الربيع العربي.. الأحداث والتحديات
تاريخ النشر: 23rd, December 2024 GMT
17 ديسمبر 2010م.. انطلقت شرارة الربيع العربي، حين أحرق التونسي محمد بوعزيزي نفسه، فاندلعت في مدينته سيدي بوزيد مظاهرات عمّت تونس، وبعد أقل من شهر ترك الرئيس زين العابدين بن علي (ت:2019م) بلاده. كانت تونس الحجرة الأولى من رقعة الدومينو التي تتساقط أحجارها واحدةً تلو الأخرى، وآخرها في 8 ديسمبر 2024م، عندما رحل الرئيس السوري بشار الأسد عن دمشق إثر سيطرة قوات المعارضة عليها، التي بدأت نضالها عام 2011م.
كُتِبتْ دراسات ومقالات وقُدِّمتْ حوارات وتحليلات عبر مختلف واجهات الصحافة والنشر والإعلام والتلفزة.. والجامع بينها هو اتفاقها على أن الربيع العربي لم ينتهِ، وأن أحداثه جارية، إنه قطار انطلق ولن يقف حتى تتغير خارطة الوطن العربي. خارج نطاق التحليل، ونزولاً على أرض السياسة العربية، فإن الحكومات تدرك ذلك، وتدرك أن الشارع يتحرك من تحت أقدامها، وقد كشف سير الأحداث أنها تبذل جهدها لتجنب تأثير الربيع عليها، هذا بالنسبة للدول التي لم يكتسحها، أما التي اكتسحها فهي غارقة في صراعاتها، محاولة الخروج من مستنقع الدمار الذي أصابها، وهي تعاني من الاقتتال الداخلي، وتعاني أكثر من التدخلات الخارجية، التي يحاول كل طرف منها أن يفرض رؤيته في تشكّل الدولة الجديدة، من دون أن يرتد هذا التشكل بأثر سلبي على نظامه. وحتى يستبين حجم التحديات المستقبلية للربيع العربي ونوعها؛ ينبغي النظر في الخط العام لأحداثه خلال المدة المنصرمة.
الربيع العربي.. هو ثمرة حالة الشعوب العربية قبله، فقد كانت معظم الحكومات تعتبر الشعوب محكومة من قِبَلها، وليست شريكتها في الوطن وإدارته واتخاذ قراراته وسن قوانينه. فلا توجد أحزاب سياسية حقيقية ينضوي تحتها الشعب، ولا برلمانات معتبرة تمثله، ولا منابر إعلامية يعبر فيها عن رأيه. كانت هذه الحكومات تعاني من اللايقين السياسي والاقتصادات المهزوزة، والتعليم غير قادر أن ينهض بالأمة. وإعلام يقدم الإنجازات الحكومية، غاضاً الطرف عن حقيقة الحالة التي يعيشها الناس. والشعوب تعيش على حافة الفقر، وفرص العمل محدودة. أضف إلى ذلك؛ دخول العالم العصر الرقمي، وتواصل الشعوب فيما بينها، وتأثر العرب بالحالة الديمقراطية التي يعيشها العالم، دون قدرة الحكومات على إيجاد طرق توافقية للتواصل مع شعوبها، وقد ظلت خاضعة لبُنية الدولة العميقة التي يهيمن عليها متنفذون لهم مصالح لا يريدون التفريط بها، ولو على حساب عموم الشعب واستقرار الوطن.
أما أمريكا فقد كانت تعيد هيكلة الشرق الأوسط، وتنفذ مشروعها هذا بطريقين متلازمين: بمحاربة ما أسمته «الإرهاب الإسلامي»، دون اعتبار الأسباب التي أدت إليه، ولا الوضع الاجتماعي الناشئ من الحالة السياسية المحتقنة والممارسات العسكرية لأمريكا ذاتها في المنطقة. وبفرض الديمقراطية الغربية ببرنامج تأهيلي لمن تختارهم من «الناشطين الحقوقيين» في الشعوب العربية المقهورة، مما أوجد حالة من الحقد المتبادل بين الحكومات والشعوب؛ أدى إلى مزيد من السخط.
