23 ديسمبر، 2024
بغداد/المسلة: كتب ابراهيم العبادي:
في عام 1991 كتب الراحل محمد حسنين هيكل كتابه ،اوهام القوة والنصر ،عن ازمة الخليج الثانية (احتلال صدام للكويت )،في هذا الكتاب الذي تعرض -كسائر كتب هيكل الاخرى -لنقد واتهامات للكاتب ،حاول هيكل ان يفند فكرة صناعة التاريخ وتغيير الخرائط الجيوسياسية عبر القوة وادواتها وترسيخ النصر العسكري كحقيقة تصنع واقعا جديدا .
أوهام القوة مرض عالمي ،عمره عمر الدول والامبراطوريات والقوى التي تحاربت ورسمت باسلحتها وعقول قادتها ، ملامح وحدود الدول والنظم السياسية والوحدات الجغرافية .
منطقة الشرق الاوسط اخذت حيزا كبيرا من صفحات ديوان الحروب والصراعات والفتن الداخلية والحروب الاهلية ،فلا يكاد تمر بضعة سنوات دونما حرب كبيرة أو نزاع دام أو صراع مزمن لدواعي مختلفة،يكون ضحاياه الالاف من البشر بل الملايين ،وخسائر لاتحصى من الفرص الضائعة والامكانات المهدورة .
قديما قيل ان الامم تتحارب بسبب البحث عن المكانة والشرف والرغبة في التوسع وشهوة المجد والرغبة في توكيد الشرعية ،حديثا صارت الحروب تنطلق بسبب المخاوف من الاخضاع والهيمنة والتضييق على المجال الحيوي والبحث عن الموارد والامدادات ، والمنافسة على الزعامة الدولية او الاقليمية .
ما من حرب اندلعت الا وكان اختلال ميزان القوى الواقعي او الافتراضي احد اهم الاسباب المحركة لتلك الحرب، في اذهان القادة وصناع السياسات وواضعي الستراتيجيات . كان الشرق الاوسط ومايزال المثال النموذجي للنطاق الجغرافي الذي يعج بسياسات الحرب التي يشنها حكام وقادة جماعات بناء على معطيات ومعلومات وخطط ناقصة واوهام قوة لايعززها الواقع ويفندها الميدان غالبا .
في اوائل القرن العشرين دخلت الدولة العثمانية الحرب الى جانب المانيا ضد دول الحلفاء ،دونما حسابات واقعية لميزان القوى ،فكانت النتيجة سقوط التاج العثماني واقتسام التركة بين المنتصرين ،عام 1967 توهم جمال عبدالناصر ان قوة مصر كافية لردع الكيان الاسرائيلي وانه قادر على انتزاع نصر تكتيكي بالتلويح بالضغط العسكري
وسحب قوة السلام الدولية من سيناء ،فتفاجأ بضربة اسرائيلية حطمت الكبرياء القومي وانزلت صدمة وخسارة فادحة بالعرب لم يستعيدوا بعدها توازنهم واراضيهم حتى اليوم .
عام 1980 توهم صدام حسين ان قوته العسكرية المتعاظمة وتراجع قوة ايران العسكرية -بسبب الثورة ومضاعفاتها الداخلية ، وارتداداتها على موقع ايران الجيوسياسي – سيتوجانه بطلا قوميا وزعيما اقليميا قادرا على ان يقود المنطقة وفقا لطموحاته ،كان سوء التخطيط والتقدير وعدم المعرفة الكافية بقوة الخصم المادية والبشرية سببا كافيا لتشكل الحرب كابوسا مدمرا قاد الى سلسلة اخطاء وكوارث متلاحقة بما فيها غزو الكويت ،كان صدام يتوهم عدم قدرة الغرب ودول الاقليم على اخراجه من الكويت او الحاق اذى كبير بالعراق ،بل ذهب بعيدا في منطق القوة المتوهمة عندما ادعى في مؤتمر صحافي انه قادر على حرق نصف اسرائيل بصواريخه !!!؟، بعد اندلاع الحرب وهزيمة العراق ،لم تجر محاسبة او مراجعة للاوهام والخطط والسياسات الغبية لان صاحب القرار هو رأس النظام نفسه ،وذهب النظام الى البحث عن اكباش فداء من بين قادة الجيش يحملهم مسؤولية الهزيمة والفشل !!!؟.
