خالد فضل
ليسمح لي د. فرانسيس دينق في استخدام عبارته من لغة أهلنا دينكا نقوك التي أوردها في كلمته الرصينة وفاءا لحق أستاذه وزميله الراحل بروفسير محمد إبراهيم خليل قبل ايام , وبالفعل فإنّ المرء ليأسى حقا عند رحيل أؤلئك النفر الكرام من السودانيين/ات الذين شكّلوا أحد الدعائم الأساسية في مسيرة حياة هذا الشعب الذي ما يزال يكابد لتحقيق أدنى مقومات البقاء على قيد الحياة ؛ حفظ الارواح نفسها .

ولعل شهادة قيّمة ممن هم في قامة فرانسيس دينق تعتبر في حد ذاتها قبس من الوعي والتنوير التي تزداد حاجتنا إليها في أوقات العطب الإنساني/الوطني الراهن فهي ليست شهادة عاطفية في لحظة الفقد إنّما خبرة حياة بذلها الراحل في سبيل الغايات النبيلة التي يهفو إليها أغلبية أبناء وبنات شعبه , عرضها صديقه وزميله بإسلوبه البديع ولغته الحيّة وسرديته الروائية المبدعة . للبروف الراحل محمد إبراهيم خليل واسع الرحمات والعزاء لأسرته ولكل من عرف مقامه وفضله . بيد أنّني هنا استلف عبارته من لغة الدينكا (كُووج إيْ نُومْ) ومعناها إيقاف الرأس في وضع مستقيم , ودلالاتها الروحية (لا نحزن على شخص ترك وراءه أطفالا ليستمر اسمه وتأثيره في هذا العالم )
فقد فُجع آلاف السودانيين/ات في شطري البلد الكبير شمالا وجنوبا بالرحيل المفاجئ لدينق قوج مما كان وقعه قاسيا على القلوب والمشاعر , ولعل محجوب شريف قد عبّر عن الذهول في يابا مع السلامة لروح عبدالكريم ميرغني عليهم جميعا رحمات الله :
يا موت لو تركتو مننا قد سرقتو
كنا نقول ده وقتو لكنك حقيقة
في الواقع عبّر الجميع عن الجميع فيما كتبوه عن دينق قوج , فما من سطر خُطّ أو كلمة قيلت وفاء له إلا وكانت هي لسان الآخرين ولو جاءت بعبارة أخرى , هنا يستوقفني قول فرانسيس عن الإنسان الذي يموت ورأسه في وضع مستقيم . إنّ دينق قد خلّف آلاف الأبناء بهذا المعنى لهذا ضمن خلود اسمه وتأثيره في هذا العالم , فكل كلمة ؛ ولابدّ أنّها صادقة قيلت عنه هي مولود يحيا ويؤثر في الحياة , وليس بالضرورة الأولاد البيولوجيين الذين رُزق بهم فحسب . وهذه مأثرة وميزة لا يحوزها كثيرون , فكم من راحل لم يأبه بفقده أحد .وكم من يسعد بعض الناس برحيله . ومن السيئ أن يعمد بعض ذوي السلطة والنفوذ إلى حجب الناس ومنعهم من التعبير عن الفقد على أضيق نطاق , فقد حدث منع إقامة سرادق العزاء للراحل د. خليل إبراهيم في منزل عائلته بحي السلمة جنوب الخرطوم بسبب أنّ المرحوم كان على خصومة مع السلطة الإسلامية الحاكمة وقتذاك . مع الأسف تكرر هذا الموقف مرّة أخرى قبل أيام , حسبما قرأت في أحد المواقع السودانية _إنْ صحّ الخبر_ أنّ عناصر من قوات الدعم السريع قد منعت إقامة سرادق عزاء لأحد الضباط في القوات المسلحة السودانية من منطقة تُلس بجنوب دارفور كان قد قُتل في معارك الفاشر . أمّا الأسوأ مطلقا و هذه مرحلة سحيقة من مراحل فقدان الحس الإنساني على كل حال أنْ يتم التمثيل بالجثث بعد قتلها ذبحا أو بالرصاص مثلما وقع من مشاهد مقززة من كلا الجانبين في محرقة السودان الراهنة , فيما كان دينق قوج يفتح داره ويوفر ما يستطيعه ليس للفارين من الحرب فحسب بل حتى قطعان المواشي يتعهد بضمان سلامتها في منطقة الرنك .
