فـي مجموعته القصصية (لعنة الأمكنة) الصادرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات عام 2003م، أشار الخطاب المزروعي فـي عتبة المجموعة إلى الأمكنة مقدمًا إياها باللعنة المرتسمة عليها، وفـي هذا العنوان بالتحديد ما يوحي بخصوصية معينة للأمكنة الواردة فـي المجموعة؛ فهي تمنح انطباعًا أول بأنها أمكنة ذات طابع مسكون بالمجهول والغرابة واللعنة؛ إذ إنّ لفظة اللعنة الملتصقة بالمكان تشير فـي تأويلاتها المكانية بالحكايات الأسطورية والخوف واللاواقعي فـي التعبير المكاني.

إنّ المتأمل فـي المجموعة القصصية يجد حضورًا طاغيًا للمكان فـي السرد القصصي، ويبدو أنّ المؤلف قد اشتغل على المكان اشتغالًا أراد من خلاله إظهار شخصياته وفق المنحى المكاني للقصص وربطها بالأحداث ربطًا تسير عليه الحكايات وتُبنى من خلاله الشخوص. نجد تكرار مفردات (المقبرة/ القبر) واضحة فـي المجموعة، كما نجد غيرها من الأمكنة التي تفاعلت معها المجموعة وأنتجت تحولًا للأحداث المختلفة كـ(البيت والقرية والقبو والبحر والصحراء وغيرها).

القبو مستودع الحكايات:

يظهر القبو فـي المجموعة كونه مستودعًا للحكايات العديدة التي يضج بها السرد؛ ففـي قصة (القبو) يظهر القبو حاملًا بُعدًا رمزيًّا لا أكثر، ومعه تتسع الحكايات وتتوالد من قصة إلى أخرى، وتتوسع الموضوعات باتساع الحكايات، فتُظهر القرية دواخل شخوصها بالتعبير عما تضمره نفوسهم، فمن قضية العبيد إلى التدين الزائف إلى الصراع بين الأب وابنه إلى الحكم الخاطئ على الناس. قضايا عديدة تناولتها القصة الحديثة راسمة صورة القرية فـي الحكايات الشفهية ومعها حاول الكاتب استعادة شيء من صور القرية وصراع شخصياتها.

لقد كان القبو فـي هذه القصة مستودعًا للحكايات المختلفة المتوالدة على لسان الراوي، لكن القبو فـي قصة (هذا الليل ما أطوله) كان فضاءً للعذابات والقهر والجراح؛ فالقبو هنا فضاءٌ ارتبط بالتعذيب الجسدي، والخوف، تصف القصة هذا الفضاء: «ولكن ألم يكونوا يتركونكم تنامون؟ سألته.

- بلى... بعدما تنتهي حفلة الصحراء، نحمل إلى داخل قبوٍ مظلم ويرموننا على الفراش كالجيفة وما أن يحاول الواحد منا أن ينام حتى يسقط عليه عقرب أو ثعبان، فلا يدخل النوم إلى أعيننا وهكذا حتى تبدأ حفلة الصباح...

- ألا تلسعكم العقارب؟ سألته بسذاجة، وكأني أريد الاقتراب منه أكثر.

- تلسعنا.. حتى أننا تعودنا على العقارب والجرذان. فـي يوم من الأيام سقط ثعبان على عنق الذي يرقد بجانب سريري، فأطبق على عنقه وكان نائمًا، وعندما جاء الصباح ركله أحدهم على خاصرته، يحسب أنه مستغرق فـي النوم... انهض يا كلب.. تحسب نفسك نائما فـي بيت أبيك. فتجندلت جثته متشنجة على الأرض، بعدما تدحرجت ونحن نشاهد الموقف وكأننا فـي حلم أو فـي فـيلم هوليودي». ص51

يقابل القبو فـي هذه القصة الصحراء، وهي فضاء الحرية والتنقل على الأغلب، لكنها قد مثّلت هنا فضاء الاستعباد والظلم والتعذيب؛ إذ إنها تمثّل قبوًا أوسع من القبو الضيق المظلم فـي معناه المتعارف عليه. تصف القصة الصحراء: «كانوا يحملوننا إلى الصحراء فـي كل ليلة اثنين، والبرد القاسي، ونحن عراة ومن ثم يربطون أيدينا على الجيب وهم يطفئون أعقاب سجائرهم على صدورنا المشعرة، فأشم رائحة لحمي ومن ثم يأخذون بنتف شعور عاناتنا، فتحس بالألم يصل حتى الروح كإبر صغيرة تغرس فـي جلدك، فأتململ محاولًا أن أتحرر من الرباط لكن دون جدوى... وهكذا حتى يقترب الفجر». ص51