لم يتعلم احد في المنطقة من دروس الهزائم والانتصارات وظلت مقولة النصر الحتمي تداعب مخيلة الزعامات الصغيرة والكبيرة ،اضاف اليها البعض امتيازا اخرا هو شرعية الموقف والنهج الاسلامي والثقة المفرطة بحقانية السياسات والستراتيجيات والتعويل على عوامل غير محسوبة ومعلومات ناقصة او مضخمة عن الذات والعدو .
من اكبر المشكلات التي تساهم في صناعة الوهم هو الانفصال عن الواقع ،بالمغالاة في قوة الذات وضعف الخصم ،وذلك ناشيء من وجود حلقات من الذين يقدمون معلومات غير واقعية ويتجاوزون الواقع الموضوعي ويزيفون الصورة الواقعية واستبدالها بصور متخيلة في غياب مناقشات جادة ونقد موضوعي وحسابات صارمة ،لايمكن الدخول في حرب وانت لم تحسب قوة الخصم حسابا موضوعيا ثم تعوض الضعف بعوامل الايمان والتوكل على الله ،قد تكون معذورا في الحرب المباغتة التي يهاجمك فيها العدو وانت في موقع الدفاع ،لكن النصر الالهي ليس حتميا في كل الاحوال ،فذلك خاضع لسنن الباري تعالى وتحقق شروط النصر من عدمها .
العامل الثاني في توهم القوة والثقة بالنصر ،هو الاعلام الموجه والدعاية المركزة التي تصنع وعيا زائفا بحتمية النصر وامتلاك القوة ،بما يساهم في الترويج لصور مثالية وثقة مفرطة غير واقعية (لمن يعجبه مقايسات التاريخ ،ليتذكر هزيمة المسلمين في معركة حنين رغم الكثرة الكاثرة ،((ويوم حنين اذ اعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم ….)).
يساهم التفكير الرغبوي والتنبؤات والاحلام في صناعة الاوهام فيقع القادة ضحية التفاؤل المفرط والاعتقاد بان الامور ستسير كما يتمنون ،بغض النظر عن الحقائق على الارض ،
ان الشعور الزائف بالقوة والتقليل من امكانات وقدرات العدو وتفوقه ياتي بسبب الضغط السياسي والشعبي الناتج بدوره من الرغبة في اتخاذ قرارات جريئة لاثبات الجدارة والاهلية ،وتجنب الظهور بمظهر الضعيف ،ان اوهام القوة والنصر نتاج عوامل نفسية -اجتماعية -سياسية تعززها معطيات مادية قد يكون بينها انصاف خبراء وثوار متحمسون ،ونزعات متطرفة ،ومستشارون تنقصهم الامانة والشجاعة في قول الحقيقة ،وقد يكون الجميع اتباع ايديولوجية ليس في حساباتها مقاربة الواقع واشتراطاته
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts
المصدر: المسلة
إقرأ أيضاً:
اقْتِصَادَات الحَل العَسْكَري المُتَوَهَّم
اقْتِصَادَات الحَل العَسْكَري المُتَوَهَّم
The Economics of a Delusional Military Solution
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
مع دخول الصراع في السودان عامه الثالث وتمسك طرفي الحرب بالحل العسكري الوهمي، بات من الضروري تفكيك البُعد الاقتصادي لهذا الحل بالنسبة لكل طرف، وفهم تأثيره على فرص السلام، وعلى مستقبل الحراك المدني وقواه السياسية. وتشير الدلائل إلى أن كلا حكومتي بورتسودان المزمعتين (البرهان وحلفاؤه) ونيروبي (حميدتي وحلفاؤه) تواجهان مآلات اقتصادية خانقة، حال نجاح أحدهما افتراضاً في تحقيق انتصار عسكري عسير المنال. ذلك أن المُنْقَلَب المُنتظَر لا ينحصر فقط في نتيجة الحرب، بل يتعدى ذلك ليشمل فقدان الشرعية، والعقوبات الدولية، وضعف الإيرادات، وانهيار القطاعات الإنتاجية.