فقد اثبت عمليا قيمة الفرد عندما يرتقي كإنسان , وكم تهفو النفوس السوية إلى الكمال الإنساني , ويكدح الفرد الحر المستنير إلى ذلك المقام عساه يبلغ منه درجات , لذلك يبدو رحيله كحضور قوي وآسر وفعّال أكثر منه غياب . أذكر أنّ الأب الراحل جون فراشيني (إيطالي الجنسية كان قسيسا ضمن بعثة كمبوني ) قد ألقى ما يعرف بوعظ الأحد أمام جمع من المصلين في إحدى الكنائس بأم درمان ؛ كان موضوعها عن فكرة الموت , تمّ بثها مسجلة في عزاء قصير أقامته مدرسة كمبوني الخرطوم حينها , قال ما معناه : إنّ الناس هنا تحزن وهي تردد , أبونا كان معانا قبل شوية , كنت اسمعه يتحدث قبل قليل .. إلخ في الحقيقة انتقلت الروح إلى الحياة الأبدية بجوار الأب , هل ألحياة وسطكم أفضل أم الحياة بجواره ؟ أليس كل ما نرجوه بعد موتنا أن تسكن أرواحنا بسلام وأمان إلى جواره ؟ فلا تبكوا أو تحزنوا إذا حضرتم الإسبوع القادم وقالوا لكم أبونا جون مات ..لقد كانت مصادفة ذات مغزى في تقديري أنّ ذلك الأب كان يتحدث ويضرب المثل بنفسه, ليتوفى في نفس اليوم . وبقيت كلماته تلك مؤثرة حتى الآن .
ودينق الذي يقف رأسه في وضع مستقيم ؛برزق الله , كان تأثيره متعديا لحدود ضيّقة , لقد وضح أنّه يمثل روح وطن إنساني كبير جدا , ذابت في لحظات وفاته أي سمات تميّز بين هذا أو ذاك من الناس وانهمرت المشاعر الصادقة في التعبير عن فداحة الفقد و ولعل روحه الآن ترقد بسلام في رحاب الرب الخالق الأحد , وفي مقام أفضل من أي مقام في دنيا الناس.
حضور دينق في موته جعلني أفكّر من زاوية أخرى في حجم ما يضيع على الناس نتيجة جهلهم بالآخر أو تصنيفه مسبقا بأي صفة لاحقة لجوهره كإنسان . أعني هنا مباشرة , لو أنّ دينق بكل خلاله وسجاياه التي عرفها عنه من عرفه لاحقا كان قد توفي قبل إتفاقية السلام الشامل , عندما كان أعضاء وعناصر الحركة الشعبية وربما كلّ الجنوبيين تلحقهم الدمغة المقيتة من خائن وعميل وصهيوني وكافر صليبي على مستوى الخطاب الإعلامي والرسمي , ونعوت التحقير في الثقافة الشعبية السائدة في معظم أرجاء الشمال وأواسط السودان تُرى هل كان أيّا منها ينطبق عليه حقّا ؟ الإجابة الصحيحة في تقديري , أنّ تلك الصفات الذميمة إنما مجرد هُراء والدليل أنّ دينق قوج وربما مئات الآلاف أو الملايين ممن دمغوا بها إتضح في الحقيقة أنّهم من ذوي القيم الرفيعة . فهل نفكّر الآن فيمن لا نعرف قبل دمغهم جملة واحدة بما ليس فيهم ؟ تُرى كم نظلم الآخر لمجرد جهلنا به .
إنّ الوفاء لروح دينق قوج والحرص على بقاء تأثيره مستمرا في الحياة تجعلنا أكثر تمسّكا لنشر وممارسة ما كرّس له حياته القصيرة العامرة من قيم الخير والنقاء والصدق والشهامة والوفاء , نشر روح المحبّة والتسامح ولجم خطاب الكراهية والعداء للآخر المختلف . هذا هو سبيل الشفاء مما نعانيه من شقاء .ولروح صديقنا وزميلنا الراحل صادق الدعوات بالرحمة والمغفرة , لأسرته وجميع من عرفه خالص العزاء

