مختصون يؤكدون أهمية تعميق التواصل بين المؤسسات العامة والمجتمع
تاريخ النشر: 23rd, December 2024 GMT
- د. علي الريامي: "الشفافية" تتيح حيزاً أكبر للرقابة ومكافحة الفساد
- د. قيس السابعي: إتاحة المعلومات تعزز الثقة في الأداء الحكومي
- د. رجب العويسي: ضرورة تبنّي سياسات أكثر واقعية تراعي مصلحة المواطن
تسعى سلطنة عمان إلى تعزيز مفهوم الشراكة بين الحكومة والمجتمع، من خلال العديد من المسارات الوطنية الهادفة إلى مد جسور الثقة والتفاهم، والمشاركة الحقيقية في صنع القرار والاسهام في التنمية الشاملة.
وتبرز الثقة المجتمعية كعامل رئيسي في تعزيز فعالية الأداء الحكومي، حيث تعمل المؤسسات العامة بمختلف مستوياتها إلى الاستماع للمواطنين ومرئياتهم والاستجابة لاحتياجاتهم وتطلعاتهم، عبر سياسات تتسم بالشفافية والوضوح.
حول أهمية تعزيز الشفافية في الأداء المؤسسي كأساس لاستدامة الثقة المجتمعية، حاورت "عمان"عددا من المختصين.. وفي البداية قال الدكتور علي بن سعيد الريامي - رئيس قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس": يشير مفهوم الشفافية بشكل عام إلى تقديم البيانات والمعلومات بطريقة يمكن التأكد منها والوصول إليها وفهمها من قبل الأطراف أصحاب العلاقة، وكلما كانت درجة الشفافية واضحة في تقديم المعلومات ساعد ذلك على تعزيز الثقة، ويمكن اعتبار الشفافية شكلا من أشكال الممارسة الديمقراطية، حيث تعمل الحكومات على توفير المعلومات والبيانات لوسائل الإعلام أو الناطقين باسم المؤسسات الحكومية، لتصل إلى المواطنين، وبدرجة أكبر من الصراحة للمجالس التشريعية والرقابية باعتبار أعضاء تلك المجالس يمثلون صوت المجتمع والناس الذين يمثلونهم، وهذا بدوره يعزز من الثقة المتبادلة بين أطراف المعادلة الديمقراطية: السلطة ممثلة في الحكومة التنفيذية، والشعب بصفته مدار التنمية وحجر الأساس في الأمة." موضحا أن الشفافية تتيح حيزاً أكبر للرقابة والمساءلة، ومكافحة أشكال الفساد الإداري والمالي، وعندما تغيب الشفافية تنعدم المساءلة، لأن أي مساءلة لا تستقيم إلا بتوفر معلومات وبيانات دقيقة تتيح عملية التحقق واتخاذ الإجراءات اللازمة، وهذا بدوره يعزز من ثقة الشعب بحكومته وأن هذه الحكومة جديرة بالثقة، وتعمل لتحقيق مصالحهم وتوفير سبل العيش الكريم لهم بقدر عال من العدالة والمساواة.
وفي المقابل علينا أن نعترف أن هذه المسألة ليست بتلك البساطة التي نتصورها، وإنما هي مسألة متشابكة ومعقدة، وتتطلب وعيا كبيرا، وحسا عاليا في تحمل المسؤولية في الظروف الصعبة، لأن هناك من يعتقد أن الشفافية المطلقة قد ترسم صورة قاتمة للأوضاع، كما أن الحكومات ترى أن الإعلان عن مواطن الضعف قد يؤثر على أمنها الوطني، ويؤثر على مصالحها الاقتصادية، لذلك قد تلجأ إلى إظهار الصورة الجميلة، والبيانات غير الدقيقة، وتخفي جوانب القصور، غير أن تكرار هذا الأسلوب بشكل مفرط ومبالغ فيه قد يؤدي إلى نتائج عكسية حيث تبدأ الثقة بالتراجع، وفقدان الثقة له تأثيراته السلبية على الإنتاجية والأداء الحكومي.