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.. لم يكن غائباً عن التأثر بالربيع العربي، فقد عملت أمريكا على الدفع بالمنطقة إلى التطبيع مع إسرائيل، تحت طائلة خوف الحكومات من تمدد الإسلام السياسي نتيجة الفراغ السياسي الذي أحدثه الربيع، مما دفع إلى تهميش هذا التيار العريض - الذي عملت بعض حكومات المنطقة بنفسها على رعايته وتمكينه- حتى لا يقف عقبة كأداء أمام التطبيع، ونسيت بأن التهميش لا يؤدي إلى الاضمحلال.. بل إلى الانتعاش والعنف. ومن الآثار المباشرة التي أدت إليها هذه السياسة انفجار الأوضاع بغزة، وقيام المقاومة الفلسطينية؛ في مقدمتها حماس بطوفان الأقصى، الذي أدخل المنطقة في صراع مستعر، وجعل العالم على حافة حروب دولية. لقد وقفت إيران وسوريا مع المقاومة، وحشدت إيران معها حزب الله والمقاومة العراقية وأنصار الله اليمنيين لمساندة غزة، مما دفع الدول الحليفة لإسرائيل إلى العمل على تحجيم جبهات المقاومة، وتحقق لها ذلك بقتل إسرائيل قيادات عليا في المقاومة وإيران، مما أوهن الوجود الإيراني في المنطقة، فعاجلت قوى المعارضة السورية بالإطاحة بنظام الأسد، فأصبحت المنطقة في حالة توتر، سيحدد ما بعدها حكام سوريا الحاليون.
لقد أدى الربيع العربي إلى تدمير الدولة في بعض البلدان التي عصف بها، ثم لم تتمكن من بنائها من جديدة.. بل دخلت في دوامة الانقسام والعنف ولم تخرج منها. وهناك تفاؤل من البعض بأن سوريا الجديدة ستكون أوفر حظاً، وتتحول إلى دولة ديمقراطية مستقرة، ولكن سوابق المنطقة لا تبشر بذلك، فقد تمكن بعض البلدان التي أطيح بحكامها من الحفاظ على الدولة من الانهيار، ولم تتمكن من تبني الديمقراطية وعاد الاستبداد إليها، وأزيحت الحكومات المنتخبة بقوة السلاح أو بالحشد المضاد، وزُجَّ بقياداتها في السجون، وقد مضى على الثورات عقد ونصف دون أن تخرج هذه البلدان من مشاكلها كالفقر والاستبداد وهجرة العقول إلى عالم أفضل.
خليجياً.. نظر بعض الدول إلى أن المشكلة في الإسلام السياسي، وأن عليها الأخذ بالانفتاح الغربي، فانقلبت على التوجه الإسلامي عموماً، وفتحت الحياة الاجتماعية على القيم الغربية، ظناً منها أنها تسير في طريق التحول المستقر، وغفلت أن الانفتاح في الغرب ليس هو إلا ثمرة ثانوية للديمقراطية والحرية الفردية. إن هذا الانفتاح الذي تمارسه هذه الدول قد يؤول إلى اضطراب اجتماعي وسياسي لا تحمد عقباه، ولا يكفي أن تحمي الحكومات نفسها بتبني المشاريع الاقتصادية وتحقيق الرفاه الاجتماعي، فالمعتقدات أرسخ في النفس وأقوى في المجتمع من التحولات الطارئة.
ورأت دول خليجية أن تسير سيرتَها الأولى، فواصلت الوقوف مع الإسلام السياسي وتحولاته، باعتباره يشكل شريحة كبرى من الاجتماع البشري في المنطقة، كما أنه التيار الوحيد الذي لديه برنامج سياسي، ومن الصعب تهميشه. ورغم أن هذه النظرة تتمتع بنصيب من الصواب، إلا أن هذه الدول ذاتها تتحصن عن تأثير الإسلام السياسي عليها، وعاقبة هذه السياسة أن يؤثر هذا التيار على الجميع؛ إن نجح في ذلك، بما فيها الدول الداعمة له. في حين آثرت دول أخرى عدم تغيير مسار التعامل مع التحولات الاجتماعية والسياسية فيها، ورأت أن دمج القوى الناشطة في المجتمع هو السبيل الأنجع، وقد دخلت في إعادة التراتبية الاجتماعية، انطلاقاً من وضع ضوابط للجنسية.