الوسومخالد فضل

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: خالد فضل دینق قوج

إقرأ أيضاً:

فرنسا ترصد عودة ظاهرة رحيل المتطرفين إلى سوريا

رصدت دراسة حديثة للاستخبارات الإقليمية الفرنسية ظاهرة متجددة تتمثّل في رحيل مُتشددين يحملون جنسيات فرنسية وأوروبية إلى أراضي دول إسلامية، وخاصة سوريا بعد سقوط الرئيس السابق بشار الأسد، حيث تكثر على شبكات التواصل الاجتماعي "سناب شات" وإنستغرام، مقاطع الفيديو لتشجيع الشباب المسلمين على "الهجرة".

وبينما هاجر الآلاف من المتطرفين من مختلف أنحاء العالم منذ العام 2011 إلى الأراضي السورية للقتال ضدّ القوات الحكومية، إلا أنّ ظاهرة الهجرة الجديدة تختلف، حيث تأتي من مُنطلق العودة للعيش في بلد إسلامي قد يطغى فيه الدين على الدولة.

وتساءل الكاتب والمحلل السياسي الفرنسي ويليام موليني في تحقيق له نشرته مجلة "لو جورنال دو ديمانش" الأسبوعية: هل تجتذب سوريا الإسلاميين الفرنسيين؟ ولماذا يرحل المزيد والمزيد من الإسلاميين الفرنسيين عن بلادهم التي يحملون جنسيتها؟.

[Exclusif] Hijra : pourquoi de plus en plus d’islamistes français quittent la France

???? Article JDNews : https://t.co/U5An6YagWs pic.twitter.com/tk4eZoRzdX

— Le JDD (@leJDD) January 2, 2025 "الهجرة" خديعة إخوانية!

وحذّرت أجهزة الأمن الفرنسية من أنّ ظاهرة رحيل، أو الهجرة المُعاكسة، للفرنسيين من أصول مسلمة إلى سوريا، تأتي بتحريض من تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي الذي يستخدم "الهجرة" كأداة انفصالية عن المُجتمع، ويخدع الآخرين بمصطلح "الهجرة إلى دار الإسلام"، ليغدو ذلك علامة ملحوظة في الخطاب الإخواني والأصولي، حسب "لو جورنال دو ديمانش".

ومن الواضح عبر مقاطع الفيديو المتواصلة التي تبثّها شبكات إخوانية أنّه يُطلب من المسلمين مُغادرة فرنسا، حيث يزعم دُعاة مُتشددون أنّ ممارساتهم الدينية وهويتهم مهددة. لذا يتم تشجيعهم على الانضمام إلى دولة يُشكّل فيها المجتمع المُسلم الأغلبية، وفي المقام الأول البلدان التي يندمج فيها الدين مع الدولة.

وعلى الرغم من أنّ غالبية المنشورات تدعو للهجرة إلى سوريا تحديداً، إلا أنّ هناك دعوات مماثلة تُسلّط الضوء على الرحيل إلى تركيا، على الرغم من مبدأها الدستوري العلماني. كما أنّ بعض المنشورات تُقدّم إنجلترا باعتبارها "أرض الترحيب" المُحتملة، نظراً لتساهلها تجاه الطائفية الدينية.

[INFO @LeJDNews] Les islamistes français de plus en plus séduits par la “Hijra”, utilisée comme un instrument de séparatisme par les fondamentalistes et les Frères musulmans. ⬇️ https://t.co/NxJo9WwPra

— William Molinié (@WilliamMolinie) January 2, 2025 ناقوس الخطر

ويُشكّل الاتجار بالمخدرات والنزعة الانفصالية الإسلاموية لتنظيم الإخوان الخطرين الرئيسيين على التماسك الوطني في فرنسا، بحسب رئيس المخابرات الإقليمية برتراند شامولو، الذي دقّ ناقوس الخطر من أنّ تنظيم الإخوان عاد لينشط في جميع أنحاء الأراضي الفرنسية.