المشاركة المجتمعية
وتابع الدكتور علي حديثه قائلا" مما لا شك فيه أن المشاركة المجتمعية تساهم في تعزيز الثقة بين الحكومة والمواطنين، فمن خلال ما يقدم من معلومات دقيقة وشفّافة خاصة تلك المتعلقة بالواقع المعاش؛ فإن ذلك يشعرهم أنهم جزء لا يتجزأ من عملية صنع القرار، واليوم هناك العديد من قنوات التواصل التي تعزز هذه المشاركة المجتمعية لإيصال صوت المواطن للحكومة، فبالإضافة إلى المجالس التشريعية والمجالس البلدية، تعد المنابر الإعلامية عبر البرامج المباشرة المخصصة للقضايا المجتمعية إحدى الآليات الناجحة، كما أن المنتديات والجلسات الحوارية التي تنظمها منظمات المجتمع المدني وتطرح من خلالها قضايا مجتمعية معاصرة بمشاركة مفتوحة واستضافة مسؤولين حكوميين تعتبر من القنوات المهمة في تفعيل هذا النوع من الشراكة المجتمعية، على سبيل المثال الجلسات الحوارية التي نظّمها النادي الثقافي تحت عنوان: "الطاولة المستديرة"، ويبقى على الجانب الحكومي أن يستفيد من نتائج وتوصيات هذه الجلسات الحوارية التي يفترض أن تكون على درجة عالية من الشفافية. ومن ناحية أخرى هناك في صناعة القرار ما يعرف بالتشاور المبكر وهي عملية تسبق اتخاذ القرارات المهمة، خاصة في القضايا المصيرية التي سيترتب عليها آثار مجتمعية مباشرة، ويتم ذلك عبر دراسات استطلاعات الرأي، على أن تكون عينة الدراسة ممثلة للمجتمع، وتتاح النتائج للاطلاع عليها بشفافية، وعادة مثل هذه الدراسات تقوم بها مراكز بحثية متخصصة وموثوقة، وهذا يعزز بدوره من الثقة المتبادلة بين الحكومة والمواطنين. "
ركائز وإجراءات
ويقول الدكتور قيس السابعي- خبير اقتصادي" إذا أردنا أن نعزز الثقة المجتمعية في الخدمات الحكومية يجب تقديم الخدمات العامة بجودة، وسيادة القانون على الجميع، ومكافحة الفساد، ومن المبادرات الحكومية التي تعزز ثقة المجتمع ملتقى "معا نتقدم" الذي يضم أكبر شريحة من المجتمع وكذلك تقارير جهاز الرقابة الإدارية والمالية والتقارير السنوية عن الأداء المؤسسي."
وأضاف السابعي" من خلال الدراسات التي تم الاطلاع عليها نقول انه لابد ان يكون هناك إجراءات تبث الثقة والطمأنينة في المجتمع وتتمثل في إرساء أسس ودعائم الحكومة المستجيبة والانفتاح الحكومي وتلبية حاجات المواطنين بما هو متاح من موارد، بالإضافة إلى تعزيز مشاركة المواطنين في صنع القرار، ومواصلة تحسين الأداء الحكومي، وإتاحة المعلومات والبيانات أمام الجمهور، وإيجاد المزيد من قنوات التواصل والاتصال بين المؤسسات العامة والمواطنين تتسم بالنزاهة والحيادية، وتفعيل دور وسائل التواصل الاجتماعي للتعريف بالإنجازات الحكومية المتحققة والجهود الحكومية المبذولة، بالإضافة إلى ضرورة نفي الشائعات ولابد من أخذ المعلومات من مصادرها الحقيقية الرسمية، والقضاء على الفساد."
الرسالة الإعلامية
وقال الدكتور رجب بن علي العويسي -خبير الدراسات الاجتماعية والتعليمية بمجلس الدولة" إن الثقة المجتمعية نتاج لقدرة الحكومة على تبنّي سياسات أكثر واقعية واحترافية تحافظ على حقوق المواطن وترفع من سقف الاهتمام بالأبعاد النفسية والمهنية وتصنع فيه روح التغيير وحس المواطنة، من خلال طبيعة الإجراءات المتخذة في إطار بناء المواطن اقتصاديا وعبر تعزيز الحوافز وصناعة الفرص وتبني الخيارات التي تتيح للمواطن فرصا أكبر في الاستفادة، لذلك نعتقد أن مسؤولية الحكومة اليوم في ظل هذه المعطيات هي تبنّي السياسات الاستشرافية وقياس الرأي العام وإجراء الدراسات والمسوحات التي تعكس مستوى رضا المواطن عن هذه الجهود ومستوى تحقيقها للغايات الوطنية والأهداف المعززة للأمن الاجتماعي والاستقرار المعيشي، وتبنّي سياسات تواصلية أكثر قدرة على رسم ملامح التطوير ."