القبر/ المقبرة مستودع الذاكرة:

يحضر القبر أو المقبرة فـي أغلب نصوص المجموعة، وغالبًا ما يستعيد الراوي معها ذاكرة الألم والحزن والغياب والموت. تحضر مريمُ مثلًا بعد الرحيل مُشكّلةً رحلة فـي الذاكرة. وهنا يستعيدها الراوي؛ إذ تمثّل مريم كل الماضي: الحب والحنين والشوق، مستعيدًا مع رحيلها الذاكرة الشعبية المرتبطة بالسحر والسحرة. نجد اقتران المقبرة بهذه الذاكرة الحزينة إذ يصفها الراوي قائلًا: «مريم يا وجعي الآتي، يا شيئي الذي لا يمسك... ينفلت من صرة روحي. فـينوس... عشتار... هكذا أراك، فرس متروكة تروض نفسها فـي حديقة الوجود الذي رفضته. فرسك المجنون أنا أعبث بحوافري، أقتلع العشب الذي ينبت بين أصابع قدميك. يومها لم أستطع الكلام هربت إلى المقبرة وبدأت أصرخ وأتقلب كنورس جريح خضب الدم ريشه الأبيض.

أحسست بالذنب. أركض إلى روحي الممزقة بشتاتي الذي لا ينتهي.... تغطيني أشجار النخيل بظلال وهمية يخترقها ظل مؤقت يزول بزوال شمسك.... صرت أهيم كالمجنون. قلت:

- لا لم تمت... مريم لم تخلق للموت، بل للاستمرار! صرت أتطلع إلى بنات الحي وهن يضحكن، فأثرن ضحكتك فـي ذاكرتي... فتأتي قاسية كضربة قناص مفاجئة.

- يقولون إنّ عمها حمدون سحرها. قالتها أمي بعدما تنهدت وهي تغرز إبرة الخياطة فـي الكمة وكأنها تهدئ من روعي -بميتافـيزقيتها الساذجة-

ولماذا يسحرها؟ سألتها، وكأن الجنون بدأ يخيم على عقلي.

لأنها رفضت تتزوج ابنه، وقالت: أريد عيسى....». ص33

الأمر ذاته فـي قصة (حكاية صديقي الذي لم يمت) فـي اقتران القبر بالذاكرة واستعادتها، والتخيل المتمثل فـي الالتقاء بالصديق الراحل والحديث عن القبر والدود. أما فـي قصة (لعنة الأمكنة) فـيمتزج المكان: القبر/ المقبرة بغرائبية السرد المتمثل فـي الدخول إلى عالم القبور، ثم أخذ أحد الهياكل منها إلى المنزل. تقوم الغرائبية والتخيل فـي مدّ الحكاية منذ قوله: «أخذتُ أذرع المقبرة وكأني أحسدهم، جاءتني فكرة أن أندس فـي لحدٍ ما، لكن ماذا لو رفض ذلك الميت مشاركتي له..؟ قلت: سأجرب». ص83

تمتد الأحداث المتخيّلة بعد ذلك من أخذ أحد الهياكل إلى المنزل فتتبعه بقية الهياكل طارقة الباب خلفه، إلى أن يقرّر إرجاع الهيكل مرة أخرى. تصبح الأحداث غريبة فـي سردها ويتحول الوصف إلى نوع من الوحشة. هنا تنغلق الذاكرة على التخيل والخوف والوصف البشع من داخل القبر لا من خارجه، ويمتزج الوصف بقتامة الصورة، يقول: «أخذت يداي تنسلان إلى جوف اللحد تدخل الرفات المسروقة، ومن ثم أخذت أهيل التراب والأحجار.. فكأن صوتًا ثقيلًا يخرج من جوف اللحد يقول لي:

- شكرًا لأنك أرحتني مرة أخرى من ضنى الحياة وموتها الذي تعيشونه أنتم المساكين بنو البشر...