وحذّر من أنّ يكون الهدف على المدى الطويل هو جعل فرنسا وأوروبا أرضاً للإسلام والتوافق مع الشريعة حيث يُمكن إعلان الخلافة في مناطق محددة. ويتبع للإخوان في فرنسا نحو 100 ألف شخص من خلال المراكز الدينية والثقافية والمُجتمعية التي يُديرونها، بالإضافة لتغلغلهم في جميع مناحي الحياة كالرياضة والصحة والتعليم وحتى في الإدارة والمؤسسات الرسمية.

ويتخذ تنظيم الإخوان الإرهابي من خطاب الضحية كأسلوب عمل منهجي يتمثّل بإدانة ما يُسمّى بالدولة المُعادية للإسلام خاصة عندما يتم إغلاق أحد المساجد التابعة لهم والتي يدعو أئمتها للعنف والجهاد. ومن هنا تأتي دعواتهم الأخيرة للرحيل إلى سوريا والعيش فيها.



قوانين الجمهورية "قمعية" للإخوان

بالمُقابل، تقول فلورنس بيرجود بلاكلر في المركز الفرنسي الوطني للبحوث العلمية إنّ الإخوان يُواجهون صعوبات جمّة للانتشار والتوسّع في دول العالم الإسلامي، حيث يتم إدراجهم هناك في قوائم الإرهابيين. أما في الغرب، فهم يتطورون دون عوائق حيث ينظر لهم البعض باعتدال، خاصة في فرنسا وبلجيكا؟ إلا أنّ التطوّرات الأخيرة في سوريا قد تدفع الكثير من العائلات المسلمة، حتى المعتدلة منها" وبتحريض من الإخوان على الهجرة إلى هناك وسط مخاوف من سيطرة التيار الإسلامي على شؤون الدولة والمُجتمع.

"Les frères musulmans ont de grosses difficultés à s'implanter dans le monde musulman car souvent listés comme terroristes. En occident ils se développent sans entrave car considérés comme modérés, de gauche, surtout en Belgique et en France." [Florence Bergeaud-Blackler] pic.twitter.com/4zsjPxtAbd

— ⛓️???? #LiberezBoualemSansal ✍️ (@IslamismeFrance) January 3, 2025

ويخلص الباحث الفرنسي جوليان تالبين، وهو عالم اجتماع في المركز الوطني للبحث العلمي، إلى أنّ قوانين الجمهورية الفرنسية، التي تحمي الحريات ولا تمنح امتيازات لأي دين معين، تُعتبر قمعية للغاية بالنسبة للإخوان. ولكي يشعروا بمزيد من "التقدير"، يُفضّل بعضهم الذهاب إلى المنفى في بلدان غير ديمقراطية، حيث الظروف الدينية والحكومية أفضل بالنسبة لهم، وقد يُمارس في دولهم الجديدة بالمُقابل التمييز ضدّ غير المسلمين.






مقالات مشابهة

  • تفاصيل وضوابط أوامر الحضور والقبض والضبط والإحضار
  • بدء امتحانات الترم الأول غدا| تعليم القاهرة: الحضور بالزي المدرسي والموبايل ممنوع
  • محمد عدوية: أبويا وصاني أبقي نفسي وأجبر بخاطر الناس | فيديو
  • الشعر الشعبي يجمع نخبة من شعراء الشعر في مسرح البحيرة بمتنزه القرم
  • شاهد.. فيل غاضب يهاجم الحضور في معبد هندي ويصيب 17 شخصا
  • يوم الثقافة المصرية في أسوان: احتفاء بالماضي وحلم بالمستقبل
  • أمير طعيمه وحسن الشافعي وأكرم حسني أبرز الحضور لـ العرض الخاص لـ كليب تيجي نسيب
  • محافظ الجيزة يراجع كشوف الحضور وانتظام إستقبال المرضى بمستشفى التحرير العام
  • موعد رحيل بيرسي تاو إلى قطر القطري
  • فرنسا ترصد عودة ظاهرة رحيل المتطرفين إلى سوريا