وأكد العويسي أن قدرة الرسالة الإعلامية على انتزاع هاجس القلق ومنح المواطن الثقة واشراكه في صياغة المستقبل، سوف ينعكس على كل قطاعات العمل الوطنية الأخرى، في ضمان أن التوجه نحو المواطن يتسم بالتكامل، والصورة النموذجية للمستقبل نتاج قناعة وطنية تضع الرأسمال البشري العماني أولوية لها، ليظهر ذلك على مستوى جودة التعليم، وقدرته على استنطاق القيم واستنهاض القدرات والمهارات، وتعزيز دور القطاع الخاص ومؤسسات الاعمال في إتاحة الفرصة للمواطن لمزيد من التمكين وتبسيط الإجراءات وتقديم الدعم له في تحقيق ممارسة اقتصادية قادرة على صنع الفارق، وتعزيز حضوره في ريادة الاعمال والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، وتوفير كل وسائل الدعم له، إذ الثقة في قدرات المواطن تعني فرصا أكبر لمساحة الحوار مع فكره واهتماماته وانتاجه وابتكاره ومشروعاته ومبادراته، وسعيه المستمر نحو التعلم والانتاجية.
طموحات وتوقعات
وأضاف الدكتور رجب" يبقى سد الفجوة بين الطموحات والتوقعات في سبيل تعزيز الثقة المجتمعية في الأداء الحكومي أمرا يضع مؤسسات الجهاز الإداري للجدولة أمام مسؤولية الالتزام بالأطر الوطنية المعززة للإنتاجية والكفاءة وطبيعة ما يقدم من جهد يلمسه المواطن وستشعره في واقع حياته، وهو أمر يؤكد الحاجة إلى اجراء تقييمات ومراجعات وتصحيحات مستمرة للمسار بما يتم اتخاذه من برامج عمل وتوجهات وإلى أي مدى ساهمت في تحقيق أهدافها، والحد من التغييرات والإجراءات والتعقيدات التي تلقي بثقلها على الأداء الحكومي ومستوى استفادة المواطن من الفرص، ويبقى نجاح الخطاب الإعلامي في تعزيز الثقة ورفع درجة التوافقية والتناغم، حيث إن لكل مؤسسة مواقع الكترونية ورقمية خاصة بها وصفحات عبر منصات التواصل الاجتماعي من خلالها يجب نقل الصورة الفعلية والرأي الرسمي للمؤسسة، وهو أمر ينبغي التنبيه عليه من قبل القائمين على الرسالة الإعلامية الوطنية."
واختتم العويسي حديثه قائلا" تأتي أهمية بناء قنوات تواصل وحوار تفاعلية بحيث يعرف المواطن حقوقه وواجباته ومسؤولياته ويقف على أدوار المؤسسات بكل شفافية ووضوح، وما لديها من توجهات وخطط، وما الذي تريد أن تحققه في السنوات القادمة، والاستفادة مما يطرحه المواطن عبر هذه المنصات، وكل ذلك يرتقي بالعمل الوطني على نهج تكاملي ويخلق بيئات مجتمعية أفضل بعيدا عن أي تشوهات، ويمارس المواطن فيها دوره بكل أريحية وثقة. "
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الثقة المجتمعیة الأداء الحکومی تعزیز الثقة من خلال
إقرأ أيضاً:
عيد الفطر في مصر.. بين طقوس الاحتفال ومعادلات السياسة والمجتمع
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يُعدّ العيد ظاهرة اجتماعية متجذرة في الوجدان المصري، حيث يمثل مساحة زمنية خاصة تحتفي فيها المجتمعات بالتواصل والتكافل وإعادة إحياء الروابط العائلية. في مصر، يأخذ عيد الفطر طابعًا احتفاليًا مشتركًا بين جميع الطبقات الاجتماعية، لكنه يعكس أيضًا الفوارق الطبقية من خلال أنماط الاحتفال المختلفة. فعلى الرغم من أن جميع المصريين يشاركون في الطقوس الأساسية مثل صلاة العيد، وتوزيع العيديات، وتحضير الكعك، إلا أن قدرة الأفراد على الإنفاق والاستمتاع بالعطلة تختلف باختلاف أوضاعهم الاقتصادية. وكما يوضح عالم الاجتماع بيير بورديو في تحليله للتمييز الاجتماعي، فإن الطقوس والعادات التي تبدو موحدة غالبًا ما تحمل في طياتها انعكاسًا للبنية الطبقية، حيث يعبر كل فرد عن هويته الاقتصادية والاجتماعية من خلال أسلوب الاحتفال بالعيد.