ارتجفت وأنا أحسده على أنه وحده لا أحد يشاركه نومته، نهضت بتثاقل وصوت بنات آوى يرجع صداه من الجبل.. فتزداد ضربات قلبي كلما كان الصوت أقرب إلى مسمعي، تملكتني رغبة البكاء وأنا أتجه إلى غرفتي.. أخذت أبكي بمرارة، ورجلاي تتعثران بأحجار الطريق، وكأني أسحب جسدي إلى المقبرة لا منها، كان صوت بنات آوى يزداد حدة وقلبي يرتجف أكثر كسمكة أخرجت من البحر لتوها». ص85

لقد قدّم لنا الخَطّاب المزروعي صورًا متعددةً للمكان، مختلفةً فـي سرد شخوصها والتعبير عنهم، أو بوصف المكان وصفًا دقيقًا يحاول معه ملامسة الأحداث وسيرها فـي القصص المختلفة. لم يكن المكان إلا تقنية يعبّر عنها القاص مستلهمًا ذاكرتها الماضية، ووصفها المتخيل لتكوين صورة سردية داخل النص.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فـی المجموعة مستودع ا فـی قصة

إقرأ أيضاً:

وزير الثقافة يترأس الاجتماع الأول للجنة دراسة تأثيرات الدراما والإعلام على المجتمع

تفعيلًا لرؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية، لأهمية تطوير الدراما لخدمة متطلباتنا التنموية وترسيخ هويتنا الوطنية، وتفعيل دور الدراما كأداة محورية في تشكيل وجدان المواطن وتعزيز الانتماء الوطني في ظل التحديات الفكرية والاجتماعية الراهنة، ترأس الدكتور أحمد فؤاد هَنو، وزير الثقافة، الاجتماع الأول للجنة دراسة التأثيرات الاجتماعية للدراما المصرية والإعلام -المشكلة بقرار الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، وذلك لمناقشة التأثيرات الاجتماعية للدراما والإعلام على المجتمع المصري، ووضع آليات لتطوير المحتوى الدرامي المصري.

وزير الثقافة يترأس الاجتماع لجنة الدراما

وأكد وزير الثقافة، في كلمته خلال الاجتماع، أن غاية كل فن، في جوهره، هي أن يترك أثرًا من الجمال في النفس، وأن يسمو بالوجدان والعقل نحو إدراك أعمق لمعنى الإنسان والحياة، مشيرًا إلى أن الدراما تبقى هي الفن الجامع، الذي تتجلى فيه جماليات التشكيل، والموسيقى، والمعمار، واللغة، والشعر، وسحر الحوار، في بناء سردي يعكس المجتمع ويعيد تشكيله.

وزير الثقافة يترأس الاجتماع لجنة الدراما

وأوضح أن كل دراما حقيقية ومؤثرة تحمل في عمقها تأثيرات من الفنون المصرية الخالدة، من لوحات محمود سعيد وسيف وانلي، إلى موسيقى بليغ حمدي وسيد درويش، وشاعرية صلاح عبد الصبور وأمل دنقل، وصوت أم كلثوم، وطابع المعمار المصري الفريد، مضيفًا أن الدراما المصرية خرجت من قلب «الحارة» التي كتب عنها نجيب محفوظ، وتجسدت في أعمال صنع الله إبراهيم، وفتحية العسال وبهاء طاهر، وجمال الغيطاني، ووحيد حامد، وأسامة أنور عكاشة، وغيرهم من الكُتاب الكبار الذين شكّلوا وجدان هذا الشعب وسريانه.

وأضاف أن الدراما المصرية تسير بخطى واثقة منذ ما يقرب من 110 أعوام من السينما، وأكثر من 65 عامًا من الدراما التليفزيونية، تطورت فيها الرؤية الجمالية، وصقلت الأدوات، وتنوعت التجارب، لتخلق حكايات ملهمة تعبر عن هوية مصر العميقة، وتصبح مرآة حقيقية لملامح الشخصية المصرية.

وأكد وزير الثقافة، أن الدراما المصرية قادرة على تقديم محتوى درامي يجمع بين الأصالة والحداثة، يعبر عن هوية متجذرة لبلد عريق، مشيرًا إلى أن صناعة الدراما تستلهم الجمال وفق قواعده المعرفية، وتُنسج بمواهب صناعها في الكتابة، والإخراج، والتصوير، والمونتاج، والديكور، وهندسة الصوت، والإنتاج، لتقدم شكلاً جماليًا يرتقي بذوق المشاهد ويصونه.