أما سلطنة عمان التي نهجت نهجاً متزناً في التعامل مع الأمور السياسية والدينية؛ فقد رأت أن من المشكلات التي ينبغي معالجتها الديون وضعف الاقتصاد، فعملت بـ«خطة التوازن المالي» وتشجيع الاستثمار الخارجي، وهذا جيد. وعليها أن تسارع بمعالجة ملف الباحثين عن العمل والمسرحين من أعمالهم؛ فهو من أهم عوامل الاطمئنان الاجتماعي. وعليها كذلك النظر في الخطاب الديني والحراك الثقافي، وهما ملفان يحتاجان إلى وضع استراتيجية جديدة تستفيد من المعطيات الحضارية للبلاد، على أن تدفع بها إلى مستقبل مستقر ومتوازن ومسهم في التحولات المدنية التي تشهدها المنطقة، وهذا ما تبشر به النهضة المتجددة.
حتى الآن.. لا يبدو هناك مخرج حاسم من مسار الربيع العربي، وقد تتواصل التغييرات حتى تجد الحكومات حلاً للعلاقة بينها وبين الشعوب، فالمنطقة أمام جيل جديد؛ «الجيل زد» (مواليد:1995-2010م)، الذي لا يفكر كما نفكر، ولا طموحاته هي طموحات آبائه، ولا مشاكله هي مشاكل من سبقه. إن على الدول أن توجد لها «دعاتها» بين هذا الجيل، بحيث يكونون قادرين أن يتفهموا آليات التحول الاجتماعي والسياسي، وأن التدرج هو سنة الحياة. والساسة مجبرون بحكم الزمن على إيجاد صيغة تشاركية مع المجتمع، فهذا جيل برجماتي لا ينتظر الأماني المعسولة.. بل تلح عليه سرعة العصر أن يرى النتائج قريبة التحقق.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الإسلام السیاسی الربیع العربی
إقرأ أيضاً:
من الفراعنة إلى العصر الحديث.. رحلة التعاون والتحديات بين مصر وسوريا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
تعد العلاقات بين مصر وسوريا واحدة من أقدم وأعمق العلاقات في التاريخ، حيث تمتد جذورها إلى العصور القديمة، وكان لها أثر كبير في تشكيل العديد من الأحداث الحضارية والسياسية في المنطقة من الفراعنة وصولًا إلى العصر الحديث، وشهدت هذه العلاقة تطورًا مستمرًا، ما بين تعاون ثقافي وعسكري، فضلًا عن تحديات سياسية أثرت على الاستقرار الإقليمي.
وتتمتع العلاقات بين مصر وسوريا بتاريخ طويل، يتراوح بين التعاون العسكري والثقافي في العصور القديمة والعصر الإسلامي، وصولًا إلى التعاون السياسي والدبلوماسي في العصر الحديث. ورغم التحديات الراهنة التي تواجه البلدين، بما في ذلك الأزمة السورية، تظل هذه العلاقة مهمة لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
فمنذ العصور الفرعونية، كانت هناك علاقات قوية بين البلدين، تمثلت في التبادل التجاري والثقافي بين الحضارتين، فقد كانت سوريا نقطة اتصال هامة بين مصر وحضارات ما بين النهرين وآسيا الصغرى.. مدينة أوجاريت السورية، على سبيل المثال، كانت مركزًا تجاريًا مهمًا في منطقة الشرق الأدنى القديم، حيث تبادلت مصر وسوريا العديد من السلع، مثل الخشب والمعادن النادرة كما شهدت العلاقة بين مصر وسوريا في تلك الحقبة تطورًا كبيرًا في عهد الفرعون تحتمس الثالث خلال الأسرة الثامنة عشرة، حيث أبرمت مصر تحالفات سياسية وعسكرية مع ممالك سوريا القديمة لتأمين حدودها الشرقية في مواجهة غزوات الكنعانيين والحثيين، كما تبادلت الحضارتان المعارف في مجالات الكتابة والفلك والدين، وقد اكتشف علماء الآثار في أوجاريت لوحات كتابية باللغة المصرية القديمة، مما يدل على عمق التأثير المصري على هذه المدينة السورية.
مع دخول الإسلام إلى مصر وسوريا في القرن السابع الميلادي، تغيرت طبيعة العلاقة بين البلدين، فقد أصبحت سوريا جزءًا من الدولة الإسلامية الأموية ثم العباسية، بينما استمرت مصر تحت سيطرة الخلافة الفاطمية والمملوكية خلال هذه الفترة، وتم تبادل العلماء والمفكرين بين مصر وسوريا في شتى المجالات من الفلك والطب إلى الفلسفة. كانت القاهرة ودمشق من أكبر المراكز العلمية في العالم الإسلامي، حيث تبادل العلماء السوريون والمصريون المعارف وشاركوا في تطور الحضارة الإسلامية.