العيد ليس مجرد مناسبة دينية، بل هو مساحة زمنية لتعزيز التلاحم الاجتماعي. فمنذ العصور الإسلامية المبكرة، وحتى يومنا هذا، يشكل العيد فرصة استثنائية للتواصل العائلي، حيث تكثر الزيارات بين الأقارب، وتجتمع العائلات حول موائد الطعام في أجواء ودية. ووفقًا لما أشار إليه ابن خلدون في مقدمته، فإن المناسبات الاجتماعية الكبرى، مثل الأعياد، تسهم في تجديد روابط العصبية والتضامن بين الجماعات، حيث تخلق لحظات من التوافق والاحتفال الجماعي تُعيد إنتاج قيم المجتمع التقليدية (ابن خلدون، المقدمة، 1377م). وفي السياق المصري، يظل العيد وسيلة لإحياء الصلات العائلية حتى في ظل التفكك الذي تشهده بعض المجتمعات الحضرية الحديثة، حيث تصبح هذه المناسبات فرصة ضرورية لتعويض البعد الاجتماعي الناتج عن ضغوط الحياة المعاصرة.
شهدت الاحتفالات بالعيد في مصر تحولات اجتماعية كبيرة بين الماضي والحاضر، متأثرة بعوامل عدة، أبرزها التحضر والتغيرات الاقتصادية والتكنولوجيا. ففي الماضي، كانت الاحتفالات بالعيد تأخذ طابعًا أكثر تقليدية، حيث يخرج الجميع إلى المساجد والساحات الكبيرة لأداء الصلاة، ثم يتجمعون في البيوت لتناول الإفطار الجماعي وتوزيع العيديات. أما اليوم، فقد أصبحت المظاهر الاستهلاكية تهيمن على الاحتفال، حيث تحولت العيديات إلى تحويلات رقمية عبر التطبيقات البنكية، وبدأت العائلات في استبدال اللقاءات التقليدية بالخروج إلى المولات التجارية والمطاعم الفاخرة. ويرى عالم الاجتماع زيجمونت باومان أن هذه التغيرات تعكس ظاهرة "الحداثة السائلة"، حيث تتغير القيم والأنماط الاجتماعية بسرعة، مما يجعل العيد يتحول من مناسبة اجتماعية للتلاحم إلى موسم استهلاكي تُهيمن عليه الدعاية التجارية.
ورغم هذه التحولات، فإن بعض الطقوس العيدية التقليدية لا تزال صامدة، مما يعكس قدرة المجتمع المصري على الاحتفاظ بجذوره الثقافية مع التكيف مع المستجدات. فعلى سبيل المثال، لا يزال إعداد كعك العيد في المنازل طقسًا أساسيًا في كثير من العائلات، حتى مع انتشار المخابز التي توفره جاهزًا. كما أن ظاهرة توزيع العيديات للأطفال لا تزال مستمرة رغم تغير شكلها، مما يدل على أن العيد ليس مجرد مناسبة زمنية تتغير مع الزمن، بل هو جزء من "الذاكرة الجمعية"، وفقًا لما يصفه موريس هالبواكس، حيث يستمر المجتمع في إعادة إنتاج الطقوس والتقاليد بصيغ مختلفة ولكن بروحها الأصلية نفسها.
البعد التاريخي لاحتفالات العيد في مصراحتفلت مصر بعيد الفطر عبر العصور المختلفة بطقوس احتفالية مميزة، تتأثر بالسياقات السياسية والاجتماعية لكل عصر. في العصر الفاطمي (909-1171م)، اكتسب العيد طابعًا رسميًا وشعبيًا واسعًا، حيث كان الخليفة الفاطمي يخرج في موكب مهيب من قصره بالقاهرة إلى الجامع الأزهر أو جامع الحاكم بأمر الله، برفقة القضاة وكبار رجال الدولة، بينما تُوزَّع الهدايا والصلات على العامة. كما اهتم الفاطميون بإعداد موائد ضخمة وإضاءة الشوارع بالمشاعل والفوانيس، وهي طقوس تعكس سعي الدولة لتعزيز شعبيتها وسط الجماهير (المقريزي، "اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين"). أما في العصر المملوكي (1250-1517م)، فقد استمر الاحتفال بعيد الفطر بأسلوب مشابه، حيث أقيمت الاحتفالات الكبرى في القلعة، وشهدت الميادين العامة سباقات الخيل والعروض العسكرية، ما يعكس التداخل بين الطابع الاحتفالي وإظهار القوة السياسية (ابن إياس، "بدائع الزهور في وقائع الدهور").
لعبت السلطات الحاكمة في مصر دورًا رئيسيًا في صناعة الطقوس الاحتفالية للعيد وتوظيفها سياسيًا، حيث استخدم الحكام هذه المناسبات لتقوية شرعيتهم والتقرب من الشعب. خلال العصر العثماني (1517-1798م)، حرص الولاة العثمانيون على تنظيم احتفالات رسمية تتخللها مواكب ضخمة تجوب شوارع القاهرة، حيث كان العيد فرصة لاستعراض قوة السلطة والتأكيد على استقرار الحكم. كما استُخدمت الأعياد لإصدار قرارات العفو عن بعض المساجين وتوزيع الرواتب الإضافية على الجنود، وهو نهج استمر حتى العصر الحديث، حيث درجت الأنظمة الحاكمة على استغلال العيد لتعزيز شعبيتها عبر تقديم الإعفاءات والعطايا الرمزية (الجبرتي، "عجائب الآثار في التراجم والأخبار").
