من القبو إلى القبر.. تأثيرات المكان في «لعنة الأمكنة» للخطاب المزروعي
تاريخ النشر: 23rd, December 2024 GMT
فـي مجموعته القصصية (لعنة الأمكنة) الصادرة عن دار ميريت للنشر والمعلومات عام 2003م، أشار الخطاب المزروعي فـي عتبة المجموعة إلى الأمكنة مقدمًا إياها باللعنة المرتسمة عليها، وفـي هذا العنوان بالتحديد ما يوحي بخصوصية معينة للأمكنة الواردة فـي المجموعة؛ فهي تمنح انطباعًا أول بأنها أمكنة ذات طابع مسكون بالمجهول والغرابة واللعنة؛ إذ إنّ لفظة اللعنة الملتصقة بالمكان تشير فـي تأويلاتها المكانية بالحكايات الأسطورية والخوف واللاواقعي فـي التعبير المكاني.
إنّ المتأمل فـي المجموعة القصصية يجد حضورًا طاغيًا للمكان فـي السرد القصصي، ويبدو أنّ المؤلف قد اشتغل على المكان اشتغالًا أراد من خلاله إظهار شخصياته وفق المنحى المكاني للقصص وربطها بالأحداث ربطًا تسير عليه الحكايات وتُبنى من خلاله الشخوص. نجد تكرار مفردات (المقبرة/ القبر) واضحة فـي المجموعة، كما نجد غيرها من الأمكنة التي تفاعلت معها المجموعة وأنتجت تحولًا للأحداث المختلفة كـ(البيت والقرية والقبو والبحر والصحراء وغيرها).
القبو مستودع الحكايات:
يظهر القبو فـي المجموعة كونه مستودعًا للحكايات العديدة التي يضج بها السرد؛ ففـي قصة (القبو) يظهر القبو حاملًا بُعدًا رمزيًّا لا أكثر، ومعه تتسع الحكايات وتتوالد من قصة إلى أخرى، وتتوسع الموضوعات باتساع الحكايات، فتُظهر القرية دواخل شخوصها بالتعبير عما تضمره نفوسهم، فمن قضية العبيد إلى التدين الزائف إلى الصراع بين الأب وابنه إلى الحكم الخاطئ على الناس. قضايا عديدة تناولتها القصة الحديثة راسمة صورة القرية فـي الحكايات الشفهية ومعها حاول الكاتب استعادة شيء من صور القرية وصراع شخصياتها.
لقد كان القبو فـي هذه القصة مستودعًا للحكايات المختلفة المتوالدة على لسان الراوي، لكن القبو فـي قصة (هذا الليل ما أطوله) كان فضاءً للعذابات والقهر والجراح؛ فالقبو هنا فضاءٌ ارتبط بالتعذيب الجسدي، والخوف، تصف القصة هذا الفضاء: «ولكن ألم يكونوا يتركونكم تنامون؟ سألته.
- بلى... بعدما تنتهي حفلة الصحراء، نحمل إلى داخل قبوٍ مظلم ويرموننا على الفراش كالجيفة وما أن يحاول الواحد منا أن ينام حتى يسقط عليه عقرب أو ثعبان، فلا يدخل النوم إلى أعيننا وهكذا حتى تبدأ حفلة الصباح...
- ألا تلسعكم العقارب؟ سألته بسذاجة، وكأني أريد الاقتراب منه أكثر.
- تلسعنا.. حتى أننا تعودنا على العقارب والجرذان. فـي يوم من الأيام سقط ثعبان على عنق الذي يرقد بجانب سريري، فأطبق على عنقه وكان نائمًا، وعندما جاء الصباح ركله أحدهم على خاصرته، يحسب أنه مستغرق فـي النوم... انهض يا كلب.. تحسب نفسك نائما فـي بيت أبيك. فتجندلت جثته متشنجة على الأرض، بعدما تدحرجت ونحن نشاهد الموقف وكأننا فـي حلم أو فـي فـيلم هوليودي». ص51
يقابل القبو فـي هذه القصة الصحراء، وهي فضاء الحرية والتنقل على الأغلب، لكنها قد مثّلت هنا فضاء الاستعباد والظلم والتعذيب؛ إذ إنها تمثّل قبوًا أوسع من القبو الضيق المظلم فـي معناه المتعارف عليه. تصف القصة الصحراء: «كانوا يحملوننا إلى الصحراء فـي كل ليلة اثنين، والبرد القاسي، ونحن عراة ومن ثم يربطون أيدينا على الجيب وهم يطفئون أعقاب سجائرهم على صدورنا المشعرة، فأشم رائحة لحمي ومن ثم يأخذون بنتف شعور عاناتنا، فتحس بالألم يصل حتى الروح كإبر صغيرة تغرس فـي جلدك، فأتململ محاولًا أن أتحرر من الرباط لكن دون جدوى... وهكذا حتى يقترب الفجر». ص51
القبر/ المقبرة مستودع الذاكرة:
يحضر القبر أو المقبرة فـي أغلب نصوص المجموعة، وغالبًا ما يستعيد الراوي معها ذاكرة الألم والحزن والغياب والموت. تحضر مريمُ مثلًا بعد الرحيل مُشكّلةً رحلة فـي الذاكرة. وهنا يستعيدها الراوي؛ إذ تمثّل مريم كل الماضي: الحب والحنين والشوق، مستعيدًا مع رحيلها الذاكرة الشعبية المرتبطة بالسحر والسحرة. نجد اقتران المقبرة بهذه الذاكرة الحزينة إذ يصفها الراوي قائلًا: «مريم يا وجعي الآتي، يا شيئي الذي لا يمسك... ينفلت من صرة روحي. فـينوس... عشتار... هكذا أراك، فرس متروكة تروض نفسها فـي حديقة الوجود الذي رفضته. فرسك المجنون أنا أعبث بحوافري، أقتلع العشب الذي ينبت بين أصابع قدميك. يومها لم أستطع الكلام هربت إلى المقبرة وبدأت أصرخ وأتقلب كنورس جريح خضب الدم ريشه الأبيض.