فبالنسبة للمحددات الاقتصادية التي المتعلقة بافتراض انتصار عسكري للجيش، فسوف يواجه تحالفه الاعتماد على ميزانية عامة منهارة قوامها نذر يسير من الموارد الرسمية المحدودة المحصورة في عائدات الموانئ والضرائب والشركات العسكرية. حيث إن إنتاج الذهب لا يُدار بكفاءة بسبب ضعف الرقابة والفساد. وذلك فضلاً عن الدمار الشامل الذي خلفه الانتصار العسكري في ولاية الخرطوم يعني فقدان أهم المراكز الاقتصادية الرئيسية والضرائب المرتبطة بها لعدة سنوات. ومن ناحية أخرى فإن الانتصار العسكري لن يتأتى إلا بتبعات مالية طائلة ممثلة في تمويل الجيش والمستنفرَين واستيراد الأسلحة والمعدات، مما يشكل عبئاً ثقيلاً على الموارد الشحيحة، وربما يجُر التزامات خارجية تؤثر سلباً على استقلالية المسار. كما أن الجيش سيواجه أزمة حادة في توفير الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والخدمات الصحيّة والبنية التحتية شبه المنهارة، مما يؤثر على جوهريّاً على النشاط الاقتصادي. ويعزز كلَّ هذه الضغوط الاقتصادية بفقدان الدعم الدولي، حيث إن المؤسسات المالية الدولية لا تعترف بحكومة بورتسودان الداعمة للجيش، مما يحرمها من القروض والاستثمارات. كما أن العقوبات الغربية المفروضة تعيق قدرة الحكومة على الوصول إلى أصول الدولة السودانية المجمدة في الخارج. أما من حيث التجارة الداخلية والخارجية، فإن الحل العسكري بافتراض انتصار الجيش سيخلف فقدان السودان للسوق المحلي والخارجي بسبب تبعات الحرب وانعدام الأمن، فضلاً عن تراجع الإنتاج الزراعي والصناعي المؤدي إلى انخفاض الصادرات وزيادة أسعار السلع، خاصة أزمة الوقود وارتفاع تكاليف النقل المعوقة لحركة التجارة.
وبافتراض تحقيق انتصار عسكري للدعم السريع وحلفائه، فإنه سوف يواجَه بالاعتماد على اقتصاد (مافيوي) موازٍ قائم على تهريب الذهب، والنهب، والابتزاز، وربما يتلقى دعماً سريَّاً خارجيَّاً، إضافة إلى شبكات تهريب إقليمية. بيد أنه ربما لا يواجه بتحمل تكاليف لوجستية لقواته لان أغلبها تُموَّل نفسها ذاتيَّاً (لا مركزيَّاً) من موارد السيطرة الجغرافية. ويفاقم من حدة هذه المآلات الاقتصادية العزلة الاقتصادية الدولية، فالدعم السريع لا يحظى باعتراف دولي، مما يمنعه من الحصول على تمويل دولي أو استثمارات ذات مصداقية. وذلك فضلاً عن أن التعاملات المالية الخارجية للدعم السريع وحلفائه تحفها مصاعب جمّة بسبب العقوبات الدولية على شبكاته المالية. ونظراً لمحدوديّة خبرة الدعم السريع في إدارة الدولة فسيواجَه بصعوبات كبيرة في توفير الخدمات في كافة أنحاء السودان بسبب ضعف الموارد والكوادر، وانعدام البنية التحتية مما يجعل نقل الإمدادات والبضائع صعباً ومكلفاً. ومن ناحية أخرى ستواجِه الدعم السريع وحلفاءه تحديات كأداء في التحكم في الاقتصاد المحلي بسبب معاناة معظم الأسواق من الفوضى الأمنية وغياب مؤسسات الدولة، مما يحد من أي نشاط اقتصادي منظم.