برزت خلال هذه العصور بعض العادات التي صارت أيقونية في الاحتفال بعيد الفطر، مثل إعداد "كعك العيد"، وهو تقليد يعود إلى العصر الفاطمي، حيث كانت الدولة تشرف على توزيعه على العامة، وكانت تُنقش عليه عبارات مثل "كل واشكر". كما أن الخروج إلى الصلاة في الساحات العامة ظل سمة أساسية للعيد منذ العصر الإسلامي المبكر، لكنه اكتسب أبعادًا سياسية في بعض الفترات، إذ كانت ساحات العيد مكانًا لإظهار الولاء للحاكم عبر الخطابات الرسمية والمواكب الاحتفالية (المقريزي، "المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار"). أما إعطاء العيدية، فيعود أصلها إلى العصر المملوكي، حيث كان السلاطين يوزعون النقود والهدايا على الجنود وكبار المسؤولين، قبل أن تتحول العيدية إلى عادة اجتماعية متوارثة بين الأسر، تعبيرًا عن الفرح والتواصل بين الأجيال (ابن تغري بردي، "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة").
ومع دخول مصر العصر الحديث، شهدت احتفالات العيد تحولات كبيرة متأثرة بالتغيرات الاقتصادية والاجتماعية. في عهد محمد علي باشا (1805-1848م)، أصبحت الاحتفالات أكثر تنظيمًا، مع إصدار قرارات خاصة بالعطلات الرسمية والمواكب السلطانية. ومع انتشار وسائل الإعلام في القرن العشرين، أصبح العيد مناسبة لترويج الخطابات السياسية، حيث استُخدمت الإذاعة والتلفزيون في بث خطب القادة وتحياتهم للمواطنين، كما ازدادت المظاهر التجارية المرتبطة بالعيد، مثل بيع الملابس الجديدة والحلويات، مما جعل العيد يتحول تدريجيًا من مناسبة دينية ذات طابع اجتماعي إلى موسم اقتصادي وثقافي واسع التأثير (رشيد، "التغيرات الاجتماعية في مصر الحديثة").
لطالما استغلت الأنظمة السياسية في مصر عيد الفطر لتعزيز شرعيتها أمام الشعب، حيث تحولت هذه المناسبة الدينية إلى فرصة لإظهار قرب السلطة من المواطنين وترسيخ مفهوم "الحاكم الأبوي". فمنذ العصر المملوكي، كان السلاطين يستغلون العيد لإقامة الاحتفالات الضخمة، والتي تضمنت توزيع الأموال والهدايا على العامة، في محاولة لضمان ولاء الشعب وإظهار سخاء الدولة (ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور). ومع دخول العصر الحديث، استخدمت الدولة العيد كأداة لخلق حالة من التوافق الوطني، فعلى سبيل المثال، كان الملك فؤاد والملك فاروق يحرصان على حضور صلاة العيد وسط الجماهير، والتقاط الصور أثناء توزيع العيديات على الأيتام، وهو نهج استمر لاحقًا مع الرؤساء المصريين في فترات الجمهورية (الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار).
من أبرز ممارسات الدولة في توظيف العيد سياسيًا تنظيم مواكب العيد الرسمية، والتي بدأت منذ العصور الفاطمية واستمرت بأشكال مختلفة حتى اليوم. في العصر العثماني، كان والي مصر يخرج في موكب رسمي بعد صلاة العيد، ترافقه شخصيات الدولة وأمراء الجيش، كإشارة إلى استقرار السلطة وإظهار قوتها أمام العامة (المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار). أما في العصر الحديث، فقد تحولت هذه المواكب إلى زيارات رسمية للمؤسسات الاجتماعية ودور الأيتام والمستشفيات، حيث يسعى القادة إلى تقديم أنفسهم على أنهم قريبون من الشعب، وهي ممارسة واضحة في احتفالات العيد التي تواكبها التغطية الإعلامية المكثفة.