في الجانب العسكري، كان لكل من مصر وسوريا دور مشترك في محاربة الحملات الصليبية خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر. كانت سوريا بمثابة نقطة انطلاق للعديد من الحملات العسكرية التي شنتها الجيوش الإسلامية، بما في ذلك الحملة العسكرية بقيادة صلاح الدين الأيوبي الذي أسس للتحرير المشترك للقدس.
في العصر الحديث، كانت العلاقات المصرية السورية تتسم بالتعاون المشترك، رغم التحديات التي واجهتها خلال فترة الاستعمار البريطاني والفرنسي للمنطقة العربية، كانت مصر وسوريا تواجهان تحديات مشتركة في مقاومة الاستعمار ومع الصراع المستمر مع إسرائيل، شكلت القضية الفلسطينية جزءًا أساسيًا من العلاقات الثنائية بين البلدين.
وفي عام 1958، توحدت مصر وسوريا في الجمهورية العربية المتحدة بهدف تحقيق الوحدة العربية، لكنها انفصلت في 1961 نتيجة لاختلافات سياسية بين البلدين وكانت الحرب الباردة أحد العوامل التي أدت إلى تعقيد هذه الوحدة، حيث استغلت القوى العظمى، مثل الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، الصراع العربي الإسرائيلي لتعزيز نفوذهما في المنطقة، ما ساهم في تفاقم الخلافات بين الأنظمة السياسية في مصر وسوريا.
على الرغم من فشل الوحدة، ظلت العلاقات بين مصر وسوريا قوية في العديد من المحطات التاريخية. في حرب 1973 ضد إسرائيل، كانت سوريا في الجبهة الشمالية بينما كانت مصر في الجبهة الجنوبية، وكان هناك تنسيق عسكري بين القيادتين رغم التباين في الأهداف ورغم أن التعاون العسكري بين البلدين لم يكن بالقدر الذي يتصوره البعض، فإن التنسيق على المستوى الاستراتيجي كان له دور كبير في تحقيق بعض المكاسب على الجبهة العربية
في السنوات الأخيرة، تأثرت العلاقات بين مصر وسوريا بشكل كبير بالأزمات السياسية في سوريا منذ عام 2011، حيث عاشت سوريا حالة من الحرب الأهلية التي أدت إلى تقسيم داخلي مع معاناة كبيرة للشعب السوري ورغم الاختلافات السياسية بين النظامين، إلا أنه كان هناك تحركات دبلوماسية مستمرة لتعزيز التعاون بين البلدين تتجلى هذه التحركات في تبادل الزيارات الدبلوماسية على مستويات مختلفة، فضلًا عن التنسيق المشترك في مواجهة التحديات الإقليمية، مثل مكافحة الإرهاب.
لم تقتصر العلاقات بين مصر وسوريا على المستوى الرسمي فقط، بل امتدت أيضًا إلى الروابط الشعبية بين الشعبين كانت هناك العديد من العلاقات الاجتماعية الوثيقة، مثل تبادل الزواج بين المصريين والسوريين، مما أدى إلى دمج الثقافات وتعزيز الروابط بين العائلات في كلا البلدين كما أن اللقاءات السنوية للحجاج المصريين والسوريين إلى مكة كانت تمثل فرصة لتقوية الأواصر الأخوية بين الشعبين
على الصعيد الاقتصادي، لا تزال العلاقات التجارية قائمة بين البلدين رغم الظروف السياسية المعقدة.. ورغم العقوبات الاقتصادية التي طالت سوريا في السنوات الأخيرة، ما زالت هناك مجالات للتعاون، خاصة في المنتجات الزراعية والنفطية كما أن مصر تلعب دورًا هامًا في الترويج للمنتجات السورية في أسواقها، فيما تسعى سوريا للاستفادة من خبرات مصر في مجال البنية التحتية والتجارة.
وفى ظل التحديات الحالية، تتوجه عيون مصر إلى سوريا وفق بوصلة لا تخطىء الرؤية حسبما حددها وزير الخارجية بدر عبدالعاطى وتقوم على «عملية سياسية شاملة للأزمة السورية تحفظ وحدة الأراضى السورية وأمنها، وتعكس التنوع المجتمعي في سوريا، وترتكز على عدم إقصاء أي أطياف وطنية، ودون أي تدخلات خارجية وتقطع الطريق أمام أي محاولة لاستغلال الأوضاع الحالية للمساس بمصالح سوريا وسيادتها ووحدتها الإقليمية».