أما بالنسبة للتحديات المشتركة التي ستواجه طرفي الحرب من خيار الحسم العسكري فإنهما يشتركان في مواجهة تحديات لا قبل لهما بها تشمل، فيما تشمل، انهيار قيمة الجنيه السوداني بتواصل فقدانه قدراً كبيراً من قيمته بسبب الحرب وصل إلى نحو 350%، مما يؤدي للتضخم الجامح الذي يؤجج السخط الشعبي عليهما. وتجدر الإشارة إلى ارتفاع معدلات التضخم بعد عامين من الحرب لأكثر من 400%، ووصلت نسبة البطالة إلى نحو 50%، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي بـنحو 41%، وانخفضت الإيرادات العامة بنسبة تصل إلى 75%، حيث يقدر تراجع الجهد الضريبي إلى نحو 2% مقارناً بنحو 5% قبل اندلاع الحرب. كما أن انعدام الأمن وانتشار السلاح سيلقي بآثار سالبة على الاقتصاد تؤدي لهروب المستثمرين وانهيار القطاعات الإنتاجية، خاصة قطاع الزراعة المتضرر أصلاً من النزوح وانعدام الأمن، مما يؤدي لتفاقم انعدام الأمن الغذائي. كما أن الحسم العسكري سيقود كليهما لغياب النظام المصرفي الفعال نظراً للنهب والدمار الذي لحق بالبنوك مما يحصر معظم التحويلات المالية في السوق السوداء ويعيق التجارة والاستثمارات. كما أن الشركاء التجاريين للسودان سيحجمون عن التعامل مع أي من الطرفين بسبب الغموض السياسي والتردي الاقتصادي. وستؤدي كل هذه التحديات لفقدان الثقة الشعبية في طرفي الحرب بتجلي اهتمامهما بالبقاء في السلطة أكثر من إصلاح الاقتصاد. وسيشكل تدمير البنى التحتية إحدى التحديات الكأداء التي تواجه الطرف المنتصر عسكرياً حيث انهارت شبكات الكهرباء، المياه، الطرق، المدارس، والمستشفيات، إضافة إلى انهيار مؤسسات الدولة التنفيذية والمالية، ما يصعب إعادة تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين. ومن ناحية أخرى فأي طرف ينتصر عسكرياً سيواجه ديوناً خارجية ضخمة تتجاوز 62 مليار دولار، معظمها متراكم من فوائد التأخير، مما يعقد أي جهود مستقبلية لإعادة الإعمار أو التنمية ويجعل إدارة الديون تحدياً مركزياً لأي حكومة منتصرة عسكرياً. ولا شك فإن الانتصار العسكري سيورث من يحققه كارثة إنسانية غير مسبوقة بسبب النزوح الجماعي للسكان، ونقص الغذاء والمياه والأدوية، وتفاقم الأوضاع الصحية، مما يتطلب استجابة عاجلة وموارد ضخمة غير متوفرة لإعادة الاستقرار المجتمعي. وفوق كل ذلك فإن الطرف المنتصر عسكرياً سيواجه بعزلة ومقاطعة دولية تفاقم ضعف الثقة المحلية والدولية بسبب تواصل الحكم العسكري وغياب حكومة مدنية موحدة مما يؤدي لحرمان السودان من الدعم المالي والمنح والقروض الدولية الضرورية لتخفيف الديون وإعادة الإعمار. ويُرجَِّح أن يؤدي ذلك إلى انفجار الاضطرابات الأمنية والسياسية التي ربما تجعل استمرار الطرف المنتصر حاكماً للسودان صعب التحقيق.
تشير هذه المآلات الاقتصادية القاتمة الناتجة عن الانتصار الافتراضي لأي من طرفي الحرب في إطار الحل العسكري إلى حتمية اللجوء لخيار الحل التفاوضي. ذلك أن اقتصادات كسر العظم لإنهاء الحرب الكارثية في السودان تبرز ضرورة اللجوء للحل السياسي كسيناريو أقل تكلفة وأكثر واقعية اقتصادية لجميع الأطراف، وفوقهم كلهم أقل تكلفة للشعب السوداني الذي دخلت معاناته من ويلات هذه الحرب الفاجرة عامها الثالث. حيث إن اختيار طرفي الحرب لوسيلة إنهائها يجب ألا ينحصر فقط في الموازين العسكرية الوهميَّة، بل يجب أن يُبنَى الخيار على حسابات اقتصادية دقيقة تتعلق بالخسائر والمكاسب واستدامة النتائج. وعليه يتحتم على الجيش والدعم السريع وكذلك القوى المدنية فهم أبعاد الاقتصاد السياسي لمآلات الحرب، وما يوفره الاقتصاد السياسي من فرص، أو يلحقه من ضرر قبل الاندفاع الاشتهائي نحو الحل العسكري المُتَوَهَّم الذي يعود عليهما وعلى الشعب السوداني بمآلات وَبِيلة.
melshibly@hotmail.com