كما يُعدّ الإفراج عن المساجين في العيد أحد أهم الإشارات الرمزية التي تستخدمها السلطة السياسية لإظهار التسامح والقوة في آنٍ واحد. هذه العادة ترجع جذورها إلى العصر الإسلامي المبكر، لكنها أصبحت ممارسة ثابتة في التاريخ المصري الحديث، حيث يصدر رئيس الجمهورية قرارات بالعفو عن بعض المسجونين بمناسبة العيد، خاصة في القضايا ذات الطابع غير السياسي. هذه الخطوة تُستخدم لتعزيز صورة النظام كجهة رحيمة، في محاولة لكسب تأييد فئات اجتماعية مختلفة (رشيد، السياسة والمجتمع في مصر الحديثة). إضافة إلى ذلك، فإن هذه القرارات غالبًا ما تُوظف سياسيًا، حيث تُستخدم لتهدئة الأوضاع الداخلية في فترات التوتر السياسي.
أما الإعلام الرسمي، فقد لعب دورًا محوريًا في إبراز صورة الحاكم القريب من الناس خلال العيد. فمنذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر، أصبحت التهاني الرئاسية وبث خطب العيد عبر الإذاعة والتلفزيون تقليدًا ثابتًا، حيث ظهر عبد الناصر أكثر من مرة وهو يؤدي صلاة العيد وسط المواطنين، في رسالة رمزية إلى بساطة الحاكم وانتمائه للشعب. استمر هذا النهج في عهد السادات ومبارك، حيث ركزت وسائل الإعلام على تصوير زيارات المسؤولين لدور الأيتام والمستشفيات، في محاولة لإظهار تلاحم الدولة مع الفئات الأكثر احتياجًا (حسين أمين، الإعلام والسلطة في مصر). وفي العصر الرقمي، باتت وسائل التواصل الاجتماعي تلعب دورًا في إعادة إنتاج هذه الصورة، من خلال نشر صور القادة وهم يؤدون صلاة العيد، أو يهنئون الشعب عبر المنصات الإلكترونية، مما يعكس استمرار استخدام العيد كأداة للترويج السياسي.
تختلف مظاهر الاحتفال بعيد الفطر في مصر بين الريف والحضر، حيث لا تزال القرى تحتفظ بالكثير من العادات التقليدية التي تراجعت في المدن الكبرى. في الريف، يستمر التركيز على التجمعات العائلية الممتدة، وصلاة العيد في الساحات المفتوحة، وتحضير الأطعمة المنزلية مثل الفطير والمخبوزات التقليدية، بينما في المدن أصبح العيد أكثر فردية واستهلاكية، حيث يفضل الكثيرون قضاء العطلة في المولات التجارية أو السفر إلى المنتجعات الساحلية (غالي، التغيرات الاجتماعية في مصر المعاصرة). كما أن الأعياد في الريف لا تزال تحمل بعدًا مجتمعيًا قويًا، حيث تكثر الزيارات بين الجيران، ويتمسك الأهالي بتقاليد مثل زيارة المقابر صباح العيد، وهي طقوس تراجعت في المدن مع تسارع نمط الحياة الحديثة.
أثرت العولمة ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل ملحوظ على شكل الاحتفال بالعيد في مصر، حيث تحولت بعض العادات التقليدية إلى ممارسات رقمية. على سبيل المثال، حلت التهاني الإلكترونية ورسائل "واتساب" و"فيسبوك" محل الزيارات العائلية التقليدية، وأصبح تقديم العيديات يتم أحيانًا عبر التحويلات البنكية أو التطبيقات المالية بدلًا من تبادل العملات الورقية، وهو ما يعكس تحول العيد إلى تجربة أكثر رقمية (Castells، The Rise of the Network Society، 1996). كما لعبت وسائل الإعلام الحديثة دورًا في تصدير أنماط احتفالية جديدة، مثل السفر للخارج خلال العيد، أو إقامة حفلات ضخمة للفنانين، مما أوجد فجوة بين الاحتفال التقليدي والممارسات العصرية التي باتت أكثر انتشارًا بين الطبقات الشابة والميسورة.
في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، تأثر الاحتفال بالعيد في مصر بشكل واضح، حيث أدى ارتفاع الأسعار إلى تقليص الإنفاق على الملابس الجديدة، والحلوى، والخروجات العائلية، وهو ما انعكس على طقوس العيد التقليدية. تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء يشير إلى أن متوسط إنفاق الأسرة المصرية على الكعك وحلويات العيد انخفض بنسبة 30% في السنوات الأخيرة، بسبب ارتفاع تكلفة المواد الخام (التعبئة والإحصاء، تقرير 2024). كما أن ارتفاع أسعار وسائل الترفيه مثل السينما والملاهي جعل الكثير من الأسر تعتمد على الأنشطة الأقل تكلفة، مثل زيارة الحدائق العامة أو مشاهدة الأفلام في المنزل، مما غيّر شكل العيد خاصة لدى الطبقات المتوسطة والفقيرة.