أحسست بالذنب. أركض إلى روحي الممزقة بشتاتي الذي لا ينتهي.... تغطيني أشجار النخيل بظلال وهمية يخترقها ظل مؤقت يزول بزوال شمسك.... صرت أهيم كالمجنون. قلت:
- لا لم تمت... مريم لم تخلق للموت، بل للاستمرار! صرت أتطلع إلى بنات الحي وهن يضحكن، فأثرن ضحكتك فـي ذاكرتي... فتأتي قاسية كضربة قناص مفاجئة.
- يقولون إنّ عمها حمدون سحرها. قالتها أمي بعدما تنهدت وهي تغرز إبرة الخياطة فـي الكمة وكأنها تهدئ من روعي -بميتافـيزقيتها الساذجة-
ولماذا يسحرها؟ سألتها، وكأن الجنون بدأ يخيم على عقلي.
لأنها رفضت تتزوج ابنه، وقالت: أريد عيسى....». ص33
الأمر ذاته فـي قصة (حكاية صديقي الذي لم يمت) فـي اقتران القبر بالذاكرة واستعادتها، والتخيل المتمثل فـي الالتقاء بالصديق الراحل والحديث عن القبر والدود. أما فـي قصة (لعنة الأمكنة) فـيمتزج المكان: القبر/ المقبرة بغرائبية السرد المتمثل فـي الدخول إلى عالم القبور، ثم أخذ أحد الهياكل منها إلى المنزل. تقوم الغرائبية والتخيل فـي مدّ الحكاية منذ قوله: «أخذتُ أذرع المقبرة وكأني أحسدهم، جاءتني فكرة أن أندس فـي لحدٍ ما، لكن ماذا لو رفض ذلك الميت مشاركتي له..؟ قلت: سأجرب». ص83
تمتد الأحداث المتخيّلة بعد ذلك من أخذ أحد الهياكل إلى المنزل فتتبعه بقية الهياكل طارقة الباب خلفه، إلى أن يقرّر إرجاع الهيكل مرة أخرى. تصبح الأحداث غريبة فـي سردها ويتحول الوصف إلى نوع من الوحشة. هنا تنغلق الذاكرة على التخيل والخوف والوصف البشع من داخل القبر لا من خارجه، ويمتزج الوصف بقتامة الصورة، يقول: «أخذت يداي تنسلان إلى جوف اللحد تدخل الرفات المسروقة، ومن ثم أخذت أهيل التراب والأحجار.. فكأن صوتًا ثقيلًا يخرج من جوف اللحد يقول لي:
- شكرًا لأنك أرحتني مرة أخرى من ضنى الحياة وموتها الذي تعيشونه أنتم المساكين بنو البشر...
ارتجفت وأنا أحسده على أنه وحده لا أحد يشاركه نومته، نهضت بتثاقل وصوت بنات آوى يرجع صداه من الجبل.. فتزداد ضربات قلبي كلما كان الصوت أقرب إلى مسمعي، تملكتني رغبة البكاء وأنا أتجه إلى غرفتي.. أخذت أبكي بمرارة، ورجلاي تتعثران بأحجار الطريق، وكأني أسحب جسدي إلى المقبرة لا منها، كان صوت بنات آوى يزداد حدة وقلبي يرتجف أكثر كسمكة أخرجت من البحر لتوها». ص85
لقد قدّم لنا الخَطّاب المزروعي صورًا متعددةً للمكان، مختلفةً فـي سرد شخوصها والتعبير عنهم، أو بوصف المكان وصفًا دقيقًا يحاول معه ملامسة الأحداث وسيرها فـي القصص المختلفة. لم يكن المكان إلا تقنية يعبّر عنها القاص مستلهمًا ذاكرتها الماضية، ووصفها المتخيل لتكوين صورة سردية داخل النص.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فـی المجموعة مستودع ا فـی قصة
إقرأ أيضاً:
تقرير بريطاني يسلط الضوء على حجم كارثة المقابر الجماعية في العراق
العراق – ذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية في تقرير أن فرق الطب الشرعي تواجه تحديات هائلة فيما يتعلق بالمقابر الجماعية بالعراق بينما تنتظر الأسر على أمل إغلاق القضية.
