاد الإيراني الذي يعاني من عقوبات شديدة".

وفيما يتعلق بالحديث عن ضعف البيت الشيعي السياسي، أضاف التميمي أن "الحديث عن انعكاس ذلك إيجابًا على البيت السياسي السني غير دقيق، لأن البيت السني أيضًا يعاني من انقسامات وخلافات حادة أدت إلى انشقاقات في القيادات وكثير من القوى".

وأشار إلى أن "أغلب القوى السنية التي نشأت بعد 2003 اختفت بعد سنوات، ونحن أمام مشهد سياسي مختلف مع قيادات جديدة من الجيل الثالث التي تحمل أفكارًا واستراتيجيات مختلفة، وحتى الشارع في المناطق السنية لا يتفاعل مع تلك القيادات".


مراجعة إجبارية أم نهاية مرحلة؟

إن تجربة الحركات الإسلامية الشيعية في العراق لا يمكن قراءتها من زاوية واحدة. هي تجربة صعدت من اللاشرعية إلى السلطة، لكنها لم تتحول إلى تجربة بناء دولة. سيطرت على القرار، لكنها لم تسيطر على الأزمة. أسهمت في تحرير العراق من نظام شمولي، لكنها لم تبنِ نظامًا ديمقراطيًا مستقرًا.

يبقى مستقبل هذه الحركات مرهونًا بإرادتها في مراجعة ذاتها، وقدرتها على تفكيك المنظومة الريعية التي غذّتها لعقود، وجرأتها على الانتقال من منطق الغلبة الطائفية إلى منطق الشراكة الوطنية. وإذا لم تفعل، فإن صعود قوى احتجاجية، ونخب شابة، وتغيرات إقليمية، قد يفضي إلى نهاية مرحلة تاريخية وبداية أخرى لا تشبه ما قبلها.

مقالات مشابهة

  • هناك أسئلة مهمة تحتاج لإجابات شافية ووافية
  • الحركات الإسلامية الشيعية في العراق.. تجربة الحكم وإشكاليات الاستمرار
  • الحركات الإسلامية الشيعية في العراق.. تجربة الحكم وإشكاليات الاستمرار - عاجل
  • الشيخوخة السياسية والانقلاب الداخلي.. مرحلة جديدة نحو تغيير النظام السياسي
  • ما قصة سحوبات الجوائز الكبرى التي هزت الكويت؟ وكيف علق مغردون؟
  • رئيس حزب المؤتمر الوطني أحمد هارون يعلق على تحرير الخرطوم.. مصنددين
  • حزب المؤتمر: خطاب الرئيس في ليلة القدر رؤية متكاملة بين القيم الروحية والعمل الوطني
  • حزب المؤتمر: خطاب الرئيس في ليلة القدر يعكس رؤية متكاملة بين الروح والعمل الوطني
  • نائب رئيس حزب المؤتمر: خطاب الرئيس في ليلة القدر يعكس رؤية متكاملة بين الروح والعمل الوطني
  • القمة البريطانية لاجل ايقاف الحرب في السودان ودور السودانيين في جعلها تصب في ايقاف الحرب فعلا