في السياق السياسي، أصبح العيد ساحة للجدل حول دور الدولة في دعم المواطن في ظل الأزمة الاقتصادية. فبينما تُعلن الحكومة عن إجراءات مثل زيادة المرتبات أو تقديم معونات محدودة في هذه الفترة، يرى البعض أنها محاولات رمزية لا تعالج المشكلات الهيكلية في الاقتصاد (المصري اليوم، تقرير اقتصادي 2024). كما أن هناك انتقادات متزايدة لغياب الفعاليات العامة التي كانت تُنظم سابقًا خلال العيد، مثل الحفلات المجانية أو العروض في الميادين الكبرى، حيث يُنظر إلى ذلك على أنه تراجع في دور الدولة في خلق مناخ احتفالي مشترك (الشروق، مقال رأي 2023). وبينما تستمر بعض الأسر في الاحتفال رغم الضغوط، فإن الطابع الاقتصادي والسياسي للعيد بات أكثر حضورًا في النقاشات العامة، مما يعكس كيف أن هذه المناسبة لم تعد مجرد تقليد ديني واجتماعي، بل صارت مرآة للتحولات العميقة التي تمر بها مصر.
على مدار التاريخ، لم يكن العيد مجرد مناسبة دينية واجتماعية، بل تحوّل في بعض الفترات إلى ساحة لإظهار الاحتجاجات والتعبير عن التحولات السياسية، خاصة بعد الثورات أو التغيرات الكبرى في الحكم. في مصر، شهد عيد الفطر بعد ثورة 1919 احتفالات ممزوجة بروح الثورة، حيث خرجت المسيرات الاحتفالية حاملة صور سعد زغلول والهتافات ضد الاحتلال البريطاني، ما جعل العيد يتجاوز كونه مناسبة دينية ليصبح لحظة وطنية جامعة (طه، الحركات الوطنية في مصر الحديثة). بعد ثورة 25 يناير 2011، أخذ العيد بعدًا سياسيًا جديدًا، حيث تحوّلت صلاة العيد في بعض الساحات إلى تجمعات سياسية، رُفعت فيها لافتات تطالب باستكمال الثورة، كما استخدمت بعض القوى السياسية العيد كفرصة لإعادة الحشد الجماهيري (السيد، الثورات العربية: ديناميات التغيير).
لطالما كان العيد موسمًا لعودة الخطابات الوطنية والدينية، حيث تستغل الأنظمة الحاكمة ورجال الدين هذه المناسبة لتوجيه رسائل ذات طابع سياسي أو اجتماعي. في العصور الإسلامية المبكرة، كانت خطب العيد تحمل مضامين تعبوية تدعو للجهاد أو الطاعة للحاكم (المقريزي، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار). ومع تطور الدولة الحديثة، أصبح العيد فرصة لبث خطاب الوحدة الوطنية، ففي عهد الرئيس جمال عبد الناصر، كانت خطب العيد تركز على القومية العربية والصراع مع إسرائيل، بينما استخدم الرئيس السادات خطب العيد للترويج لسياساته، خاصة بعد انتصار أكتوبر 1973 (هيكل، سنوات الغليان). حتى اليوم، تستمر هذه الممارسة، حيث يُستخدم العيد لتوجيه رسائل سياسية، سواء عبر الخطب الرسمية أو البرامج الإعلامية، لتعزيز صورة السلطة وتعميق الشعور بالانتماء الوطني.
من جهة أخرى، أدركت القوى السياسية أهمية العيد كوسيلة لتجييش الشارع سياسيًا، خاصة جماعة الإخوان المسلمين التي استغلّت هذه المناسبة لحشد أنصارها وإظهار قوتها. ففي فترة حكم الجماعة لمصر (2012-2013)، نظّمت صلاة العيد في ميادين رئيسية مثل "رابعة العدوية"، حيث رُفعت شعارات دعم الرئيس محمد مرسي، ما أعطى العيد بُعدًا سياسيًا غير مسبوق (عز الدين، الإسلاميون والسلطة في مصر). كما استخدمت الأحزاب السياسية العيد لعقد لقاءات جماهيرية، أو تقديم مساعدات للأسر الفقيرة لتعزيز شعبيتها، وهي ممارسة استمرت حتى بعد سقوط حكم الإخوان، حيث لجأت الجماعة إلى استخدام العيد كفرصة لتنظيم تظاهرات صغيرة في بعض المناطق احتجاجًا على النظام الحاكم.