وسلطت صحيفة “الغارديان” الضوء على التجربة الشاقة التي يخوضها العراق والعراقيون بمعاناتهم المتواصلة منذ عقود فيما يتعلق بالمقابر الجماعية التي تشير تقديرات دولية إلى أنها ربما تضم نحو مليون رفات من نتائج لسلسة الكوراث والحروب.
ونقل التقرير البريطاني عن ضرغام عبد المجيد قوله إنه “عندما وصل للمرة الأولى إلى حفرة يبلغ عمقها 20 مترا في قضاء تلعفر، في يونيو، شاهد شيئا لم يره من قبل طوال 15 عاما من عمله في حفر المقابر الجماعية”.
وأوضح أن “هذه المقبرة لم تكن مختلفة عن المقابر الجماعية الأخرى حيث يتم دفن الجثث تحت الأرض، إلا أنه في هذه المقبرة كانت الجثث مكدسة على ارتفاع 8 أمتار، وكان يمكن مشاهدتها بوضوح بالاضافة إلى أنها كانت محفوظة جيدا لأن المكان جاف للغاية”.
وأشار التقرير إلى أن “ضرغام وفريقه ومن أجل استخراج رفات الجثث وهم من ضحايا تنظيم داعش – اضطروا إلى بناء درج والاستعانة بخبير في الزواحف لتجنب لدغات الثعابين”.
وأضاف أن “هذا الموقع يختلف عن أي موقع آخر كان يعمل فيه ضرغام فيما يتعلق بجهد الفريق، والعمق، وصعوبة الصعود والنزول، ورفات الناس فوق بعضها البعض، وسقوط الحجارة، والحشرات، وكتلة التربة التي تم نقلها لانتشال هؤلاء الضحايا”.
وبحسب التقرير، فإنه “بسبب الكوارث والحروب من المعتقد أن عدد المفقودين في العراق أكبر من أي بلد، بحسب تقديرات الصليب الأحمر الدولي، حيث تتراوح التقديرات بين 250 ألف شخص ومليون شخص”.
ولفت التقرير إلى أنه “منذ العام 2008، فإن وزارة الصحة ومؤسسة الشهداء الحكومية العاملة في مجال تحديد هوية الضحايا وتعويض أقاربهم، ترسل الفرق من علماء الأنثروبولوجيا الشرعية والأطباء في مختلف أنحاء البلد من أجل اكتشاف المقابر الجماعية وحفرها واستعادة الرفات، حيث أن الهدف هو التعرف على الجثث من خلال تحديد الحمض النووي وتسليمها إلى العائلات التي تبحث عن أحبائها المفقودين”.
وتابع التقرير أن “الجثث المتراكمة في مقبرة علو عنتر والتي يزيد عددها عن 100 جثة، هم ضحايا الجرائم الكثيرة التي ارتكبها تنظيم داعش”، مشيرا إلى أن “المقبرة الجماعية تقع على بعد حوالي 60 كيلومترا غرب الموصل”. فيما نبه إلى أن “فريق الطب الجنائي ما يزال يعمل على تحديد هوية الضحايا في علو عنتر”.
ووفق التقرير البريطاني، فإن “فرق الطب الجنائي نالت الدعم من خبراء من الأمم المتحدة الذين ساعدوا في السابق في جمع الأدلة لملاحقة جرائم داعش قضائيا، بالإضافة إلى الخبرات للعمل في رواندا والبوسنة والأرجنتين وكمبوديا”.
وأضاف التقرير أن “الفرق الجنائية بالإضافة إلى دورها في حفر القبور الجماعية، فإنها تتجول في كافة أنحاء العراق للتواصل مع عائلات الضحايا للحصول على عينات من الحمض النووي وغيرها من الأدلة لمقارنتها مع الرفات التي تم استخراجها”.
ورأى التقرير أن “المهمة المتمثلة في جمع الحمض النووي للعائلات الإيزيدية، كان الأكثر صعوبة، حيث أنه في أحيان كثيرة قتل العديد من أفراد العائلة الواحدة، أو لأنهم غادروا كلاجئين إلى أوروبا أو أماكن بعيدة مثل أستراليا”.
وختم التقرير البريطاني بالقول إن “فريق المقابر الجماعية يتوقع أن يستمر عمله لسنوات طويلة في محاولة الكشف عما حدث للضحايا من الأحبة والتحقيق مع المسؤولين عن الفظائع، لكنهم يقولون إن لديهم أملا واحدا، وهو أن تكون المقبرة الجماعية التالية هي الأخيرة”.
المصدر: صحيفة “الغارديان”