وزير الثقافة يترأس الاجتماع لجنة الدراما

وشدد الوزير على أن اجتماع اللجنة ليس لوصاية على الفن، بل لاستعادة بريقه وبهائه، مؤكدًا أن قرار رئيس مجلس الوزراء بتشكيل اللجنة العليا للدراما خطوة ضرورية ومدروسة، تهدف إلى دراسة التأثيرات الاجتماعية والنفسية للدراما والإعلام المصري، واقتراح سبل معالجتها وتفادي سلبياتها، ووضع مسار متكامل لإصلاح المزاج العام، وبناء الشخصية المصرية في ضوء وعي ثقافي وفني وإنساني.

وأشار إلى التزام الدولة بحرية الفكر والتعبير، كركيزة لأي نهضة فنية حقيقية، تضع على عاتق الفنان والمثقف واجبًا تجاه مجتمعه، وتحفزه لصون الهوية ومواكبة الواقع وتقديم فن يعزز القيم الجمالية.

واختتم الوزير كلمته بالتأكيد على أن صناع الجمال من رواد الدراما المصرية قدموا أعمالًا شكلت ذاكرة الأجيال، ولا تزال عليهم مسؤولية تقديم المزيد من الأعمال الملهمة لأجيال قادمة، وقال «نحن لا نعيد إحياء الدراما، بل نقدم الدعم والرؤية، لتظل سفير مصر الثقافي، وعينًا صادقة ترى الواقع وتكتبه بالفن والجمال».

وزير الثقافة يترأس الاجتماع لجنة الدراما

وشهد الاجتماع مناقشة عدد من المحاور الرئيسية المتعلقة بتطوير المحتوى الدرامي، ودراسة مدى تأثيره على المجتمع، واقتراح آليات التعاون بين الجهات المختصة، كما شارك فيه عدد من الشخصيات العامة وممثلي المؤسسات الإعلامية والثقافية، وهم: المهندس خالد عبد العزيز، رئيس المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام، الكاتب والإعلامي أحمد المسلماني، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، عماد ربيع، رئيس قطاع الإنتاج الدرامي بالشركة المتحدة، علا الشافعي، رئيس لجنة المحتوى الدرامي بالشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، الدكتورة هالة رمضان، مدير المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، سارة عزيز حكيم، خبيرة اجتماعية ونفسية ومدير مؤسسة Safe، الدكتور حسن عماد مكاوي، رئيس لجنة الدراسات الإعلامية بالمجلس الأعلى للجامعات وعميد كلية الإعلام جامعة القاهرة الأسبق، والدكتورة جيهان يسري أبو العلا، عضو اللجنة التخطيطية للجنة قطاع الدراسات الإعلامية وعميدة كلية الإعلام السابقة، المخرج خالد جلال، رئيس قطاع الإنتاج الثقافي، المخرج عمر عبد العزيز، رئيس اتحاد النقابات الفنية، الكاتب والسيناريست عبد الرحيم كمال، الكاتبة مريم نعوم، المنتج جمال العدل، والمخرج شريف عرفة.

اقرأ أيضاًبمشاركة الأطفال.. قصور الثقافة تطلق احتفالاتها بأعياد الربيع واليوم العالمي للفن بالغربية

محافظ سوهاج يتابع أعمال تطبيق الهوية البصرية بميدان الثقافة ويؤكد: نسعى لتحويل الشوارع إلى متحف مفتوح

وزير الثقافة: معرض الشلاتين للكتاب نافذة معرفية مهمة لنشر الوعي

مقالات مشابهة

  • الأستاذ السيد عبدالله حسن وعبير الأمكنة
  • لعنة الميراث.. شاب يشرع في إنهاء حياة نجل عمه بسوهاج
  • شما المزروعي: العلوم السلوكية أداة استراتيجية لبناء الإنسان والعبور للمستقبل
  • ما الذي تفعله الأطعمة فائقة المعالجة بجسمك؟.. تأثيرات صادمة لاستهلاكها من أول يوم حتى عدة أشهر
  • وزير الثقافة يترأس الاجتماع الأول للجنة دراسة تأثيرات الدراما والإعلام على المجتمع
  • كيف تفاعل السوريون مع نبش قبر حافظ الأسد؟
  • دار الإفتاء المصرية توضح حكم بناء دور ثانٍ بالمقابر بعد امتلائها.. لا يجوز إلا عند الضرورة
  • أبو ديابي.. موهبة فرنسية حطمتها لعنة الإصابات
  • الفريق مهندس محمد كمال ابوشوك وعبير الأمكنة
  • الترجمة مدخل لفهم العالم العربي ونصرة فلسطين.. ميشيل هارتمان: الأدب المكان الذي يمكننا أن نجد فيه المزيد من التقارب