أما الأنظمة السياسية، فقد تعاملت مع هذه الظاهرة إما بالقمع أو الاحتواء، حيث شهدت بعض أعياد ما بعد الثورات تواجدًا أمنيًا مكثفًا لمنع أي تحركات احتجاجية. في عيد الفطر 2013، وبعد فضّ اعتصامي رابعة والنهضة، حاول أنصار الإخوان استغلال صلاة العيد لإعادة التظاهر، ما أدى إلى مواجهات أمنية في بعض المحافظات (الأهرام، تقرير عيد الفطر 2013). على الجانب الآخر، استخدمت الدولة العيد لإعادة توجيه المشهد السياسي، عبر بثّ مشاهد الاحتفالات الرسمية، وتنظيم فعاليات وطنية تهدف إلى تعزيز سردية الاستقرار، وهو ما يعكس كيف أن العيد لم يعد مجرد طقس ديني، بل أداة ضمن توازنات القوى في المجال العام المصري.
مع تصاعد الأزمات الاقتصادية، باتت قدرة المصريين على الاحتفال بالعيد كما كان سابقًا تتعرض لتحديات متزايدة. فالارتفاع المستمر في الأسعار أدى إلى تراجع مظاهر البذخ التي كانت تميز العيد، مثل شراء الملابس الجديدة، وصناعة كعك العيد في المنازل، والتنزه العائلي في الأماكن العامة. وفقًا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2024)، فإن نسبة الإنفاق الأسري على مستلزمات العيد تراجعت بنسبة 25% مقارنة بالسنوات الماضية، ما يعكس ضغوطًا اقتصادية متزايدة تدفع الأسر إلى تقليص احتفالاتها (التعبئة والإحصاء، تقرير 2024). هذا التحول الاقتصادي لا يؤثر فقط على العادات، بل أيضًا على الشعور العام ببهجة العيد، حيث بات يُنظر إليه لدى بعض الفئات كعبء مالي أكثر من كونه مناسبة احتفالية.
ورغم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية، فإن بعض العادات الأصيلة لا تزال صامدة في مواجهة التحولات الحديثة، مما يطرح التساؤل حول ما إذا كان العيد يفقد معناه التقليدي أم يتطور بشكل مختلف. العيدية، صلاة العيد، وزيارات الأقارب لا تزال قائمة، حتى لو تغيرت أشكال ممارستها. على سبيل المثال، في ظل الغلاء، لجأت بعض الأسر إلى استبدال الكعك الفاخر بالحلويات البسيطة، أو تقليل قيمة العيديات للأطفال، لكن المبدأ ذاته لم يختفِ (الشافعي، التحولات الثقافية في المجتمع المصري). ورغم انخفاض عدد الزيارات العائلية بسبب تسارع نمط الحياة، فإن المصريين لا يزالون يحرصون على لمّ الشمل خلال العيد، وإن كان ذلك عبر مكالمات الفيديو أو الرسائل النصية، مما يعكس قدرة التقاليد على التكيف مع التغيرات.
لكن في المقابل، هناك مؤشرات على أن العيد أصبح يتحول تدريجيًا إلى "موسم اقتصادي" أكثر من كونه ظاهرة اجتماعية. فمع توسع ثقافة الاستهلاك، باتت الشركات تستغل العيد كفرصة لزيادة المبيعات، من خلال حملات إعلانية مكثفة، وعروض خاصة على الملابس والحلويات والترفيه. وأصبح التركيز على الجانب الاستهلاكي للعيد، مثل التسوق والسفر، أكثر وضوحًا في المدن الكبرى، حيث تنتعش الأسواق والمولات التجارية خلال الأيام السابقة للعيد، مما يجعل الاحتفال بالمناسبة مرتبطًا بالقدرة الشرائية أكثر من ارتباطه بالروح الاجتماعية والتقليدية للعيد (Castells، The Rise of the Network Society، 1996).
في هذا السياق، لعب الإعلام الجديد دورًا رئيسيًا في إعادة صياغة صورة العيد، وتحويله من مناسبة روحية واجتماعية إلى منتج استهلاكي. وسائل التواصل الاجتماعي غيّرت طريقة تفاعل الناس مع العيد، حيث أصبح التركيز على نشر صور الاحتفال أكثر من معايشته فعليًا. فبدلًا من التجمعات العائلية الكبيرة، بات البعض يهتم بإظهار تجربته الشخصية في العيد عبر "إنستغرام" و"فيسبوك"، مما يعزز النزعة الفردية في الاحتفال (المصري اليوم، تقرير 2023). كما أن انتشار الإعلانات الرقمية والمحتوى الترويجي جعل العيد يُختزل أحيانًا في صورة عروض تسوق وسفر، بدلًا من كونه فرصة لتعزيز الروابط الاجتماعية، مما يثير التساؤل حول مستقبل العيد في ظل هذه التغيرات.